مسألة جنوب السودان في سياق تاريخي: 1899 – 1986م (7)

 


 

 


(7)

ftaha39@gmail.com

الطريق إلى مؤتمر المائدة المستديرة
1- إنقلاب 17 نوفمبر 1958 والجنوب
في صباح يوم 17 نوفمبر 1958 أعلن إبراهيم عبود القائد العام للقوات المسلحة تسلم الجيش للسلطة في السودان. ومن ثم أصدر الأمر الدستوري رقم (1) الذي نص على الآتي:
1- المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة الدستورية العليا في السودان.
2- المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة التشريعية العليا في السودان.
3- المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة القضائية العليا والسلطة التنفيذية العليا في السودان وتؤول إليه القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية.
4- خول المجلس الأعلى لرئيسه (إبراهيم عبود) جميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وقيادة القوات المسلحة السودانية.
ونص الأمر رقم (3) على تعطيل دستور السودان المؤقت لسنة 1956 وعلى حل البرلمان القائم وحل جميع الأحزاب القائمة وعلى عدم قيام أي حزب سياسي جديد.
زاد انقلاب عبود مسألة الجنوب تعقيداً. فقد إتهم بعض دعاة الحكم الفيدرالي الأحزاب الشمالية بأنها دبرت الانقلاب لإحباط محاولة الجنوب إقامة حكم فيدرالي. ومما قوى هذا الاتهام أن حكومة عبود إحتضنت سانتينو دينج وغيره من العناصر الجنوبية التي كانت تدعو لوحدة الشمال والجنوب في إطار نظام لامركزي. حري بالذكر أن سانتينو دينج حصل على حقيبة الثروة الحيوانية في أول حكومة شكلها إبراهيم عبود.
وباستيلاء عبود على السلطة تعطلت المنابر الديمقراطية التي كان ينطلق منها الصوت الجنوبي. وقُرعت طبول الحرب. فقد اعتبرت فلول الفرقة الاستوائية التي تمركزت في الاقطار الافريقية المجاورة أن موقف الشمال من قضية الجنوب منذ فجر الاستقلال وحتى انقلاب 17 نوفمبر كان بمثابة هزيمة للصفوة السياسية الجنوبية. لذلك دعت إلى مواصلة الكفاح المسلح الذي بدأ عام 1955 لتحقيق أهداف أبناء الجنوب. وبفضل التدريب والتسليح الأجنبي استطاعت بقايا الفرقة الاستوائية والعناصر النظامية التي لحقت بها أن تكون في عام 1963 تنظيم الانيانيا. وكلمة «الانيانيا» تعني بلغات المورو والمادي السم الذي لا علاج له.
وعبر الكثير من السياسيين وبعض رجال الشرطة والادارة والطلاب الحدود الدولية إلى الدول الافريقية المجاورة وإلى دول أوربا الغربية. وكان في طليعة هؤلاء بعض نواب الاتجاه الفيدرالي الذي كان يقوده في برلمان عام 1958 الأب ساترنينو لاهوري. وقد شكل هؤلاء بالتعاون مع آخرين في عام 1962 بالكونغو ليوبولدفيل الاتحاد الوطني لمناطق السودان الافريقية المغلقة والذي تحول في عام 1963 إلى الاتحاد الوطني السوداني الافريقي (سانو) واتخذ من كمبالا مقراً له. وكان من أبرز قادته جوزيف أُدوهو ووليم دينق وأقري جادين. نادى حزب سانو بانفصال الجنوب عن الشمال باعتباره السبيل الوحيد المتاح بعد إخفاق مطالبة الجنوب بالحكم الفيدرالي.
هكذا يمكن القول إنه إبان حكم عبود إتخذت مسألة جنوب السودان بعداً إقليمياً. كما أسهمت المواجهة بين نظسام عبود والهيئات التبشيرية المسيحية بقدر كبير في تدويل القضية. ففي عام 1962 أصدرت حكومة عبود قانوناً جديداً لتنظيم نشاط الهيئات التبشيرية الأجنبية العاملة في جنوب السودان. وأتبعته في نفس العام بقرار طرد المبشرين الأجانب من جنوب السودان. اتهمت حكوة عبود الهيئات التبشيرية بأنها تعمل لتقويض الأمن والاستقرار الداخلي. وأنها تبذر بذور العداء في نفوس الجنوبيين ضد إخوانهم الشماليين وذلك بغرض تشجيع إقامة دولة سياسية منفصلة مما يعرض وحدة السودان للخطر.
