مسرح اللا معقول في السودان … بقلم: د. أسامة عثمان، نيويورك

 


 

د. أسامة عثمان
17 December, 2009

 

Ussama.osman@yahoo.com

عندما فرغت من كتابة هذا المقال وحانت لحظة إرساله كانت الساعة قد اقتربت من منتصف الليل في نيويورك وكانت الصبح قد أصبح في الخرطوم بالمعنى الحقيقي وليس المجازي لفارق الزمن. ولم أدرِ ماذا سيكون مصير المسيرة السلمية الثانية المزمعة في صباح الاثنين أي بعد ساعات قلائل من إرسال هذا المقال ولقد سمعت من التلفزيون أن الشرطة قد بلغها أن "جهات" تنوي تسيير مسيرة لم توافق عليها وعليه لا يحق للمواطنين الخروج ولم يذكر التلفزيون أن كان قد تقرر تعطيل العمل ليوم الاثنين أم لا. نأمل أن ينتصر عقلاء الحزب الحاكم هذه المرة إن خرجت المسيرة ويتعاملوا معها مستفيدين من درس مسيرة الأسبوع الماضي.

ظللنا نتنسم أخبار البلاد منذ مسيرة يوم الاثنين الماضي مما هو متاح لنا من وسائل هنا بما فيها الإذاعة القومية والتلفزيون القومي  ولنكن أكثر دقة فلنقل من الجهازين الحكوميين لأن ما يذاع فيهما هو ما تقول به السلطات الرسمية أو شقها الممثل في المؤتمر الوطني على الأقل. ولقد تبين لي من بعض مكالمات تلفونية أجريتها في يوم الحدث أن في الخرطوم ممن لا يعلم عشر ما نعلم ونحن في الخارج عن ما يجري في المدينة في تلك اللحظة.

اندهشت لحالة الذعر التي أصابت السلطات في الخرطوم  بسبب الإعلان عن مسيرة سلمية أمام البرلمان وتمثلت حالة الذعر في اتخاذ إجراءات أمنية غير مسبوقة بلغ عدد قوات الأمن المستنفرة عدد القوات التي استنفرت عند مباراة مصر والجزائر في الخرطوم. وإعلان عطلة رسمية بررت بأنها لتمكين المواطنين من التسجيل للانتخابات في آخر أيام التسجيل.  ولقد أشبعت الصحف خلال الأسبوع المنصرم الأمر بالتعليقات والأخبار ولكن الملفت للنظر بالنسبة لنا على الأقل ونحن في الخارج هو الاضطراب الشديد في التغطية الصحفية ولا أقول الإعلامية فالإذاعة والتلفزيون لم يمسهما بعد نيفاشا تغيير يذكر اللهم إلا توقف البرامج التي تمجد الحرب مثل برنامج "ساحات الفداء" ولقد ظل الجهازان يرددا الخط الرسمي للأخبار.

شرعت بعض الصحف في تغطيات خبرية غاب فيها تطبيق القاعدة المعروفة في العمل الصحفي القائلة بأن الرأي حر والخبر مقدس برزت في ذلك من الصحف التي اطلعت عليها "الرائد" لسان حال الحزب الحاكم و"الانتباهة" وقد يقول قائل ماذا تتوقع من الانتباهة فهذه ليست صحيفة وإنما هي منشور للمؤتمر الوطني بل هي صوت الغلاة فيه إلى جانب  أنها صوت الأقلية الانفصالية في الشمال. لم يقف الأمر عندها وإنما ولغت فيه صحف واسعة الانتشار مثل "الرأي العام" و"أخبار اليوم" فقرأنا تقارير أمنية حزبية نشرت كما لو أنها أخبارا ثم استند عليها بعض كتاب الرأي في هذه الصحف كما لو أنها كانت الحقيقة.  ويدخل في باب البيانات العجيبة بيان منسوب للشرطة كان دفاعيا ومضطربا وحافلا  بالمغالطات في الحقائق على قرار أن الشرطة تعاملت بمهنية قصوى حيث أنها  ولم تستخدم الرصاص المطاطي أو الغاز المسيل للدموع! من قال أن المهنية تعني عدم استخدام الشرطة لهذه الوسائل المعروفة لتفريق المظاهرات؟ وما معنى ذكر معلومة مغلوطة مثل أن الغاز المسيل للدموع لم يستخدم ولقد شاهدنا فيما توفر من صور المواطنين يعانون من الدخان. لا شك أن مثل هذه البيانات تقدح في صدقية الشرطة التي نأمل أن تحافظ على قوميتها  على الرغم من قيادتها الحالية  الخارجة من صفوف مناضلي الحزب الحاكم والتي تؤكد اعتقاد الكثيرين بأن الشرطة لم تعد جهازا قوميا كما عهدنا.

