لماذا نسي العالم العربي قمة الكويت وأذعن الرؤساء لقبول الأمر الواقع. بقلم: البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي

 


 

 

 

teetman3@hotmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم

•    لماذا نسي العالم العربي قمة الكويت وأذعن الرؤساء لقبول الأمر الواقع

البروفيسور/ البخاري عبدالله الجعلي

في غضون أقل من إسبوعين نسي العالم العربي القمة العربية التي عقدت مؤخراً في دولة الكويت الشقيقة. ولعل من سوء طالع دولة الكويت الشقيقة وهي الرائدة أبداً أن القمة كانت مبرمجة سلفاً قبل أن تأتي الرياح على الساحة العربية بما لا تشتهيه الشعوب العربية. فالأصل أن دولة الكويت الشقيقة، بالرغم من مرارات قوية وشديدة عانت منها من قبل بعض الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية وفي مقدمتها بكل أسف بلدنا السودان، كانت وستظل الدولة ذات الخبرات الدبلوماسية العميقة والأيادي البيضاء الطويلة التي امتدت لكل الدول العربية النامية بل امتدت لكل الدول الأفريقية منذ زمن مبكر من تحقيقها لاستقلالها السياسي. ولكن وبكل أسف لقد نسيت الساحة العربية قمة الكويت في غضون أيام معدوده منذ انعقادها، ليس بتقصير من جانب الدولة المضيفة بطبيعة الحال، لأنها الدولة العربية الأكثر تأهيلاً لتضميد جراح الأمة العربية، لكن ثمة عقبات وأشواكاً بل ومفاجآت لم تكن في الحسبان قد فرضت هذا النسيان كما فرضت على الدول الأعضاء في الجامعة الإذعان بقبول الأمر الراهن على مساوئه ومخاطره. وبالتالي فإن هذا المقال يستهدف النظر في الأسباب الموضوعية لما آلت إليه قمة تعقد في دولة مثل الكويت. بطبيعة الحال هناك عقبات مزمنة مدركة سلفاً تعود لطبيعة النظام القانوني الحاكم للدول العربية ونعني به ميثاق جامعة الدول العربية. وهناك الخلافات العميقة التي ظلت قائمة بين دول هي الأهم من بين الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية يضاف إلى ذلك التطورات التي تبلورت خلال الثلاثة أشهر الماضية بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي.

وبدايةً العيب كل العيب في ما آلت إليه قمة الكويت يعود في الأساس للتنظيم القانوني لمجموعة الدول العربية تحت مظلة ما يسمى بـ (جامعة الدول العربية) وهي منظمة اقليمية سياسية ذات أهداف واسعة. وقد لا يعلم الكثيرون أن المناقشات التي جرت في 1945 بشأن انشاء جامعة الدول العربية قد تطرقت فيما تطرقت إليه امكانية تكوين (اتحاد فدرالي) Federal Union  بين الدول العربية إلا أن الذي انبثق عن تلك المناقشات كان منظمة (للصلح والتوفيق) بين دول ذات سيادة وليس أكثر من ذلك وهذه أول قصبه ضربت على ظهر البعير. ونلاحظ أن العضوية بموجب المادة الأولى من ميثاق الجامعة مفتوحة للدول العربية المستقلة التي لها الحق في (الإنضمام) Adhering للجامعة. لكن العضوية اللاحقة لكل من ليبيا والسودان والمغرب وتونس والبحرين وقطر وعمان وموريتانيا ودولة الإمارات العربية المتحدة قد تمت بموجب تقديم (طلب) Application والفرق بالنسبة لنا في القانون الدولي للمنظمات الدولية شاسع جداً لأن مؤدى هذا التطبيق أن اكتساب العضوية من حيث الممارسة قد لا يعني أنه (حق).  وينص الميثاق أيضاً على امكانية (الإنسحاب) من الجامعة بموجب المادة (18) من الميثاق وكذلك (الطرد) على أساس أن الدولة العضو قد أخفقت عن الوفاء بالتزاماتها بموجب الميثاق. بخلاف ذلك لم ينص الميثاق على أي شكل آخر من أشكال العضوية ولكن بموجب الممارسة والتطبيق أيضاً ابتدع مركز (مراقب) في الجامعة بالرغم من أنه غير منصوص عليه في الميثاق. وقد تم قبول ممثلي حركة التحرير الجزائرية في 1959 بتلك الصفة.