ومن النقد الذي وجه لحكم عبود أنه حاول التقريب بين الشمال والجنوب وجدانياً وثقافياً فقام من وراء الستار بتشجيع محاولات للتبشير الاسلامي غير مدروسة. ورد هذا في تقرير لجنة تقصي الحقائق عن المديريات الجنوبية التي شكلتها الجمعية التأسيسية في عام 1966. وقد كانت برئاسة محمد يوسف محمد (دوائر الخريجين)، وعضوية بدر الدين يوسف هباني (الدويم الخامسة)، وعبدالله محمد أحمد (دار حامد والبديرية)، وحسن حامد مهدي (الأبيض)، وقمر حسين رحمة (تقلي الجنوبية)، وأحمد محمد عواص (ريف كسلا).
إستثمر المبشرون الإجراءات المتقدمة داخلياً وإقليمياً ودولياً. فداخلياً أعطت هذه الإجراءات المبشرين دليلاً على صدق ما كانوا يقولونه للجنوبيين من أن الشمال سيمحو مسيحيتهم وسيرغمهم على الاسلام. أما دولياً فقد استند المبشرون على تلك الاجراءات لتصوير ما يجري في الجنوب على أنه حرب دينية عنصرية بين العرب المسلمين والزنوج المسيحيين الأمر الذي أكسب التنظيمات الجنوبية في الخارج عطف ودعم المسيحية الإقليمية والدولية.
وقد كان إخفاق حكومة عبود في معالجة مسألة الجنوب أحد أسباب إندلاع ثورة 21 أكتوبر 1964. فإزاء تصاعد العمليات العسكرية في الجنوب واستنزافها لموارد البلاد المادية والبشرية ومناداة الرأي العام في الشمال بالحل السلمي للقضية، قررت حكومة عبود تشكيل لجنة لتقصي الحقائق حول مسألة الجنوب، وأعلنت عن ترحيبها بتلقي أي مقترحات أو آراء بشأن تسوية المسألة. وما كانت حكومة عبود تدري أنها بذلك مهدت لثورة 21 اكتوبر.
ففي الندوات التي أقيمت في جامعة الخرطوم وجامعة القاهرة (فرع الخرطوم) إتفق المتحدثون على أن قضية الجنوب ليست مسألة أمنية عادية يمكن حلها بالعنف والقوة، وطالبوا بالحل السلمي. ولكنهم أعربوا عن شكوكهم في أن يتوفر الحل السلمي في غياب الديمقراطية في الشمال والجنوب. وتواترت نفس الآراء في الندوة التي أقامها إتحاد طلاب جامعة الخرطوم وهي الندوة التي حاولت قوات الأمن تفريقها بقوة السلاح فسقط شهداء وجرحى وتفجرت ثورة 21 اكتوبر 1964 التي أطاحت بنظام انقلاب 17 نوفمبر.  
2- حكومة اكتوبر الانتقالية والجنوب
أقامت ثورة 21 اكتوبر 1964 وضعاً انتقالياً مؤقتاً وفقاً لاحكام دستور عام 1956 المؤقت. نص على ذلك الميثاق الوطني الذي أعلنه رئيس وزراء الحكومة الانتقالية سر الختم الخليفة في 30 اكتوبر 1964. ونص الميثاق كذلك على أن الوضع الانتقالي ينتهي بإجراء انتخابات حرة عامة تشرف عليها لجنة مستقلة في تاريخ لا يتعدى شهر مارس من عام 1965 لقيام جمعية تأسيسية يقع على عاتقها وضع الدستور الدائم وإقراره وقيام حكومة يختارها الشعب.
وضُمنت في الميثاق المبادئ الذي تم الاتفاق عليها بين ممثلي الجبهة القومية الموحدة وممثلي القوات المسلحة وقد كانت كما يلي:
أولاً: تصفية الحكم العسكري الحالي.
ثانياًً: إطلاق الحريات العامة، كحرية الصحافة والتعبير والتنظيم والتجمع.
