مسألة جنوب السودان في سياق تاريخي: 1899 – 1986م -6-

 


 

 



(6)


ftaha39@gmail.com

الاستقلال وشرط الفيدرالية
1- الاستفتاء بدلاً عن الجمعية التأسيسية
طبقاً لاتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لعام 1953 فإن فترة الانتقال تنتهي عندما يتخذ البرلمان قراراً يعرب فيه عن رغبته في اتخاذ التدابير لتقرير المصير، ويخطر الحاكم العام الحكومتين المصرية والبريطانية بذلك. وفور اتخاذ هذا القرار يبدأ إجلاء القوات المصرية والبريطانية عن السودان، و تعهدت الحكومتان المصرية والبريطانية بإتمامه خلال ثلاثة أشهر. وتقوم الحكومة القائمة آنذاك بوضع مشروع قانون لانتخاب جمعية تأسيسية يقره البرلمان، ويوافق عليه الحاكم العام بالاتفاق مع لجنته - أي لجنة الحاكم العام.
وأخضعت الاتفاقية التدابير التفصيلية لتقرير المصير بما في ذلك الضمانات التي تكفل حيدة الانتخابات وأية تدابير أخرى تهدف إلى تهيئة الجو الحر المحايد لرقابة دولية. والتزمت الحكومتان المصرية والبريطانية بقبول توصيات أي هيئة دولية تُشكل لهذا الغرض.
أوكلت المادة 12 من الاتفاقية للجمعية التأسيسية القيام بواجبين: أن تقرر مصير السودان كوحدة لا تتجزأ، وأن تضع دستوراً يتواءم مع القرار الذي يتخذ في هذا الصدد. ونصت المادة 12 على أن مصير السودان يتقرر إما بأن تختار الجمعية التأسيسية ارتباط السودان بمصر على أية صورة، وإما بأن تختار الجمعية التأسيسية الاستقلال التام. وقد التزمت الحكومتان المصرية والبريطانية باحترام قرار الجمعية التأسيسية فيما يتعلق بمستقبل السودان واتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتنفيذه.
سبق أن ذكرنا أن الفترة الانتقالية قد انتهت في 16 أغسطس 1955. ولكن قبل هذا التاريخ طُرحت فكرة الاستفتاء الشعبي لتقرير المصير بدلاً عن الجمعية التأسيسية. نشأت فكرة الاستفتاء الشعبي العام لتقرير مصير السودان في صفوف المعارضة. إذ أن التدخل المصري السافر بالمال والإعلام في انتخابات عام 1953 وتحولات بعض النواب بتأثير الرشا السخية التي كانت تدفع لهم قد أثار الخوف من تعرض إرادة الشعب السوداني للتزييف إذا تُرك للجمعية التأسيسية أن تختار بين الارتباط مع مصر أو الاستقلال التام وفقاً للمادة 12 من اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير لعام 1953. ونجد تعبيراً عن ذلك في البيان الذي أصدرته الجبهة الاستقلالية في فبراير 1955 .
حذرت الجبهة الاستقلالية من أن وضع تقرير المصير في أيدي أعضاء الجمعية التأسيسية سيجعل نشاط أعداء حرية البلاد يتركز حول كسب هؤلاء الأشخاص. لأن أشخاصاً معدودين يمكن كسبهم بشتى الطرق غير الشريفة كما حدث في انتخابات عام 1953. ولكن مئات الألوف من الشعب ذات المصلحة الحقيقية في الاستقلال الوطني لا يمكن استمالتها. لذلك دعت الجبهة الاستقلالية لإصدار قرار من البرلمان بتعديل اتفاقية عام 1953 ليكون تقرير المصير عن طريق استفتاء شعبي.
تلقى مطلب الاستفتاء دفعة قوية عندما أبلغ السيد علي الميرغني وليام لوس في 16 يوليو 1955 بأنه يؤيد فكرة أن يكون تقرير المصير عن طريق الاستفتاء وليس عبر الجمعية التأسيسية. لأنه ليس من المعقول وضع مصير 10 ملايين سوداني في أيدي جهاز صغير من الرجال بعد أن اتضح خلال العامين الماضيين أنه يمكن التأثير بسهولة على الأفراد في السودان. وفي بيان أصدره في 15 أغسطس 1955 نصح السيد علي الشعب السوداني والأحزاب والهيئات أن يتخذوا الاستفتاء الشعبي في جو حر محايد لاختيار الوضع الذي يرتضونه لبلادهم بدلاً من انتخاب جمعية تأسيسية لهذا الغرض. تجاوبت الهيئة العامة للحزب الوطني الاتحادي مع نصح السيد علي وقررت في 26 أغسطس 1955 تأييد إقتراح السيد علي بشأن الاستفتاء الشعبي.
