ما وراء بيان الشرطة!!

 


 

 

abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
اقل ما يوصف به بيان الشرطة، بهذه اللغة التربصية والنيات السيئة والمواقف السلبية المسبقة من الثورة والثوار، انه سقوط في مستنقع استغلال الوظيفة لتلبية رغبة الانتقام. وهذا غير مستغرب من مؤسسات نزع عنها الحياء وسيطرت عليها الغطرسة الجوفاء. وعموما هذه سُبة تضاف الي سجل حافل من الانتهاكات والفساد والجرائم تتورط فيها الاجهزة النظامية المنوط بها حماية المواطنين.
واذا كان البيان موجه مباشرة لتهديد الثوار، إلا انه في الحقيقة يُقصد به قادة الانقلاب، لغرض شراء ودها وكسب رضاها. وذلك علي اساس ان الشرطة قائم بواجبها في ردع المواكب لاجهاض الثورة، كما ترغب قيادة الانقلاب. وان شُبهة التقصير مردها نقص التشريعات. اي المسألة كلها تتعلق بعلاقات امتيازات وظيفية ومادية تربط بين قيادة الشرطة وقادة الانقلاب.
وهذه العلاقة المصلحية تنسحب علي كل مؤسسات الدولة، ومن يشغلون مواقع التاثير علي وجه الخصوص. والحال ان ما يميز حكم الاسلامويين، هو الاستعاضة عن المؤسسية والمهنية التي تسم الدولة الحديثة، بالولاء للتنظيم وخدمة السلطة والنافذين فيها تحديدا. وهنا اجدني اختلف مع من يعتقد ان للاسلامويين مشروع ادي تطبيقه لهذا الانهيار الشامل. لان الافتقار للمشروع هو بالاحري سمة حكم الاسلامويين، وهو ما افسح المجال لتلبية الرغبات واشباع الشهوات، والاستعداد التام لتمريرها فوق كل العقبات والمحاذير! ولذلك كانت طبيعة تجربتهم ذات آثار تدميرية شبيهة بالقنابل العنقودية، التي يصعب ازالتها او تدارك تداعياتها حتي بعد ذهاب نظامهم.
والحال كذلك، علاقة قيادة الشرطة وكافة المنظومة الامنية بقيادة الانقلاب هي علاقة تماهي، لا تعمل إلا في بيئة حمالة اوجه، تتداخل مهنيا واقتصاديا وقانونيا ومؤسسيا! اي شئ شبيه بالممارسات البربرية والسلوكيات الهمجية التي لا تزدهر إلا في ظل شريعة الغاب.
لكل ذلك عندما يتم الحديث عن التغيير، فهو يتعدي تغيير قيادات او سلطات او منظومات، ليتعلق بمفاهيم وسلوكيات ومهام. ليس اقلاها تحول الدولة من خدمة السلطة لخدمة الموطنين. ومن هنا كان نقدنا لطريقة عمل لجنة التمكين علي ايام حكومة حمدوك المغدورة. بان المسألة لا تتعلق بالافراد بقدر علاقتها بطبيعة عمل المؤسسات والغاية من وجودها، والاهم التوافر علي مشروع بديل ببرامج ومؤسسات تنوب عنها. وما اتذكره ضرب المثل بادارة السدود وشركات الكهرباء، وعن تعديها علي اختصاصات عدة جهات وادارات، ومن ثم توظيفها حصريا لخدمة التنظيم وافرداه، دون المرور حتي بالرقابة الشكلية للدولة. وصحيح ان اعباء كهذه فوق طاقة لجنة التمكين وحكومة الفترة الانتقالية برمتها، في ظل سيطرة العسكر، إلا ان ذلك لا يمنع ان المدخل السليم للتغيير كان ممكن القيام به. اقلاه لو تم تفكيك مثل هذه الكيانات الطفيلية ورد كل اختصاص لوزارته، لكفانا ذلك شر طلات اردول التبريرية للانقلاب، من منصة شركة المعادن التي يستغلها ماديا وسياسيا، كما درج الكيزان علي ممارسة ذات السلوك، ومن ذات المنابر الوظيفية. وذلك لاختلاط الحابل بالنابل في تكوين هذه الكيانات واغراض تاسيسها وطريقة عملها. وذات الامر (تفكيك الكيانات الطفيلية) كان سيقطع الطريق علي عودة الفلول بكل هذه السهولة، بعد الانقلاب المشؤوم. بل هذا يدعو للاعتقاد ان الانقاذ هي تجمع لكيانات ومنظمات ومشاريع ومؤسسات واساليب عمل طفيلية، لا يمكن الخلاص من الانقاذ إلا بالتخلص منها.