ولعل أول ما يجب الوقوف عنده في هذا السياق هو ماهية المفهوم القانوني لوضع الجمهورية العربية السورية فبصرف النظر عما يجري في سوريا. وبداهةً فإن التكييف القانوني لحرمان أو تعليق مشاركة سوريا في مقعدها الأصلي غير مفهوم. وهو يعكس بجلاء الإضطراب والملاءمات لترضية مختلف الدول العربية بشأن مواقفها نحو الأوضاع في سوريا. فتارة يتم تجليس المعارضين للنظام القائم في سوريا باعتبارهم الممثل الشرعي لسوريا وتارةً يظل المقعد خالياً كما حدث مؤخراً في قمة الكويت!! ومن المفارقات العجيبة التي تعكس كيفية ادارة الدول العربية للشأن العربي أن سوريا دولة معترف بها دولياً وهي عضو في الأمم المتحدة ولها دور فاعل حتى داخل مداولات مجلس الأمن ومع ذلك ظل مقعدها في قمة الكويت خالياً. كل هذا ربما يشرح الملاءمات والترضيات لمواقف الدول العربية المتباينة التي فرضت على قمة الكويت أن يكون المقعد السوري خالياً من الجمهورية العربية السورية. صحيح أن أهداف الجامعة واسعة جداً بيد أن الهدف الرئيسي هو (تنسيق) البرنامج السياسي للأعضاء على نحوٍ يساعد على التعاون بينها والمحافظة على استقلالها وسيادتها. لكن الذي حدث في قمة الكويت لا يتفق والهدف الرئيس ولا ينسجم وتنسيق البرنامج السياسي للدول الأعضاء.

من ناحية أخرى لقد نبذ الأعضاء في الجامعة بموجب المادة (4) الإلتجاء للقوة لحل النزاعات ولكن الدول الأعضاء لم تقبل اختصاص مجلس الجامعة التوسط أو للتحكيم باعتباره أمراً الزامياً. والسؤال الذي يفرض نفسه هل الذي يجري في سوريا ودون حاجة للدخول في تفاصيله بل وحتى الذي جرى في ليبيا وأودى بالقذافي يتناغم مع هذا البند المرسوم في ميثاق الجامعة العربية؟. ومع ذلك فإن المجلس قد استخدم من حيث الواقع بموجب المادة (4) الطرق غير الرسمية مثل التوفيق والمصالحة في مناسبات عديدة في مواجهة النزاعات الإقليمية دون أي قبول رسمي لاختصاص المجلس. ونشير هنا إلى أن الجامعة أنشأت بالفعل خلال أزمة الكويت الأولى في 1961 قوة عربية باعتبارها عملية (حفظ للسلام) في شأن النزاع الأول الذي نشب بين الكويت والعراق. والجدير بالذكر أن ثمة قوة سودانية عسكرية شاركت مشاركة فاعلة في تلك العملية بقيادة العميد الراحل صديق الزيبق. وقد أبلت المشاركة السودانية بلاءً حسناً في حماية دولة الكويت الشقيقة من أي عدوان وقد أبقت دولة الكويت الشقيقة بالعميد الزيبق حتى بعد انتهاء الأزمة للعمل في الجيش الكويتي. وقد فعل مجلس الجامعة ذات الأمر في الفترة مابين 1976 إلى 1982 بالنسبة للأوضاع في لبنان. ولكل عضو بموجب المادة (6) الحق لدعوة المجلس مباشرةً في حالة العدوان سواء كان العدوان من جانب عضو من أعضاء الجامعة أو دولة خارجية. وعندها يجوز للمجلس أن يقرر بشأن التدابير الملائمة لوقف العدوان على أن يكون التصويت بالإجماع باستثناء الدولة المعتدية. وهذه الوظيفة الأمنية الجماعية قد تم تحديدها في اتفاقية لاحقة وهي المشهورة باتفاقية الدفاع المشترك القائمة على أساس المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة وكذلك على أساس فكرة أن أي عدوان ضد عضو في الجامعة يعتبر عدواناَ ضد كل الدول الاعضاء. وبموجب تلك الإتفاقية تم انشاء ما يسمى بالمجلس الدائم للدفاع المشترك وكذلك انشاء ما عرف باللجنة العسكرية الدائمة. وكان أول اختبار لتلك الإتفاقية العدوان الإنجليزي الفرنسي على مصر. وبكل أسف لقد أخفقت آلية الدفاع الجماعي في اجتياز أول اختبار لها إذ لم تنجح في تقديم المساعدة المقصودة بموجب الإتفاقية إلى مصر التي واجهت عدواناً شرساً على عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.