صدر قرار مجلس النواب المرتقب بشأن الاستفتاء في 29 أغسطس 1955. بمقتضى هذا القرار عبر المجلس عن رأيه بأن الاستفتاء الشعبي هو أنجع الوسائل للتحقق من رغبة السودانيين الحقيقية. وطلب المجلس من حكومة السودان إتخاذ كل الاجراءات لإبلاغ ذلك إلى حكومتي مصر وبريطانيا. ولاحقاً وقعت دولتا الحكم الثنائي مصر وبريطانيا في القاهرة بتاريخ 3 ديسمبر على ثلاث وثائق. فبموجب مذكرات متبادلة عُدلت المواد 10 و12 و13 من اتفاقية عام 1953 بحيث يكون تقرير المصير بالاستفتاء وليس عبر الجمعية التأسيسية. وتم التوقيع كذلك على اتفاق إضافي بشأن إنشاء وتشكيل اللجنة الدولية التي ستشرف على عملية تقرير المصير. وأُلحق بالاتفاق كجزء لا يتجزأ منه ملحق يتضمن مهام وسلطات اللجنة الدولية.
على أية حال تجاوز الحراك السياسي المتسارع كل هذه الوثائق لأن خيار الاستقلال التام أصبح هو الراجح. ففي 17 أغسطس 1955 صرح السيد عبدالرحمن المهدي بأن الخطوة الصحيحة بعد أن أجمع السودانيون على الاستقلال هو ان تقتنع مصر وبريطانيا بهذه الرغبة الشعبية الواضحة فتعلنا استقلال السودان التام وحينئذ يتفادى الناس إجراء تقرير المصير عن طريق الاستفتاء الذي لم يعد أمراً هاماً بعد الإجماع على الاستقلال.
ومن جانبها إستصوبت الحكومة البريطانية إختصار إجراءات تقرير المصير لذلك اقترحت على جمال عبدالناصر في أول أكتوبر 1955 قبول مبدأ استقلال السودان والسماح للبرلمان القائم بوضع الدستور. رفض عبدالناصر ذلك الاقتراح، ورفض اقتراحاً آخر بأن يقرر البرلمان القائم مصير السودان رغم اعترافه بأن احتمالات الوحدة قد انتهت وأن البرلمان القائم يؤيد استقلال السودان. وقال عبدالناصر في تبرير ذلك إنه لا يستطيع التخلي علناً عن السودانيين الذين لا يزالون يؤيدون الارتباط بمصر.
ولكن بعد إبرام مصر لصفقة الأسلحة التشيكية في سبتمبر 1955 قررت الحكومة البريطانية أن يكون زمام المبادرة بيد السودانيين، واقترحت على اسماعيل الأزهري رئيس الوزراء بأن يقرر البرلمان القائم مصير السودان. ولــولا اختلاف الحكومــة والمعارضــة كـــان من الممكن أن يـتم ذلــك في 3 نوفمبر 1955.
2- الفيدرالية في اجتماعات الحكومة والأحزاب المؤتلفة
في يوم الخميس 10 نوفمبر 1955 هُزمت حكومة الأزهري في التصويت على القراءة الثانية للميزانية، ثم عادت إلى الحكم في 15 نوفمبر ولكن أغلبيتها تقلصت إلى صوتين. وفي 6 ديسمبر 1955 وبسبب الضغوط التي تعرضت لها الحكومة، قرر مجلس الوزراء دعوة الأحزاب المؤتلفة للتفاوض بشأن قيام حكومة قومية. عُقد أول اجتماع بين ممثلي الحزب الحاكم (الحزب الوطني الاتحادي) وممثلي الأحزاب المؤتلفة في 8 ديسمبر 1955. حضر الاجتماع عن الحزب الوطني الاتحادي مبارك زروق، وعلي عبدالرحمن، ومحمد أمين السيد، وإبراهيم المفتي، وخضر حمد، وحضره عن حزب الأمة عبدالله خليل، وعن حزب الاستقلال الجمهوري ميرغني حمزة، وعن حزب الأحرار بنجامين لوكي، وعن الجبهة الاتحادية محمد نور الدين، وعن الحزب الجمهوري الإشتراكي يوسف العجب، وعن الجبهة المعادية للإستعمار حسن الطاهر زروق، واتفق المجتمعون على أن يقوم محمد عامر بشير (فوراوي) بتسجيل مداولات وقرارات الاجتماعات.