ثالثاً: رفع حالة الطوارئ وإلغاء جميع القوانين المقيده للحريات في المناطق التي لا يخشى فيها من اضطراب الأمن.
رابعاً: تأمين استقلال القضاء.
خامساً: تأمين استقلال الجامعة.
سادساً: اطلاق المعتقلين السياسيين والمسجونين من المدنيين في قضايا سياسية.
سابعاً: أن ترتبط الحكومة الانتقالية بانتهاج سياسة خارجية ضد الاستعمار والاحلاف.
ثامناً: تكوين محكمة استئناف من عدد من القضاة لا يقل عن خمسة تؤول إليها سلطات رئيس القضاء، القضائية منها والإدارية.
تاسعاً: أن تكون لجنة لوضع قوانين تتمشى مع تقاليدنا.
كما سبقت الإشارة أعاد الميثاق الوطني العمل بدستور عام 1956 المؤقت وأُدخلت عليه تعديلات اقتضى بعضها الوضع الانتقالي ليصبح دستور السودان المؤقت المعدل سنة 1964. وقد كان من بين ما أستحدث من مواد المادة 108 التي أعفت رجال وهيئات إنقلاب 17 نوفمبر من المحاكمة أمام أي محكمة جنائية أو مدنية أو إدارية بشأن أي حكم أو أمر أو فعل صدر «أثناء تأدية الواجب أو بغرض حماية القانون والنظام أو حفظ الأمن وفقاً لأي تكليف من القوات المسلحة السودانية على أي صورة عسكرية كانت أم مدنية». ويبدو أن استحداث هذه المادة قد جاء تنفيذاً لاتفاق تم بين ممثلي الجبهة القومية وممثلي القوات المسلحة.
في أول خطاب له في 10 نوفمبر 1964 عن قضيــة الجنــوب، أعلن سر الختم الخليفة رئيس وزراء حكومة اكتوبر الانتقالية أن حكومته تعتقد إعتقاداً راسخاً أن القوة ليست حلاً لمشكلة الجنوب، وتشعر بأن استعمال القوة قد زادها تعقيداً. ثم قال إن حكومته «تعترف بكل شجاعة ووعي بفشل الماضي وتواجه صعوباته، كما أنها تعترف بالفوارق الجنسية والثقافية بين الشمال والجنوب التي تسببت فيها العوامل الجغرافية والتاريخية». وعلى أساس الاعتراف بمثل هذه العناصر في المشكلة، أعلن رئيس الوزراء أن حكومته تنوي اتخاذ سياسة تهدف إلى إعادة الثقة في الجنوب، وستأخذ بعين الأعتبار آراء المثقفين من أبناء الجنوب.
من ثم فتحت حكومة اكتوبر الانتقالية قنوات اتصال مع القيادات الجنوبية بالخارج وأعلنت في 10 ديسمبر 1964 العفو عن جميع السودانيين الذين هاجروا للخارج من أول يناير 1955. وتبنت الحكومة الانتقالية إقتراح حزب سانو بالدعوة إلى مؤتمر مائدة مستديرة للنظر في موضوع العلاقة الدستورية بين الشمال والجنوب. ولكن قبل الاسترسال في الحديث عن مؤتمر المائدة المستديرة، نرى أنه من الاوفق أن نتناول بعض العوامل التي طرأت خلال تلك المرحلة داخلياً وإقليمياً والتي نعتقد أنها أثرت بقدر أو آخر في توجيه قضية جنوب السودان.
3- العوامل الإقليمية
أ- في نوفمبر 1959 وقعت حكومة 17 نوفمبر مع الحكومة المصرية إتفاقاً بشأن الانتفاع الكامل بمياه نهر النيل. ولم تدع دول الهضبة الاستوائية ولا اثيوبيا للمشاركة في المفاوضات أو التوقيع على الاتفاقية. ولا حاجة بنا للتذكير بأن الهضبة الاثيوبية ترفد نهير النيل بحوالي 85 في المائة من ايراده السنوي وذلك عبر النيل الازرق ونهر سوباط ونهر عطبرة. وفور إبرام اتفاقية عام 1959 تلقت حكومة السودان والحكومة المصرية مذكرة من الحكومة البريطانية باعتبارها المسؤولة آنذاك عن كينيا ويوغندا وتنجانيقا. حددت بريطانيا في تلك المذكرة الاحتياجات المائية آنذاك لدول شرق افريقيا النيلية واحتفظت بالحق في المطالبة بالمزيد إذا نشأت الحاجة إلى ذلك مستقبلاً.