مما سبق يمكن القول بأن جامعة الدول العربية وفقاً للميثاق عبارة عن (تدبير اقليمي) Regional arrangement بالمعنى الوارد في الباب الثامن من ميثاق الأمم المتحدة. كما أنها خططت لكي تعمل باعتبارها منظمة للدفاع الجماعي عن النفس وهو الأمر غير الملموس. وبموجب المادة (7) فإن (الإجماع) Unanimity هو القاعدة الأساسية للتصويت بالنسبة للقرارات الهامة مثل القرارات بشأن التدابير وبالتالي فإن القرارات التي يتم اتخاذها بالإجماع تكون ملزمة بالنسبة لكل الدول التي اشتركت في اجازتها وهي ملزمة في ذات الوقت بأن تقوم بتنفيذها ولكن (وفقاً لدساتيرها)!!!. وتتطلب التدابير اللازمة لصد العدوان اجازتها بالإجماع بموجب المادة (6). وهكذا فإن الإنطباع الكلي هو أننا بصدد منظمة أقرب (للإبتدائية) Rudimentary من حيث الشكل. بيد أن هذا لا ينفي أن المجال الوحيد الذي يمكن القول بأن الجامعة فاعلة فيه هو تنسيق السياسيات بالنسبة للطرف الثالث أي في مواجهة دولة بخلاف الدول الأعضاء كما هو الحال بالنسبة لاسرائيل. فقد وحدت الدول العربية سياساتها على نحوٍ جيد في اجتماعات الأمم المتحدة بحيث ظلت تعمل باعتبارها (كتلة واحدة). ويضاف إلى ذلك أن المنظمة حافظت على (وحدة عامة) فاعلة بالنسبة للنزاع الإسرائيلي العربي حتى قيام السادات بمبادرة السلام المشهورة في 1978 مع اسرائيل.

وإذا تركنا تباين الدول الأعضاء في الجامعة العربية بشأن الأوضاع في سوريا وهو التباين الذي شلّ بكل المقاييس والمعايير الجامعة العربية وجعلها في وضع لا تحسد عليه بسبب الإنقسام البيّن بين أعضائها، فإن من سوء الطالع أن جاءت قمة الكويت في توقيت وقد تبدى في الأفق تدهور العلاقات بين عدد من دول مجلس التعاون الخليجي وهي المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ومملكة البحرين من ناحية ودولة قطر من ناحية أخرى. ولكيما نفهم دقة وحساسية الذي حدث مؤخراً من المفيد التذكير بأن مجلس التعاون الخليجي قد تم انشاؤه في 1981 من دول الخليج العربية الست. وأن المجلس يهدف إلى أهداف بعيدة المدى على خلاف ما لاحظناه بالنسبة لجامعة الدول العربية. ذلك أن المجلس يهدف لتفعيل التعاون (والتوحيد بل والدمج) Integration بالإضافة إلى التواصل بين الدول الأعضاء في كل المجالات بهدف تحقيق (الوحدة) Unity بينها. وتم الإتفاق على أن يتم التوصل لذلك بصياغة أنظمة مماثلة في مختلف المجالات بمافي ذلك الشؤون الإقتصادية والمالية والتجارة والجمارك والإتصالات والتعليم والثقافة والشؤون الصحية والإجتماعية والإعلام والسياحة والشؤون التشريعية والإدارية وكذلك عن طريق تطبيق مشروعات مشتركة. وخلافاً لجامعة الدول العربية قد قطعت دول المجلس شوطاً بعيداً في هذا الخصوص. ولعل من أبرز نجاحات مجلس التعاون الخليجي نقرأه في مجال تأمين الأمن الجماعي للمنظمة وذلك بتدعيم التعاون العسكري بين الدول الأعضاء. والموقف الموحد بشأن الجزر الإماراتية المحتلة من جانب ايران يأتي في هذا الإطار. وقد تم انشاء قوة دفاع مشتركة تتجاوز الأربعة ألف جندي كان لهذه القوة دور فاعل في تأمين الأوضاع في مملكة البحرين.