اتفق في الاجتماع الأول الذي عقد في 8 ديسمبر والثاني الذي عقد في 10 ديسمبر 1955 - ضمن أمور أخرى - على قيام حكومة قومية، ومن ثم يطلب من دولتي الحكم الثنائي أن يُعلن البرلمان استقلال السودان وتنتهي مهمة الحاكم العام فور إعلان الاستقلال.
يُلاحظ أن بنجامين لوكي ممثل حزب الأحرار لم يحضر الإجتماع الثاني. ولكن عبدالله خليل ذكر في هذا الاجتماع أن الجنوبيين أوكلوا إليه إبلاغ الإجتماع بأنهم قد لا يوافقون على أن يُعلن الاستقلال من داخل البرلمان، لأنهم بعيدون عن الاتصال بناخبيهم لغيابهم عن دوائرهم مدة طويلة، وليسوا على ثقة بأن أولئك الناخبين يوافقون على الإجراء المقترح.
شارك بنجامين لوكي في الإجتماع الثالث الذي عقد في 12 ديسمبر 1955 وقال في إحدى مداخلاته إن حزبه يؤيد قيام حكومة قومية لأنه توجد مشكلتان إحداهما تخص البلاد بأسرها والأخرى تخص الجنوب. وقال أيضاً إن مثل هذه المباحثات ذات فائدة لأنها قد تساعد على إعادة الثقة في ذلك الجزء من البلاد. ثم طرح ما يبدو أنه كان شرطاً، فقد قال: «وإذا أراد المجتمعون أن يُعلن الاستقلال بواسطة البرلمان فلا بد من الموافقة على قيام اتحاد فيدرالي بين الشمال والجنوب داخل السودان الموحد بحدوده الحالية».
نوقش موضوع الاتحاد الفيدرالي في الاجتماعين الثالث والرابع. وقد كان من رأي كثير من الأعضاء أن يترك هذا الموضوع ليُبحث عند وضع الدستور الجديد بعد الاستقلال. وفي الاجتماع الرابع أوضح بنجامين لوكي أنه لا يقصد فكرة الاتحاد الفيدرالي بالمعنى المتبادر، ولكنه يقترح تكوين لجنة من الشماليين والجنوبيين لتدرس موضوع تنسيق العلاقات بين الشمال والجنوب. قبل المجتمعون بالإجماع هذا الاقتراح ووافقوا على أن يُرفع كتوصية للحكومة القومية.
عندما انعقد الاجتماع الرابع في 13 ديسمبر 1955، كانت الحكومة البريطانية قد أعلنت في 12 ديسمبر أن الحاكم العام قد استقال، وأنها لا ترغب في ترشيح بريطاني آخر ليحل محله. في تقديرنا أن الحكومة البريطانية عمدت إلى إخلاء منصب الحاكم العام لسببين: كان أولهما تهيئة المسرح للسودانيين لإعلان إستقلالهم من داخل البرلمان. أما ثانيهما فقد كان سد الذرائع المصرية بأن الحكومة البريطانية ترمي من إعلان الاستقلال من داخل البرلمان إلى مد فترة عمل الحاكم العام في السودان بعد الاستقلال، وخلال فترة إعداد الدستور، وإبقاء القيادة العليا للقوات المسلحة السودانية في يده.
مما يجدر ذكره أن المفوض التجاري البريطاني في الخرطوم إعتبر بيان الحكومة البريطانية بإخلاء منصب الحاكم الحدث الحاسم الذي عجل إلى درجة كبيرة بعملية تقرير المصير، لأنه حفز السودانيين على التركيز على مستقبـلهم الدسـتوري، وليس على المكائد الداخلية من أجل المنصب والسلطة.