وخلال المفاوضات السودانية - المصرية التي سبقت اتفاقية عام 1959 بعثت اثيوبيا في 23 سبتمبر 1957 بمذكرات إلى كل من مصر والسودان عبرت فيها عن تحفظاتها بشأن تلك المفاوضات الثنائية، وأكدت حقوقها في المياه التي تنبع في إقليمها. كما أشارت إلى أنه بعد استيفاء الاحتياجات القومية من الموارد المائية الموجودة في إقليمها، فإنها - أي اثيوبيا - ستساهم في رفاهية سكان الدول النيلية المجاورة. وخشي البعض آنذاك أن تكون اثيوبيا قد قصدت بتلك المذكرات التحلل من الاتفاقيات التي تقيد إستخدامها للأنهار التي تنبع في إقليمها. ومن هذه الاتفاقيات اتفاقية 15 مايو 1902 بين الامبراطور منليك الثاني وبريطانيا والتي تلزم اثيوبيا بعدم القيام أو الإذن بإقامة أية أعمال على النيل الأزرق أو بحيرة تانا أو على السوباط إلا بعد الاتفاق مع الحكومة البريطانية وحكومة السودان.
ب- في النصف الأول من الستينيات انتقل الشعب الارتيري إلى مرحلة الكفاح المسلح لتحقيق المصير والاستقلال. وذلك بعد أن ألغت اثيوبيا في 15 نوفمبر 1962 المؤسسات الفيدرالية وضمت اريتريا إلى اثيوبيا. ونذكر هنا بأن الأمم المتحدة كانت قد اتخذت في 2 ديسمبر 1950 قراراً بأن تصبح اريتريا وحدة متمتعة بحكم ذاتي في إطار اتحاد فيدرالي مع اثيوبيا تحت سيادة التاج الاثيوبي. أيدت الولايات المتحدة ودول الحلف الغربي الاتحاد الفيدرالي. ولكن الاتحاد السوفييتي عارضه بحجة أنه يتجاهل حق الشعب الأريتري في تقرير المصير.
ج- في مايو 1963 أعلن رؤساء الدول والحكومات الافريقية - وكان إبراهيم عبود بضمنهم - في أديس أبابا عن مولد منظمة الوحدة الافريقية. أثار قيام المنظمة تساؤلاً حول مفهومها لمبدأ حق تقرير المصير. يبدو أن المنظمة بإعلانها مبدأ احترام سيادة كل دولة وسلامة أراضيها واستقلالها، وإبقائها على الحدود القائمة وقت استقلال الدول الافريقية، قد استبعدت من مبدأ حق تقرير المصير حق الأقليات العرقية أو الدينية أو اللغوية في الانفصال عن دولة قائمة. وذلك لأن حق الانفصال هذا يتعارض مع تطلعات افريقيا للوحدة، ولأن تطبيقه سيؤدي في نهاية الأمر إلى تفتيت القارة إلى دويلات تعوزها المقومات السياسية والاقتصادية. ونورد هنا أن منظمة الوحدة الافريقية لم تعترف بمحاولة بيافرا الانفصال عن نيجيريا في 20 مايو 1967 كممارسة لحق تقرير المصير. ففي قرار إتخذه مؤتمر رؤساء الدول والحكومات الافريقية في سبتمبر 1967 أكد المؤتمر تمسكه بمبدأ إحترام سيادة كل دولة وسلامة أراضيها. وكرر استنكاره للانفصال في أي من الدول الأعضاء واعتبر الوضع الناشئ عن محاولة بيافرا الانفصال من الشؤون الداخلية لنيجيريا.
يتفق التفسير المتقدم مع مفهوم الأمم المتحدة لمبدأ تقرير المصير. فعند دراسات الحالات التي طبق فيها مبدأ حق تقرير المصير في ظل الأمم المتحدة وقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة، نجد أن حق تقرير المصير قد طبق في نطاق تصفية الاستعمار، وأن الشعوب المستعمرة كان لها أن تختار بين الاستقلال أو الاتحاد أو الاندماج مع دولة قائمة، ولكنه لا يعطي الأقليات العرقية أو الدينية أو القبلية الموجودة داخل دولة قائمة حق الانفصال. وقد نصت الفقرة السادسة من إعلان تصفية الاستعمار الذي أصدرته الجمعية العامة في ديسمبر 1960 على أن كل محاولة تستهدف التقويض الجزئي أو الكلي للوحدة القومية أو سلامة إقليم أي بلد تعتبر منافية لاهداف ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه.