من ناحية أخرى فإن المجلس كان فاعلاً ونشطاً في تسوية بعض النزاعات بين أعضائه كما حدث في النزاع الحدودي البحري بين دولة قطر ومملكة البحرين على سبيل المثال والذي بذلت فيه المملكة العربية السعودية مجهوداً كبيراً طوال عشر سنوات بالرغم من أن النزاع تم حسمه في نهاية المطاف بموجب حكم صادر من محكمة العدل الدولية. ليس سراً أن ثمة خلافات تبدو عميقة وحساسة بين السعودية والإمارات والبحرين من ناحية ودولة قطر من ناحية أخرى. ولعل ما يجعلها عميقة وحساسة أن جذورها تتعلق بأمن الدول المعنية ومدى التزام الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي بالوفاء بتعهداته. والبادي أن قمة الكويت، وهي قمة كل الدول العربية، قد نأت بنفسها عن هذا الخلاف. وهو نأي مفهوم ومقدر سيما أنه بين دول بينها روابط مرسومة في الاتفاقية المنشأة لمجلس التعاون الخليجي.

إن ما يسعى هذا المقال لطرحه هو أن الجامعة العربية عنوان كبير لمنظمة هي بكل المعايير القانونية لا تعدو أن تكون مجرد تدبير اقليمي ذي فاعلية محدودة طالما الإجماع هو الآلية لحسم كل القضايا الهامة والخطيرة. وبالتالي فإنها بالرغم من عراقتها إلا أنها دون شك أدنى بكثير من طموحات الشعب العربي. ولعل ما يجري في سوريا ومصر وكذلك في ليبيا شواهد على ذلك. من جانب آخر فإن الخلاف الماثل بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي ما كان بوسع دولة الكويت بل ما كان بوسع كل الدول العربية أن تفتح ملفه. فهو خلاف ينطوي على مسألة بالغة الخطورة والحساسية بالنسبة للأمن القومي لبعض تلك الدول وخاصةً التي ارتأت سحب سفرائها من دولة عضو في المجلس. وبالتالي فإن هذ التطور يشكل دون شك تحدياً بايناً ومزعجاً لمجلس التعاون الخليجي. وعلى صلة وثيقة بدواعي الخلاف الماثل بين بعض دول الخليج العربي برزت قضية الإرهاب في مصر الشقيقة. وهي قضية تندرج في صميم أهداف ومقاصد جامعة الدول العربية سيما وأن الجامعة قد شغلت نفسها بهذا الموضوع منذ عقود وأبرمت اتفاقية بشأنه. بيد أن الجامعة سكتت عن هذا الموضوع وصمتت صمت القبور. لذلك كله لم يكن أمام قمة الكويت التي جاءت في توقيت غير مريح للدولة المستقبلة للقمة غير أن تخرج بأقل الخسائر وهي المحافظة على (الأمر الواقع) Status Que بكل ما ينطوي عليه من مخاطر. وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جئنا.

 

آراء