تعثرت إجتماعات الحزب الحاكم والأحزاب المؤتلفة بسبب الخلاف حول تشكيل الحكومة القومية ورئاستها. ففي اجتماع يوم 15 ديسبمر 1955 قبل ممثلو الحزب الوطني الاتحادي اقتراح عبدالله خليل بشأن نسب تمثيل الاحزاب في الحكومة القومية ولكنهم علقوا قبولها بشرط إسناد الرئاسة لإسماعيل الازهري. وهكذا انفض الاجتماع بدون اتفاق وحُدد يوم السبت 17 ديسمبر 1955 تاريخاً لاستئناف الاجتماعات. ولكن بينما كان اجتماع يوم 15 ديسمبر منعقداً بقاعة اللجان بمجلس الشيوخ، فجر اسماعيل الازهري في مجلس النواب مفاجأة أذهلت الجميع بمن فيهم أكان حزبه.
سبق أن ذكرنا أن حكومة الأزهري عادت إلى السلطة في 15 نوفمبر بأغلبية صوتين، ومع ذلك لم يبد أزهري حماسة لقيام حكومة قومية قد لا يكون هو رئيسها وبذلك يُحرم من أن يكون على منصة الشرف في اليوم المشهود. وفي هذا السياق قال جون دنكان أحد مساعدي وليام لوس: «إن هزيمة الحزب الوطني الاتحادي أصبحت مسألة وقت. ولكن أزهري كان مصمماً على أن يقف وحده على رأس الحكومة في يوم استقلال بلاده، وأن ينسب الفضل لحزبه».
لما تقدم، قرر أزهري أن يلعب الورقة الأخيرة فصرح في مجلس النواب في الوقت المخصص للأسئلة وبدون سابق إنذار أنه سيتقدم في يوم الإثنين 19 ديسمبر باقتراح لإعلان إستقلال السودان. فقد قال: «إن مهمة حكومتي محددة في إتمام السودنة وقد تمت، وإتمام الجلاء وقد تم، ثم جمع كلمة السودانيين حول الاستقلال التام وقد تم هذا أيضاً، ولم يبق إلا إعلانه من داخل هذا المجلس يوم الإثنين القادم إنشاء الله. وأرجو ألا يفوت حضرات نواب هذا المجلس الموقر حكومة ومعارضة قطاف هذه الثمار الدانية».
على أية حال، بهذا الإجراء تفوق أزهري على المعارضة. وفي تعليقه على ذلك قال آدمز عضو البعثة الديبلوماسية للمملكة المتحدة: «فلربما كان في إمكانهم أن يتفوقوا على الأزهري في التصويت في مجلس النواب، ومن المحتمل أنهم كانوا يأملون هزيمته مرة أخرى في أثناء مناقشة الموازنة. غير أنه لم يكن في استطاعتهم أن يصوتوا ضد الاقتراح الذي يزمع طرحه. لقد أمسك أزهري بزمام المبادرة، ولم يعد بحاجة إلى إئتلاف مع أي حزب معين لتحقيق هدفه المباشر، وهو بزوغ فجر سودان مستقل».
3- قرار الفيدرالية
قُدمت باتفاق الحكومة والمعارضة إلى جلسة مجلس النواب في يوم الاثنين 19 ديسمبر 1955 مشروعات لأربعة قرارات صيغت باللغتين الإنجليزية والعربية. شارك في الصياغة والترجمة وليام لوس، ومساعده جون دنكان، والمستشار القانوني لمكتب الحاكم العام جاك مفروقورادتو وبعض قادة الأحزاب، وكاتب مجلس النواب محمد عامر بشير. وباتفاق الحكومة والمعارضة أيضاً تناوب أعضاء من الصفوف الخلفية للحكومة والمعارضة في تقديم وتثنية مشروعات القرارات. تتعلق المشروعات الأربعة بمسألة الفيدرالية، وإعلان الاستقلال، وقيام رأس دولة سوداني، وقيام جمعية تأسيسية منتخبة لوضع واقرار الدستور النهائي.
أعطيت الأسبقية في التقديم لمشروع قرار الفيدرالية لضمان تصويت نواب حزب الأحرار مع قرار إعلان الاستقلال. قدم مشروع القرار النائب ميرغني حسين زاكي الدين (دار البديرية). وقد كان نصه: «نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان مجتمعاً نرى أن مطالب الجنوبيين لحكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث ستُعطى الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية». قال مقدم الاقتراح: «أما وقد أبدى إخواننا الجنوبيون لبعض الاسباب الرغبة في حكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية، وحرصاً منا على تمتين الرابطة والصلة بين الشمال والجنوب أرجو من الأعضاء المحترمين تأييد هذا الاقتراح تأييداً إجماعياً لأنه يهدف إلى تحقيق رغبة اخواننا الجنوبيين ويطمئن نفوسهم».
ثنى الاقتراح بنجامين لوكي (نائب ياي) وقال: «عندما بدأ السودانيون يتجمعون ليتشاوروا في شئون بلادهم رأى الجنوبيون أن أنجع طريقة للتشاور هي أن تكون للجنوب حكومة فيدرالية. وكلنا يسعى ويهدف لأن يكون السودان وحدة لا تتجزأ. وإنني أقول إن هذا الهدف لن يتحقق إلا إذا كانت هناك حكومة فيدرالية للمديريات الجنوبية الثلاث».
وفي تعقيبه على المداولة قال زعيم المعارضة محمد أحمد محجوب: «يوجد الآن من بين أعضاء هذا المجلس من يريدون حكماً فيدرالياً للمديريات الجنوبية الثلاث، وهم يقولون إنهم حريصون على وحدة السودان ولا يريدون الحكم الفيدرالي كأساس لانفصال جزء من السودان عن بقية القطر». ثم أضاف أن مكان مناقشة هذا الرأي هو الجمعية التأسيسية ووقتها يحين عندما يتحقق الاستقلال التام.
لم يرد تعبير «فيدرالية» في تعقيب مبارك زروق زعيم الأغلبية فقد قال: «إن السودان إذ يقرر مصيره كوحدة مكتملة إنما يريد من كل أبنائه أن يتقاسموا خيره وأن يشتركوا في الحقوق والواجبات الأمر الذي لا يتعارض مع خلق نظام لامركزي بتدعيم الحكومة المحلية وخلق المجالس ورفع مستواها والسير بها في الطريق الديمقراطي الصحيح». ثم قال إن الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور ستعطي مطالب الجنوب الحقة المشروعة كل عناية وتقدير ما دام كيان السودان قائماً ووحدته ثابتة. فهل حدث هذا؟ نترك الإجابة على هذا السؤال إلى الجزء الذي سنورد فيه موقف اجتماع الجمعية التأسيسية الأول في 22 مايو 1958 وموقف مشروع دستور عام 1958 من مطلب الفيدرالية.
4- إجازة الدستور المؤقت
في  جلسة مشتركة في يوم السبت 31 ديسمبر 1955 أجاز مجلسا النواب والشيوخ دستوراً مؤقتاً للسودان. وعن الظروف التي أدت إلى تقديم دستور مؤقت، قال مبارك زروق إن ثمة عوامل أدت إلى ذلك كان أولها ملء الفراغ الدستوري الناتج عن إنتهاء فترة الإنتقال. أما ثانيها فقد كان الإسراع بالحصول على اعتراف مصر وبريطانيا باستقلال السودان. وعن مصدر الدستور المؤقت أوضح مبارك زروق أن أقصر الطرق في ظل هذه الظروف كان تعديل قانون الحكم الذاتي بما يتسق مع قيام جمهورية ديمقراطية ذات سيادة في السودان فحلت لجنة السيادة محل الحاكم العام، واستُبعدت السلطات غير الديمقراطية، وأُجريت بعض التعديلات الطفيفة التي يستلزمها الحكم الديمقراطي. وأوضح مبارك زروق كذلك أن التعديلات التي ربما تكون محل خلاف قد تُركت لتدرسها الجمعية التأسيسية.
كان من بين المتحدثين عند مناقشة مشروع الدستور المؤقت زعيم المعارضة في مجلس الشيوخ استانسلاوس بياساما الذي قال إن دعوة الاستقلال تحمل بين طياتها الاتحاد الفيدرالي عند نظر دستور الجمعية التأسيسية، ذلك الاتحاد الذي طالما عمل له أبناء الجنوب.