وعليه، تصبح العلة ليست في بيان الشرطة، ولكن في الانقلاب الذي اعاد الحياة والمشروعية لعلاقات المصالح الرابطة بين السلطة واجهزة ومؤسسات الدولة. ولهذا يتطلب النظر للتغيير كعملية طويلة ومعقدة وغير مضمونة العواقب دون وضع احتياطات ضد الانتكاسات ومخاطر الاجهاض. وعملية التغيير الجادة، تستهدف في المقام الاول احداث قطيعة مع تاريخ طويل خضعت فيه الدولة لرغبات السلطة، وذلك منذ الاستعمار مرورا بالانظمة الانقلابية بعد الاستقلال وليس انتهاءً بثقافة الافندية التي تجيير الدولة لخدمة امتيازاتها. اي المطلوب قطيعة تقطع الصلة بين السلطة والدولة، إلا ضمن ترتيبات دستورية تحدد وظيفة واغراض وحدود سلطات كل منهما.
وطالما هنالك انقلاب يعمل علي اختطاف الدولة كما ظل حالها علي الدوام، فاول خطوة عملية في مشروع التغيير تقتضي تحرير الدولة المختطفة. وهو امر اثبتت التجارب الثورية انه ليس بالامر السهل، وذلك لدخول المؤسسة العسكرية كاحد اجهزة الدولة في معادلة السلطة بكل نفوذها ومصالحها. والحال كذلك يصعب تصور تحرير الدولة من غير الوصول لتفاهم مع هذه المؤسسة، ولكن الصعوبة تكمن في ان المؤسسة العسكرية يسيطر عليها قادة غير موثوقين! وهو ما جعل انقلابات القادة العسكريين هي نوع من الاختطاف المزدوج للمؤسسة العسكرية اولا وللدولة ثانيا، وهذا بدوره يُصعِّب من عملية التحرير! كما ان المؤسسة نفسها تعرضت لعملية ادلجة طويلة حرفتها عن وظيفتها. وهي اصلا وظيفة ظلت ملتبسة علي الدوام، ومن هنا سهولة تلاعب الانقلابيين بها، واستغلالها لمآربهم الخاصة دون اعترض جدي منها! وعندما يضاف لذلك دخول عوامل جديدة كمليشيات الدعم السريع والحركات المسلحة والادارات الاهلية والتردي الاقتصادي. فان كل ذلك يعقد من عملية تحرير الدولة المختطفة، لمصلحة سلطة اقلية، تردت بعد الانقلاب الي سلطة قتلة مجرمين.
ويبدو ان الخروج من هذا النفق يحتاج لتضافر جهود وثقة متبادلة وارادة حقيقية بين شركاء التغيير، وهو ما لا يبدو متاح في الامد القريب، بعد تجربة الشراكة الفاشلة مع العسكر الانقلابيين. ولكن لو كان هنالك درس واحد مستفاد، من دروس تجاربنا الفاشلة وفرصنا الضائعة، فهو ان ضياع اي فرصة، عاقبته خيارات اسوأ واوضاع اردأ. وفي هذا السياق تلوح في الافق بوادر تسوية بين العسكر وقوي التغيير، تشير كل الدلائل انها ستكون اسوأ وبما لا يقاس مقارنة بالتسوية السابقة، بعد ان ساءت ظروف البلاد من كل الجوانب. ولكن الاسوأ من التسوية السيئة المتاحة، هو ان لا تتاح لا تسوية ولا غير تسوية من الاساس، في ظل ظروف ضعف ومخاطر ليس في وسع احد معرفة عواقبها.