ولقد جاءت التغطية الخبرية مشتملة على الكثير من المغالطات عن توقيف بعض القيادات من الحركة الشعبية ممن يتمتعون بحصانة فوقعت سفسطة عن أن ما وقع لم يكن اعتقالا وإنما توقيفا وفي رواية أخرى احتجازا بل مضت الأخبار خصوصا في الصحف المذكورة أعلاه لتفيدنا بأن نائب أمين عام الحركة الشعبية السيد ياسر عرمان لم يعتقل وإنما اصطحب رفيقه الأمين العام من تلقاء نفسه ثم يمضي الخبر ليقول لنا أن المعتقلين قد تم إطلاق سراحهم بالضمان الشخصي. ولم يقل الخبر ماذا سيحدث إذا رفضوا دفع الضمان الشخصي هل سيبقون رهن الاعتقال أم سيقال لهم اذهبوا فأنتم طلقاء؟ وما هو الاعتقال في رأي هذه الصحف؟ ومضى التناقض في الروايات ليخبرنا بعد يوم بأن باقان لم يعتقل ولكنه آثر الركوب مع رفيقه الذي حاول الاعتداء على الشرطة فأمرت باعتقاله. ويمضي الخيال في رواية أخرى بأن ياسر عرمان لم يعتقل ولكنه شاهد أن بعض النساء قد اعتقلن فأبت شهامته إلا أن يركب في الدفار حتى لا يتركهن وحدهن وما إلى ذلك من روايات في مسرح اللامعقول. ولن أدخل في مسألة اعتقال الشرطة لوزيرها أو عدم الائتمار بأمره فذلك مجال آخر لإنكار وجدل لن ينتهيا.

ولقد جاء في الراية القطرية من كلمة لها في هذا الشأن قولها " فما بال أمانة الكلمة تغيب عن بعض الصحفيين فيبدون كالأطفال حين يرددون تبريرات وتناقضات الإفادات الفطيرة التي أدلت بها تلك الجهات النظامية والسياسية حول التصديق أو عدمه للمسيرة أو عدم اعتقال ياسر عرمان و ركوبه سيارة الشرطة بمحض اختياره، أو نفي استخدام العنف في تفريق المسيرة ودخان الغاز المسيل للدموع غطي فضاء و منازل أم درمان . وما بالهم يهربون عن طرح الأسباب التي قادت المعارضة لتسيير تلك المسيرة. أليس من شرف الالتزام الصحفي طرح كل الحقائق لكل الناس حول الأحداث والأوضاع السياسية وإدارة الشأن العام لبلادهم. من المفهوم أن يلتزم الصحفي المسيس الخط السياسي لحزبه . و لكن ليس من الأخلاقية بمكان إخفاء الحقائق و ترديد الأكاذيب اعتقادا منه أنه ينافح عنه. فليس في ذلك نصرة لحزبه بل فيه ضرر كبير بالوطن حاضره ومستقبله". ولقد أورد الصحفي المقتدر فيصل محمد صالح نماذج لحالة اللجلجة واللامهنية التي وقعت فيها بعض الصحف دون ذكرها صراحة ولكن بإشارات يفهمها أهل الوسط الصحفي والمتابعون للصحافة اليومية بشكل وثيق وليته أفصح أكثر فالتنبيه مهم في هذا الوقت التي اختلطت فيه الأشياء.

عجبت للتناقض الكبير في تصريحات قادة المؤتمر الوطني وتقييمهم للأمر فالبعض يكاد يجزم بأن القصد من التحرك كان هو إسقاط النظام ويستشهد بأقوال للدكتور حسن الترابي والبعض الآخر يدعو المعارضة لتستورد متظاهرين من الخارج لقلة أنصارها وخيبة مسعاهم. يطلق كل مثل هذه التصريحات بثقة شديدة ولا يشعر بالحرج عندما يقرأ تصريحا مناقضا من زميله في قيادة الحزب.

ما أن نفيق من صدمة تصريح حتى يأتينا بيان "هيئة علماء السودان" التي ما أن يفتح الله عليها بخطاب أو بيان إلا وتفقد من رصيدها من الاحترام، إن كان قد بقي فيه شيء، وتؤكد في كل مرة تهمة أنهم علماء السلطان بشكل يحرج السلطان نفسه. لقد أشبع الناس أمر فتواهم تعليقا. إن مثل هذه الفتاوى يتسع خرقها على الراتق كلما حاول أحدهم ترقيع  ذلك الخرق، ومثاله ما ورد على لسان الأمين العام للهيئة البروفيسير محمد عثمان صالح الذي أفاد بأنهم لم يحرّموا المظاهرة ولكنهم أفتوا بعدم جوازها! لأن كلمة "حرام" لم ترد في بيانهم والفارق بيّن عند الفقهاء فيما يبدو! وأضاف: إن صحيفة "السوداني" قد قامت بتشويه متعمد لتضليل الرأي العام. ثم ساق في تبرير البيان "ولكنا لسنا ضد التظاهر ألبته... ولو أن أحزاب تجمع جوبا التزمت بالإجراءات القانونية واستلمت التصديق النهائي للموكب من السلطات المختصة وتم العلم بمسار المظاهرة لوقفنا معها ولآزرناها في خروجها للشارع ... لكن المعارضة لم تتخذ الخطوات التي تجعل من المسيرة شرعية التظاهر والتجمع" ماذا ترك الشيخ العالم لمدير عام الشرطة أو أحد قيادات الحزب الحاكم ليقول هل حلت هيئة علماء السودان محل لجنة الأمن للولاية؟. ويمضي في توسيع الخرق بقوله " لا مانع لدينا من المظاهرات فهي تعبير عن نبض الشارع والدستور كفل ذلك وهذا ما يعرفه الصغير فضلا عن الكبير ولا يوجد لدينا أي موقف مبدئي ضد المواكب الشعبية والجماهيرية علي الإطلاق... ولو التزمت الأحزاب بذلك فنحن معها... ولكن بصراحة ما جري في مسيرة الاثنين كان تحديا واضحا للنظام الحاكم ويهدف لخلق الاضطراب وعدم استقرار الأوضاع بالبلاد " ولم يعلق فضيلة الشيخ على ما جاء في البيان من أنه "لا يجوز لمسلم أن يخرج في مظاهرات ينظمها أعداء الإسلام من العنصريين ودعاة الفتنة والشقاق والنفاق والطامعين في السلطة والحكم بأي وسيلة كانت، ومن فعل ذلك بأي ذريعة سياسية فهو آثم شرعاً لإسهامه في نشر الفتنة والفوضى وتسببه في وقوع العدوان على الناس" ماذا يقول الشيخ الذي يبدو أنه يؤمن بالدستور وما جاء فيه عن تقسيم المواطنين السودانيين إلى مسلمين وأعداء الإسلام  ومجموعة أخرى وصفهم بيان الهيئة ب (المنتسبين للإسلام) ممن شارك في هذه الفتنة بحرمة موالاة الكافرين وسوء عاقبة من يواليهم في "الدنيا والآخرة". من هم هؤلاء الكافرون يا ترى أليسوا هم حلفاء المؤتمر الوطني الذين يكفل لهم الدستور حقوقهم كمواطنين؟ ما لكم كيف تحكمون!

كرر السيد أمين عام الحركة الشعبية اكتشافه لأهمية اللجوء للشارع في أكثر من موقف ووصف أنهم قد أضاعوا خمس سنوات في النقاش في الغرف المغلقة بينما الحل في الشارع ويبدو أن الإستراتيجية الجديدة هي اللجوء للشارع من الآن فصاعدا وربما كان ذلك هو سر الذعر الذي أصاب الشريك الآخر  فالشارع لا يخرج إليه إلا أنصاره أو من يحشدهم أو هكذا فعل طوال عشرين عاما مع استثناء واحد هو الملايين التي خرجت ذات يوم لاستقبال الراحل جون قرنق. ويبدو أنه يريد أن يستمر الحال كذلك على الرغم من الحديث عن الانتخابات الحرة النزيهة وربما يكون فهم الحزب الحاكم للحرية والنزاهة بأنها مثل تلك التي جرت في عام 1996 وفي عام 2001 أو في الاستفتاء على دستور 1998 خصوصا وأننا لم نسمع منهم نقدا لتلك الانتخابات بأي شكل كان.

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 13 ديسمبر 2009

 

 

 

 

 

آراء