5- مشروع دستور أبريل 1958
في 7 يوليو 1956 تشكلت حكومة إئتلافية بين حزب الأمة وحزب الشعب الديمقراطي الذي أُعلن تأسيسه في يونيو 1956. وفي عهد هذه الحكومة التي كان يرأسها عبدالله خليل تم تكوين لجنة قومية من 46 عضواً لوضع الدستور الدائم للبلاد. ضمت اللجنة في عضويتها بعض المتخصصين في القانون الدستوري، والشخصيات العامة، وممثلين للأحزاب السياسية، واتحادالعمال، واتحاد مزارعي الجزيرة، ونقابة المحامين، واتحاد الصحافة، وخريجي الجامعات والغرفة التجارية. أُختير بابكر عوض الله رئيس مجلس النواب رئيساً للجنة القومية للدستور وأحمد خير رئيساً مناوباً. عقدت اللجنة أول اجتماع لها في 22 سبتمبر 1956. وقد خاطب الاجتماع عبدالله خليل رئيس الوزراء وزيادة أرباب وزير العدل. أبلغ وزير العدل الإجتماع بأن البرلمان القائم سيستمر حتى نهاية عام 1956، وأنه من المأمول أن تُجرى في مارس 1957 الانتخابات للجمعية التأسيسية.
6- مسودة دستور أبريل 1958 أمام الجمعية التأسيسية
وضع وزير العدل مسودة دستور أبريل 1958 على منضدة الجمعية التأسيسية في اجتماعها الأول في 22 مايو 1958. لا مجال هنا لعرض شامل لفصول مسودة هذا الدستور. ولكننا نورد أن الفصل الأول منه «الدولة السودانية» نص على ما يلي:
1- السودان دولة موحدة وهو جمهورية ديمقراطية برلمانية.
2- السيادة في الجمهورية السودانية للشعب الذي يمارسها وفق أحكام هذا الدستور.
3- تسود أحكام هذا الدستور على جميع القوانين القائمة أو المستقبلة.
4- اللغة الرسمية للدولة هي اللغة العربية.
5- الإسلام هو دين الدولة الرسمي.
ونصت المادة 36 من الفصل الثالث «المبادئ الموجهة لسياسة الدولة» على أن «تستوحي مصادر التشريع السوداني الأساسية مبادئ ونظريات الإسلام والعادات الحسنة التي لا تتعارض مع قواعد الانصاف والعدل الفطري والضمير السليم».
لم يرد في مشروع دستور عام 1958 أي نص يحدد العلاقة بين المركز والإقليم. غير أن المادة 35 من المبادئ الموجهة لسياسة الدولة نصت على أن «تعمل الدولة على تعميم نظام الحكومات المحلية». هذا مع ملاحظة أن المادة 20 تنص على أن مواد الفصل الثالث «المبادئ الموجهة لسياسة الدولة» «غير ملزمة دستورياً ومع ذلك فإن المبادئ التي تضمنتها تعتبر أساسية في إدارة البلاد وينبغي مراعاتها عند سن القوانين».
أجازت الجمعية التأسيسية ستة قرارات قدمتها الحكومة والمعارضة بالاتفاق. وقد كان من ضمنها القرار بأن تنظر الجمعية التأسيسية في مسودة الدستور التي أعدتها اللجنة القومية للدستور والتي وضعها وزير العدل على المنضدة في يوم الخميس 22 مايو 1958. وأيضاً القرار بأن تحال المسودة إلى لجنة الدستور للنظر فيها وإعداد تقرير عنها في أقصر وقت ممكن. علماً بأن لجنة الدستور الأخيرة هذه شُكلت من أربعين عضواً من أعضاء الجمعية التأسيسية.
إعترض ممثلو الجنوب في الجمعية التأسيسية على مسودة الدستور لأنها لم تنص على موضوع الفيدريشن وطالبوا بتضمينه. وهنا أوضح محمد أحمد محجوب زعيم الأغلبية أن هناك سوء فهم وأن المسودة يمكن تعديلها أو رفضها أو إستبدالها. فللجمعية مطلق الحرية في هذا الأمر. فإذا وضعت اللجنة (يقصد اللجنة الأربعينية) تقريراً عن الفيدريشن، فإنه سيقدم للجمعية لتقبله أو ترفضه إذا كانت مصلـحة البـلاد العليا تقتـضي أحد الأمرين، والرأي للأغلبية.
رفض فرانكو وول قرنق النائب عن الدائرة 15 (واو) إجازة الدستور بالأغلبية وقال: «مادامت الشمس تشرق من الشرق فإن الجنوبيين لن يكونوا أغلبية. وإذا كانت هذه المسودة هي أساس النقاش فلا شأن لنا بها لأنها أهملت مطلب الجنوب الأساسي. وإنني أقرر هنا أن استقلال السودان لن يستقر إذا لم يستقم الوضع في الجنوب.... إننا لا نضمر شراً لاستقلال السودان ونحبه ونحرص عليه كأي شخص آخر منكم. ولكننا نريد أن يكون هذا الاستقلال حقيقياً لا ملوناً، وإننا نريد أن ننال حقوقنا كأمة في السودان المستقل».
وقال النائب قرنق في ختام حديثه «إننا نقف الآن على شفا حفرة، وموضوع الفيدريشن موضوع حساس. وإذا لم يُستجب له فلربما يطلب الجنوبيون أشياء أخرى لم تكن هناك حاجة لها».
ورفض الأب ساترنينو لوهوري نائب الدائرة 80 (توريت لاتوكا) القول بأن مباركة أعمال اللجنة القومية للدستور كانت اجماعية. وأوضح أنه كان يمثل كتلة الأحرار في اجتماعات اللجنة ولم يوافق على ما توصلت إليه الحكومة والمعارضة، وطلب منهم إدخال تعديل ينص على الفيدريشن ولما رفضوا ذلك انسحب هو وزملاؤه. وأضاف أن الجنوبيين قاطعوا لجنة الدستور، لذلك فإن العمل الذي تم قام به جزء من أعضاء اللجنة لا كلها.
ومضى ساترنينو للقول: «إن اجتماع لجنة الدستور المقترح (يقصد اللجنة الأربعينية) سيتعرض لإمتحان قاسٍ عندما يجىء الجنوبيون ويطالبون بالفيدريشن فيرفض طلبهم، ولن يكون أمامهم إلا الانسحاب، ولن يكون إقرار الدستور عند ذلك الوقت عملاً قانونياً، وسيبحث الجنوبيون عن طريق آخر لتحقيق مطالبهم .. لقد تعبنا من كلمتي (الاعتبار الكافي) اللتين وردتا في قرار البرلمان السابق. وقد كثرت الوعود للمناقشة في هذا الأمر. إن تعديل هذه المسودة لا يجدي، بل علينا أن نبحث أولاً عن نوع الحكم الذي نريده: هل هو حكم لسودان موحد أم نوع من الحكومة الفيدرالية؟»
واستطرد ساترنينو قائلاً: «إن للجنوب قضية وقضية عادلة .... لأنه يريد أن يدير شؤونه المحلية بنفسه بعد أن فشلت الإدارة الشمالية التي حلت محل الحكم البريطاني، ولم تستطع القيام بالعمل... وإن أوضح دليل على موقف الجنوب هو ذلك التمرد الذي وقع قبل ثلاثة أعوام. فقد كان الجنوبيون غير راضين عن حالتهم فحاولوا الحصول على حقوقهم بالطريقة التي رأوها. وفي ساعة غضب وإصرار وقع التمرد. ولكني أؤمن أن هناك طرقاً مشروعة وقانونية لتحقيق أي هدف. ولذلك فإنني لا أقر التمرد. لقد اكتُشف مؤخراً أن من أسباب التمرد تصرفات التجار والموظفين الشماليين الذين وضعت في يدهم المسؤولية فلم يحسنوا إدارتها. فكان أن وقع التمرد وتطور لثورة كان نتيجتها أن فقد كثير من الشماليين الأبرياء أرواحهم نساءً وأطفالاً ورجالاً. إن هذا وجه للمشكلة، والوجه الآخر هو أن الجنوبيين قُدموا للقضاء الذي كان مكوناً من شماليين مائة في المائة. وكانت النتيجة أن فقد عدد كبير من الجنوبيين أرواحهم وسيق عدد ضخم منهم للسجون».
وختم الأب ساترنينو حديثه بالقول: «إذا كنا سنعتمد على مسألة الأغلبية والجنوبيون قلة، فلن نحل مشكلة الجنوبيين أبداً».
إنسحب الأعضاء الجنوبيون بعد ذلك من اجتماع الجمعية التأسيسية. ثم أصدروا  بياناً قالوا فيه إنه كان على الجمعية التأسيسية أن تنظر أولاً في مسألة الإتحاد الفيدرالي بين الجنوب والشمال حسب قرار البرلمان السابق في 19 ديسبمر 1955. وقالوا أيضاً إنهم لا يريدون وضع عراقيل، ولكنهم لن يبحثوا أو ينظروا في أي مسودة دستور، أو يوافقوا على دستور لا يقوم على أساس الاتحاد الفيدالي.

 

آراء