خلاصة القول إنه ما لم يكن هناك اتفاق بين الأطراف المعنية على خلاف ذلك، فإنه لا القانون الدولي ولا الممارسة الدولية تعترف للكيانات داخل الدول بحق الانفصال سواء كان ذلك بإعلان آحادي الجانب أو بأي طريق آخر. فتقرير المصير للشعوب أو الجماعات المقيمة داخل دولة يتم عبر تقرير المصير الداخلي، وذلك بالمشاركة الفعالة في النظام السياسي لتلك الدولة. ولا جدال في أن المشاركة لن تكون فعالة إلا إذا كان هذا النظام يقوم على مبادئ الديمقراطية التعددية، وحكم القانون، واحترام حقوق الانسان وحرياته الأساسية.
سنلاحظ عندما نعرض لمؤتمر المائدة المستديرة أن المذكرة التي قدمتها الأحزاب السياسية الشمالية للمؤتمر قد تأثرت بمفاهيم الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية لتقرير المصير.
د- باندلاع الكفاح المسلح للشعب الاريتري وقيام حركة الأنيانيا بدأ التوتر والتأزم في العلاقات السودانية - الاثيوبية. إتهمت اثيوبيا السودان بمساندة حركة تحرير اريتريا. وبالمقابل إتهم السودان اثيوبيا بإيواء ودعم حركة الأنيانيا والسماح لها بممارسة نشاطها ضد السودان من داخل الأراضي الاثيوبية. ومن خلال دعمها لحركة الانيانيا ومطالبتها بالسيادة على إقليمي الفشقة وأم بريقة السودانيين، مارست اثيوبيا ضغطاً على السودان لسحب مساندته لحركات التحرير الاريترية وإغلاق حدوده أمام الأسلحة والمؤن التي ترد إلى تلك الحركات عبر السودان. وتدريجياً تحولت قضية جنوب السودان وقضية اريتريا إلى عنصري مساومة ومقايضة في العلاقات السودانية - الاثيوبية. وللتدليل على ذلك نسوق بعض الأمثلة.
ففي إطار ثورة أكتوبر، قام وفد سوداني برئاسة رئيس الوزراء آنذاك محمد أحمد محجوب بزيارة اثيوبيا لشرح التغييرات التي حدثت في السودان بعد ثورة اكتوبر وشرح سياسة السودان الخارجية. وفي البيان المشترك الذي صدر في 29 يوليو 1965 أعلن الطرفان تمسكهما بالمبادئ الخاصة بالمحافظة على الوحدة والسلامة الاقليمية للبلدين وأدانا الأعمال التي من شأنها تهديد وحدة البلدين.
واتفقا على الأتي:
(1) حظر الدعاية المضادة ونقل الأسلحة والذخائر للمتمردين أو الانفصاليين في البلد الآخر، وكذلك حظر الأعمال الانفصالية والتخريبية الموجهة ضد البلد الآخر.
(2) إغلاق أي مراكز تدريب إنفصالية، وأي مكاتب تباشر أعمالاً تخريبية ضد البلد الآخر.
(3) إبعاد أي لاجئ يقوم بأعمال تخريبية ضد بلده.
وفي مارس 1971 إتفق وزيرا خارجية اثيوبيا والسودان على تحريم كل أنشطة المنظمات التخريبية، وعلى تجريد العناصر المتمردة من أسلحتها، وإزالة معسكراتها، وطرد كل المتمردين، وقادة المعارضة، واتخاذ الاجراءات اللازمة لمنع عودتهم.
وإبان عهد حكومة انتفاضة ابريل 1985 الانتقالية، أعلن وزير الخارجية إبراهيم طه أيوب في مستهل عام 1986 أن السودان يعترف بالنظام القائم في اثيوبيا، ولم يحدث أن اعترف بأن اريتريا شئ منفصل ومستقل. ومضى للقول إن قضية اريتريا قضية داخلية في اثيوبيا مثلما الجنوب قضية داخلية في السودان.
4- العوامل الداخلية
أ- طالبت أقاليم دارفور والبجة وجبال النوبة بالتعبير عن ذواتها وتطلعاتها في إطار نظام إقليمي. فقد أفضى التخلف والإهمال والتوزيع غير المتوازن للسلطة والثروة إلى قيام جبهة تنمية دارفور واتحاد جبال النوبة ومؤتمر البجة. وسنرى من بعد أن الافكار التي طرحتها هذه الكيانات قد وجدت تعبيراً في المذكرة التي قدمتها الأحزاب السياسية الشمالية إلى مؤتمر المائدة المستديرة.
ب- طُرحت خلال المرحلة التي نحن بصددها بصورة أكثر جدية وأكثر تحديداً من ذي قبل مسألة العلاقة بين الدين والدولة. وبدأ الحوار حول علمانية أو إسلامية الدستور. فبعد ثورة 1964 أعلنت الأحزاب السياسية الرئيسية أنها تسعى لإقرار دستور إسلامي. كما برزت إلى حيز الوجود جبهة الميثاق الاسلامي كتنظيم يدعو إلى إقامة جمهورية إسلامية على أساس دستور إسلامي.
ج- أدركت الحكومات الوطنية في السودان أن صعوبة التحكم في التسلل من وإلى السودان عبر حدود اثيوبيا مع المديريات الجنوبية يعود إلى طبيعة الحدود نفسها. فخلال مفاوضات تحديد حدود السودان مع اثيوبيا اتفق الامبراطور منليك الثاني مع ممثل بريطانيا على مراعاة الوحدة القبلية. وبالفعل نلاحظ أن الحدود التي اتفق عليها بموجب معاهدة 15 مايو 1902 تابعت شمال خط عرض 9 درجة شمال خط الجرف الاثيوبي بقصد فصل القبائل التي تقطن السهول السودانية من القبال التي تسكن الهضبة الاثيوبية. ولكن جنوب خط عرض 9 درجة شمال انحرفت الحدود عن الجرف الاثيوبي وتابعت أنهر بارو وبيبور وأكوبو مكونة بذلك بروزاً أو نتوءً Salient داخل السهول السودانية التي تقطنها قبائل النوير والأنواك النيلية.
ومن المعلوم أن قبيلة النوير تقضي ثلثي العام في الجانب السوداني من الحدود، ومنذ أمد بعيد إعتادت النزوح إلى نتوء البارو - أي إلى إثيوبيا - في فترة الجفاف. بل إن أجزاء من النوير إستقرت في نتوء البارو داخل الأراضي الاثيوبية. وبالنسبة للانواك فإن اتفاقية 15 مايو 1902 تركت ثلثي القبيلة في اثيوبيا والتلث الآخر في السودان.
وفي مارس 1939 بدأت بريطانيا مفاوضات مع الحكومة الإيطالية بشأن تعديل الحدود الاصطناعية في هذه المنطقة بحيث تُدخل كل مراعي النوير في السودان وتُضم كل قبيلة الأنواك للسودان. ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون استمرار تلك المفاوضات. ويبدو أنه في مقابل ذلك كانت الحكومة البريطانية مستعدة للتنازل لإيطاليا عن الإقليم الواقع جنوب نتوء بارو ويشمل ذلك هضبة بوما.
لا غرابة إذن في أول عمل عسكري قامت به حركة الأنيانيا في سبتمبر 1963 كان الهجوم على مركز للشرطة والجيش في فشلا على الحدود السودانية - الاثيوبية. وورد في تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الجمعية التأسيسية في عام 1966 وسبقت الإشارة إليها ما نصه: «أما في حدودنا مع اثيوبيا خاصة مراكز الناصر وأكوبو والبيبور فإن المتمردين أقاموا معسكراتهم في الأراضي الاثيوبية ويجدون الحماية من مراكز البوليس الاثيوبي». وورد في التقرير أيضاً أن بعض القساوسه الذين طُردوا من مراكز الناصر وأكوبو حصلوا على تصديقات بإقامة مراكز نشاطهم في الحدود المتاخمة لحدود المراكز السودانية.

 

آراء