اما مبررات قبول التسوية، لانها اولا، تشكل خيط امل للخروج من حالة الانسداد الراهنة بكل تردياتها، وثانيا، تمثل خطوة سياسية في طريق تحرير الدولة المختطفة كمدخل لمشروع التغيير. اقلاه فهي تفسح مجال للعمل السياسي الواسع وعودة العلاقات الدولية واتساع هامش الحركة لبناء تحالفات اكثر فاعلية، كما انها قد تسهم في تحسن الحالة الاقتصادية وتخفيف الضغط علي توترات النزاعات الاهلية. وكل ذلك رهين بدرجة تماسك وقوة الجبهة المدنية، والاستفادة من اخطاء الفترة الماضية، والتركيز علي قضايا الانتقال واستيفاء شروطه. بمعني، اذا كانت نقطة ضعف الفترة الانتقالية، ما قبل انقلاب البرهان/حميدتي/الحركات المسلحة، هي الجفوة من جانب قوي التغيير ضد لجان المقاومة، فيبدو ان ما يهدد التسوية المرتقبة هي الجفوة التي تبديها لجان المقاومة ضد قوي الحرية والتغيير.
اما صعوب التسوية الجديدة غير تضعضع الثقة في الانقلابيين والتشكك في نواياهم، فهي كلفة التسوية. ولكن رغم ان كلفة التسوية تشكل العقدة في المنشار، إلا انها في ذات الوقت تحمل صك ضمان التسوية! بمعني لا يمكن ان نصل لتسوية صلبة دون توافر ضمانات للعسكر بالحصانة من الملاحقة الجنائية من ناحية، ومنحهم جزء من الامتيازات من ناحية. وإلا السؤال لماذا يدخلون في تسوية ويتقاسمون السلطة مع الآخرين من الاساس؟ اي لا معني للتسوية من غير مكاسب وتقليل الخسائر لكل اطراف التسوية. ومن ثمَّ التسوية الناجحة هي التي يشعر فيها الجميع بالمكاسب، ويقتنع فيها الجميع ان مصالحهم لا تضمنها الا التسوية.
ومؤكد مثل هذا الطرح يمكن رفضه بل وتفنيده بكل سهولة من قبل الرافضين للتسوية مع العسكر، غض النظر عن مخرجاتها، ولكن ما لا يمكن انكاره الا علي سبيل المغالطة، ان ما بيد العسكر من اوراق الضغط والمكاسب الكثير، وليس اقلاه سيطرتهم علي جهاز الدولة ومؤسساته الامنية علي وجه الخصوص، وكذلك قدرتهم علي استنفار واستغلال اعداء التغيير بكل سهولة، بل وتمكينهم في جهاز الدولة اذا ما دعت مصلحة الانقلابيين لذلك، وهو ما حدث بعد الانقلاب بالفعل.
ويصح كذلك ان افلات مجرم، بل صاحب نظريات وتطبيقات اجرامية بشعة ومتكاملة، من العقاب، هو عملية لا يمكن قبولها او تبريرها. ولكن الاكثر صحة ليس هنالك ما يمنعه من مضاعفة اجرامه وبشاعته واغراق البلاد في سيل الدماء دون ان يطرف له جفن. بمعني قدرنا (الاصح تراكم الاخطاء واهدار الفرص) جعلنا في مواجهة مجموعة مجرمة وقاتلة، وما هو متاح واقعيا، اما مجاراتها ومسايستها خطوة خطوة في سعي لتخليص البلاد من شرورها بكلفة منخفضة وفرص تحول اكثر استقرار وان ببطء شديد، واما مواجهتها وجها لوجه بكلفة عالية ونتائج غير محسوبة، للحصول علي مكاسب كاملة واحداث تغييرات سريعة، كل المؤشرات والتجارب لا تسعفها. وكلا الاحتمالين ليس هنالك ضمانات لتحققهما. لكن المؤكد ان فرص النجاح تتضاءل كلما ازدادت شقة الخلافات وتدنت الثقة وتعاظمت الاطماع بين الشركاء والفرقاء، وعوامل النجاح تتعاظم كلما اعترفنا بالواقع كما هو بتناقضاته وتضارب مصالحه، والاستثمار في الفرص المتاحة بما يلاءم القدرات وتسمح به الظروف المرحلية.
واخيرا
رجال الدولة الحقيقيون والساسة المحترفون والقادة الماهرون، ليس من تهتف باسمهم الجماهير او تتغني بخصالهم الشعراء، ولكنهم من يتخذون القرارات الصعبة عندما يعز اتخاذها وترتفع كلفتها، في سبيل خدمة شعوبهم واوطانهم. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء