ممالك منطقة أعالي النيل الأزرق قبل القرن السادس عشر الميلادي

 


 

 

‬‬مستخلص: ارتبطت منطقة أعالي النيل الأزرق بالتحركات السكانية والأنشطة التجارية في منطقتي النيل الوسطى والبحر الأحمر منذ العصور القديمة. وقد أدت تلك الصلات إلى التطور المبكر للأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في هذه المنطقة، غير أن هذه الفترة من تاريخ أعالي النيل الأزرق لم تجد بعد ما تستحقة من الاهتمام. ويهدف هذا البحث إلى إلقاء الضوء على تاريخ بعض ممالك أعالي النيل الأزرق قبل القرن السادس الميلادي، وتشمل مملكة فازوغلي، ومملكة البرون، ومملكة الكيلي، والممالك التي تحكمها ملكات، ومملكة الفونج قبل ارتحال الأسرة إلى سنار، وذلك من خلال ما ورد في بعض الوثائق الرومانية والأكسومية وبعض كتابات الرحالة والروايات الشفهية السودانية والإثيوبية.

Abstract: The Upper Blue Nile region had contacts with the people movements and trade activities in the Middle Nile Valley and the Red Sea from Ancient times. These contacts led to the early development of social and economic systems in this region. But the Upper Blue Nile history has not yet found due attention. The this paper attempts to through light on the history of some of the Upper Blue Nile Kingdoms before the 16th century, including the kingdoms of Fazughly, kingdom of Brun, kingdom of al Keily, the kingdoms that were ruled by Queens and the Fung kingdom before its movement to Sinnar. The study is based on some Roman and Aksumite Documents, travellers’ records as well as Sudanese and Ethiopian Oral Traditions.

كلمات مفتاحية: أعالي النيل الأزرق، فازوغلي، البرون، الكيلي، ملكات، الفونج

مقدمة

ارتبطت منطقة أعالي النيل الأزرق بحركة التجارة الخارجية منذ العصر الفرعوني مروراً بمملكة كوش الأولى والثانية، ومملكة علوة، ومملكة أكسوم، وممالك الحبشة الإسلامية. ومن الطبيعي أن يؤدي ارتباط المنطقة بحركة تجارية كبيرة ومتصلة إلى تطور نظم اجتماعية وسياسية تدير ذلك النشاط. وقد تضمن التراث المحلي الحبشي والسوداني عدداً من الروايات عن الممالك التي نشأت في غرب الهضبة الإثيوبية على الأراضي السودانية الحالية مثل مملكة فازوغلي، ومملكة البرون، ومملكة كيلي، والممالك التي تحكمها ملكات، والممالك التي ارتبطت بظهور أسرة الفونج. وسنسعى في هذا المقال إلى إلقاء الضوء على هذه الممالك من خلال المعلومات التي وردت في بعض الوثائق الأكسومية، وكتابات بعض الرحالة، والروايات الشفهية السودانية المحفوظة في متحف فازوغلي (محفوظات الروايات الشفهية)، والروايات الشفهية الإثيوبية التي نقلها كراوفورد وسلاسي.

مملكة فازوغلي
يرجع تاريخ منطقة فازوغلي وارتباطها بالعالم القديم إلى أوقات مبكرة؛ فقد ارتبطت منطقة أعالي النيل الأزرق تجارياً بمصر القديمة، وذهب بعض المؤرخين إلى أن المصريين في عصر ما قبل الأسر ربما تحصَّلوا على مادة الـسُّبَج obsidian (زجاج بركاني أسود) من النيل الأزرق ونهر عطبرة عبر مناطق السودان الشمالية. كما شاركت منطقة أعالي النيل الأزرق في تجارة بلاد بُونْت Punt المشهورة عبر البحر الأحمر، والطرق البرية عبر السودان شمالاً، إذ يرى بعض الباحثين أن بلاد بونت كانت تشمل أعالي نهري النيل الأزرق وعطبرة.
كما يرى عالما المصريات المشهوران، فربرخت ينكر Vorbericht Junker وفيرثC. M. Firth ، حسب ما نقل عنهما سليم حسن، أن السكان القدماء الذين يرمز إليهم بالمجموعة ج(C- Group) قد تحركوا من منطقة أعالي النيل الأزرق شمالاً حتى استقروا شمال حلفا. وكذلك جاء في وثيقة ميناء أدولس الذي يقع اليوم في دولة إريتريا، وهي وثيقة نقلها كوسماس في القرن السادس الميلادي، أن حكام مصر البطالمة غزوا ميناء أدولس في القرن الثالث قبل الميلاد، وتوغلوا في الداخل جنوب مملكة أكسوم بحثاً عن ثروات المنطقة، وعبروا نهر عطبرة ووصلوا مناطق إنتاج الذهب التي عرفت فيما بعد باسم ساسو.
وقد أولت مملكة أكسوم عنايتها منذ قيامها، بمناطق إنتاج الذهب على حدودها الجنوبية الغربية، واهتمت بالطريق المؤدي إليها المعروف بطريق ساسو. وكان ملوك أكسوم وغيرهم من التجار يتحصلون على ذهب ساسو عبر ملك أجاو في قوجام جنوب بحيرة تانا (انظر الخريطة رقم 1)، حيث تقوم قبيلة الأجاو بقيادة وحراسة قوافل التجارة. وكان التجار يأخذون معهم الملح الذي يمثل أهم سلع التبادل، إلى جانب الحديد وبعض السلع الأخرى. وعندما يصل التجار إلى منطقة التبادل يضعون بضاعتهم وينسحبون، ثم يأتي أهل المنطقة ومعهم الذهب ويضعون كمية من الذهب للبضاعة المعروضة وينسحبون. ويعود سكان المنطقة، فإذا رأوا التجار قد أخذوا الذهب يأخذون السلع المعروضة، وإن وجدوا التجار لم يأخذوا الذهب دلَّ ذلك على عدم قبولهم بالذهب الموضوع مقابل السلعة، وعليهم زيادة كمية الذهب. وهكذا تتم معاملة المقايضة. وتعرف هذه الطريقة في البيع بـ"التجارة الصامتة" أو "التجارة البكماء"، وكانت معروفة في عمليات التبادل في كثير من مناطق جنوب الصحراء الكبرى.
ويرى المؤرخون كرفورد وترمنجهام وسلاسي أن وثيقة ميناء أدولس التي ترجع إلى القرن السادس الميلادي، التي كتبت عن طريق الذهب إلى ساسو (أوساسون( في غرب إثيوبيا، تشير إلى منطقة إنتاج الذهب في منطقة فازوغلي الحالية التي يرى كرفورد أنها منطقة خور تومات الحالي. وقد وصلت حملة إسماعيل باشا في يناير عام 1822 إلى هذه المنطقة بحثاً عن الذهب.
ورغم أنه لم ترد إشارة في المصادر إلى مملكة قديمة في منطقة فازوغلي يرجع تاريخها إلى تلك الفترة المبكرة، إلا أن النشاط التجاري المبكر والارتباط بالعالم الخارجي يتطلب التطور المبكر للنظم الاجتماعية والسياسية في المنطقة، مما يرجح قيام مملكة في منطقة فازوغلي منذ وقت طويل قبل قيام مملكة الفونج في سنار، ويعزز ذلك ما ورد في الروايات الشفهية المحلية.
تناول التراث الشفهي في المنطقة قيد الدراسة عدداً من الروايات التي تطرقت إلى قيام مملكة فازوغلي. والرواية الأكثر شهرة هي التي سجلها المك زكريا بن المك حميدة حول ارتباط قيام مملكة فازوغلي في هذه الرواية بحضور المهاجر الأموي داؤود بن خالد بن اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي دخل فازوغلي في عصر الملك الجاكر بن حمادة بن سامي بن سليمان بن داؤود في عام 812 هـ الموافق 1427م. ويلاحظ هنا عدم الدقة في تحويل التاريخ من ميلادي إلى هجري أو العكس. فعام 812 هـ يقابل عام 1409 م، وعام 1427 م يقابل عام831 هـ.
ونقل المك زكريا رواية مصدرها المك الحسن بن مطر الذي عزله إسماعيل باشا عام 1822م، جاء فيها أن أول ملوك فازوغلي هو المك فاجاك بن حمادة بن سليمان بن داؤود الذي تولى العرش عام 782 هـ الموافق 1397م. ويلاحظ هنا أيضاً عدم دقة المقابلة بين التواريخ إذ أن عام 782هـ يوافق عام 1380م، وعام 1397م يوافق عام 800هـ، بينما تذكر رواية المك علي عبد الرحمن دفع اللهان بداية حكم الملك الجاتر (تكتبه الرواية بالتاء وليس الكاف كما في رواية المك زكريا) بن حمادة بن سامي بن سليمان بن داؤود كانت عام 1415م.
وقد اختلفت الروايات في اسم أول الملوك ما بين الجاكر والجاثر وفاجاك، واتفقت في ذكر بقية الأسماء. وترجع الروايات وصول المهاجر الأموي إلى فازوغلي إلى نهاية القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر الميلاديين. ويتضح من الروايات أن مملكة فازوغلي كانت قائمة عند وصول هذا المهاجر. ويبدو أن أحداث الحروب في الحبشة في القرن الرابع عشر الميلادي، وما ترتب عليها من تحركات سكانية وتغيرات سياسية، ظلت حيَّة في الذاكرة الشعبية لسكان منطقة فازوغلي وارتبطت بقيام مملكتهم.
وتقول رواية المك زكريا أن حدود مملكة فازوغلي امتدت جنوباً إلى فداسي (وفقاً لخريطة جعفر مصطفى عابدون – خريطة رقم 2 – تقع في الأراضي الاثيوبية شرق دمينة أصوصا) وشرقاً إلى بني شنقول في جبل بربر وشمالاً إلى أم بارد (في منتصف الطريق بين السوكي والروصيرص) وغرباً إلى فرحانة (في منطقة الدود بين ولايتي النيل الأزرق وسنار). وتواصل الرواية أن مؤسس مملكة فازوغلي ينتمي إلى قبيلة الفونج التي تعرف باسم الجبلاويين نسبة لاختيارهم سهول الجبال. ومن المعروف أن الفونج ليست قبيلة، بل أسرة انتسب إليها السكان الذين صاهرتهم الأسرة الفونجية.
وتتفق روايتا المك زكريا وعلي عبد الرحمن على أسماء أربعة ملوك حكموا بعد مؤسس المملكة، وهم: التنكار، وجلال الدين، ومحمد، وأزوزة (يكتب أحياناً عزوز). وتوضح رواية المك زكريا أن أسماء هؤلاء الملوك لم ترد في كتب التاريخ والرحالة، بل وردت في مستند ملك فازوغلي أموشد (الأموشتر في رواية بابكر دفع الله أبوعزة أحمد)، والملك أموشد هو الذي تولى الملك قبل الملك حسن مطر. وقد ذكرت رواية علي عبدالرحمن في أن حكم هؤلاء الملوك الخمسة امتد لمئتي سنة، وانتهى عام 1615م. ويتفق هذا التاريخ مع روايته التي جعلت بداية المملكة عام 1415م.
ويوجد تاريخ على نحاس ملوك فازوغلي الذي يرجع إلى عصر المك جلال الدين التنكار، وهذا التاريخ، كما جاء في النسخة المطبوعة من رواية المك زكريا، هو عام 1313م. وقد رأيت النحاس في فازوغلي، وحسب قراءتي للتاريخ فإنه عام 1303م. والمك جلال الدين التنكار هو الملك الثالث في قوائم ملوك فازوغلي. وقد جاء في رواية الملك علي عبد الرحمن أن مدة حكم الملكين الأولين خمس وسبعين سنة.
فإذا اعتبرنا أن تاريخ النحاس وفقاً لرواية المك زكريا عام 1313 يمثل بداية حكم المك جلال الدين، فإن بداية حكم أول الملوك في القائمة تكون عام 1238م (1313 – 75 = 1238)، وباعتبار أن تاريخ الناس هو 1303م، فإن بداية حكم أول الملوك في القائمة تكون عام 1228م (1303 – 75 = 1228)، فيكون تاريخ قيام مملكة فازوغلي وفقاً لتاريخ النحاس وتقدير سني حكم الملوك في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي - يكون عام 1228م أو 1238م. وهذا التاريخ يجعل قيام المملكة قبل تاريخ رواية الحسن بن مطر بنحو 160 أو 170 سنة.
ويبدو أن قيام مملكة إسلامية في فازوغلي في القرن الثالث عشر أو أول القرن الرابع عشر مقبولاً نسبة لتطور الأحداث في الحبشة بعد اعتلاء الأسرة السليمانية العرش في القرن الثالث عشر، وبداية الحروب بين الممالك الإسلامية وملوك الحبشة.
ويلاحظ كذلك أن القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر تكرر في الروايات الشفهية المتعلقة بمملكة فازوغلي، مما يشير إلى بقاء أحداثه حيَّة في ذاكرة مواطني المملكة، مثل وصول المهاجر الأموي داؤود إلى مملكة فازوغلي وزواجه واعتلاء ابنه التنكار بن داؤود بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان العرش، ويلاحظ الفارق الزمني الكبير بين عصر خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في القرن السابع الميلادي وبين ملك فازوغلي المك الجاكر في نهاية القرن الرابع عشر الميلادي. ولعل التواريخ 1305 و1317 الواردة في رواية مبارك يعقوب طه التالية تعود جذورها أيضاً إلى أحداث وقعت في تلك الأوقات.
ومن جانب آخر، فإن احتمال وجود مملكة في منطقة فازوغلي قبل القرن الثالث عشر، أو قبل اعتناق ملوكها للإسلام، يبدو مقبولاً نسبة لعلاقات منطقة النيل الأزرق القديمة بوادي النيل في مصر والسودان، وبمملكة أكسوم والبحر الأحمر؛ فدخول منطقة فازغلي مجال التجارة الخارجية، وبخاصة تجارة الذهب، كان منذ وقت طويل قبل ظهور الإسلام.
وهنالك روايتان أخريان أشارتا باختصار إلى عمر مملكة فازوغلي رواهما مبارك يعقوب طه، وذكر أنه جمع مادتهما من أبيه وكبار أقاربه عام 1946. تقول الرواية الأولى أن حكم ملوك مملكة فازوغلي امتد لفترة طويلة بلغ 1317 سنة، وفي الرواية الأخرى بلغ حكمهم 1305 سنة. وأسس المملكة جد الجبلاويين على بن أبي سفيان.
ووفقاً لما ورد عن مدة حلكم ملوك مملكة فازوغلي، فإن تأسيسها بناءً على الرواية الأولى يعود لعام 629هـ (تاريخ الرواية 1946 - مدة حكم الملوك 1317= 629م)، ووفقاً للرواية الأخرى يعود تأسيس المملكة لعام 639م (تاريخ الرواية 1946 – مدة حكم الملوك 1307= 639م).
ووفقاً لهاتين الروايتين يعود تأسيس مملكة فازوغلى إلى القرن السابع الميلادي، أي في نهاية عصر الخلفاء الراشدين أو في بداية العصر الأموي. ولم تسجل الرواية أسماء الملوك، ولكن جعل الراوي ثلاثة وثلاثين جيلاً بينه وبين مؤسس المملكة. فإذا أخذنا في الاعتبار أن متوسط عمر الجيل 33 سنة يكون متوسط حكم كل الملوك 1089 سنة، وأن الرواية دونت عام 1946، فتأسيس المملك يقدر بنحو عام 857م (1946 ناقص 1089).
ويبدو أن تاريخ قيام المملكة في هذه الرواية مبكراً جداً بالنسبة لقيام مملكة إسلامية في فازوغلي، لأن الروايات توضح أن الملك الأول في قائمة الملوك كان مسلماً وكان قومه مسلمون. ورغم أن الملك الأول الجاكر بن حمادة بن سليمان بن داؤود يحمل أسماء ثلاثة آباء مسلمين إلا أنه لا يوجد في الروايات التي اطلعت عليها أسماء ملوك قبل المك الجاكر، ولا يمنع ذلك احتمال قيام المملكة قبل عصر الجاكر.
وقد اتفقت الروايات الشفاهية، مثل رواية المك زكريا وبابكر دفع الله، في وصول داعية إسلامي مهاجراً عام 812هـ (1409م) يدعى داؤود بن خالد بن اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان ومن معه إلى فازوغلي. وقابل داؤود الملك الذي سأله عن المكان الذي جاءوا منه، فأجاب بأنهم أتوا من مكة، وعندما علم بمهمته وهويته رحب به، وأذن له بالإقامة، وسهَّل له الإعاشة وأمر الدعوة. واستقر المهاجر ومن معه في وسط أهل جبل كاكَتُر. ونجح داؤود في نشر تعاليم الإسلام وأصبحت منطقة كاكَتُر مركزاً للعلم، وكان الملك يزورها كل شهر، وأطلق عليها اسم "فاتا مَكَة" وتعني أهل ملكة، وبمرور الزمن أصبحت تنطق "فامَكَة".
وتذكر الرواية أنه كان للملك بنت تدعى "ديشي" تساعد أباها في الحكم. وجاء في رواية بابكر دفع الله في النسخة المطبوعة، اسم بنت الملك مكتوباً "ديشني"، ولم أطلع على نص الرواية المسجل، بل اطلعت فقط على النص المطبوع. وتوضح الرواية أن "ديشي" كانت تجلس في معظم اجتماعاتها على صخرة عند مباشرتها للحكم. ولا زالت ذكرى تلك الصخرة باقية في الأذهان، وتُعرف باسم "ديشي". ونسبة لنجاح داؤود وحُسن سيرته ومحبة الناس له قرر الملك الجاكر أن يزوجه ابنته "ديشي"، فتزوجها وأنجب منها ابناً اسمه التنكار. وبعد وفاة جده تولى التنكار بن داؤود العرش مؤسساً أسرة ملوك فازوغلي. فنسب ملوك فازوغلي بناءً على هذه الرواية يلتقي بنسب ملوك الفونج في داؤود بن خالد بن اليزيد بن معاوية بن أبي سفيان. وتقول الرواية أن "ناس قُبا وناس الكيلي كلهم بينتموا لقبيلة الفونج".
مملكة البرون
يرجع قيام مملكة البرون حسب رواية عمدة البرون، عبد الله موسى، إلى القرن الثامن الميلادي، أسسها القائد سليمان بن عبد الملك، وتحدِّد الرواية تاريخ قيام المملكة بعام 140هـ الموافق لعام 757م. وتقول الرواية أن القائد سليمان بن عبد الملك هاجر ومعه عدد من الفرسان إلى بلاد الحبشة بعد سقوط الدولة الأموية يبحثون عن أرض الأمان. فدلهم ملك الحبشة إلى أرض الأمان، وهي منطقة البرون في السودان. واستقبلهم الملك بودي، ملك البرون، وسمح لهم بالإقامة في بلاده. وكان ملك البرون حينذاك في حرب مع قبيلة الدينكا، وتمكن البرون من هزيمة الدينكا بمساعدة القائد سليمان، ثم تزوج القائد سليمان الملكة "فونجة" وأنجب منها ولدين: أنس وداود. وعند وفاة الملكة "فونجة" ورث الملك بعدها ابنها أنس بن سليمان، ومن ثم صار الحكم لهم. وشملت المملكة، بناءً على الرواية، جبال البرون، وقُبا(Guba)، وفازوغلي وأداسي (Adaase)، وأبو شنينة (Abu-Shanina)، والرصيرص، والكيلي ( (al-Keeli ، وبني شنقول، وأراضي الذهب.
وتقول الرواية إن البرون كانوا يمثلون النواب للفونج قبل حلف الفونج مع العبدلاب، وتوضح الرواية أن أمير العبدلاب أتى إلى الملك عمارة في جبال البرون، وتم التحالف بينهما على حرب الجعليين. وذلك لأن العبدلاب كانوا يرون أنفسهم أحق بالحكم، لأن أجدادهم دخلوا السودان منذ عهد عبد الله بن أبي سرح، وأنهم هم الذين فتحوا سوبا وخربوا كنائسها، إلا أن الجعليين الذين أتوا بعدهم كانوا يملكون الجزائر الخصبة، وأنهم امتلكوا البلاد حتى دنقلة. وتواصل الرواية أن العبدلاب تحالفوا مع الفونج، وخرج الملك عمارة بجيشه الكبير وماله وولده من جبال البرون ودخل سنار عام 910هـ، ودانت له الجزيرة بدون حرب.
وجاء في رواية أدهم الشيخ إدريس من قرية قُلي خلطاً بين البرون والمابان. والمابان، كما يقول الأمين أبومنجة ويوسف الخليفة، يسكنون بجوار البرون، وترتبط لغتهم بلهجة البرون الجنوبية. وتقول رواية أدهم الشيخ إدريس "إنه عندما دخل الأمويون من الحبشة نزلوا عند المابان، وتزوجوا "فنجة" بنت ملك المابان، دا الشئ الأطلق عليهم اسم الفونج." غير أن الرواية نفسها عادت وذكرت أن "فنجة دي ذاتها بنت السلطان بتاع البرون"، وذكرت الرواية أن القبائل التي تنصب الملك هي: الهمج، والبرتا، والرقاريق، والبرون.

مملكة الكيلي
تربط الروايات المحلية تأسيس مملكة الكيلي بالأسرة الفونجية. فرواية أحمد عيسى البشير حسين تجعل مياس، مؤسس أسرة حكام الكيلي، من سلالة أسرة الفونج الذين "دخلوا البلد عن طريق اليمن بعد حربهم مع العباسيين في مكة، وخشُّوا باب المندب ودخلوا الحبشة واستقروا في سنار وتزوجوا الشلكاوية واسمها فنجة وجابت أنس وداؤود ديل، وناس أنس ديل أحفادهم ناس مياس". وتقول الرواية أن مياس استقر في "ديسا"Disa على بعد 15 كيلومتراً شمالي الرصيرص في موقع كان يعرف بـ"أبو مياس". ويوجد مكان في ديسا يطلق عليه الأهالي مياس وسوبا. وتقول الرواية أن دورا Dowra ابن مياس نقل مركزهم من ديسا إلى الرقراق نحو 80 ميلاً جنوباً، ثم نقله مياس بن دورا إلى موقع كيلي. وتواصل الرواية أن حي الكَدَل، وهو أحد أحياء جبل الكيلي، انتقل إثر خلاف نشب في عصر الملك حمدان، وتزاوج أهله مع القُمُز وسموا المنطقة قُبا.
أما رواية الفكي طه المحبوب التي أُخِذت عن بشير نايل حمدان، الملك السادس من ملوك الأسرة في منتصف القرن العشرين، فقد أوردت أسماء ستة ملوك تولوا العرش بعد مياس ابناً عن أب، وهم مياس، ثم بادي، ثم بشير، ثم حمدان، ثم نايل، ثم بشير. وتربط الرواية مياس بأنس ولكن تجعله من سلالة ملك سنار، بادي أبو شلوخ. وتقول الرواية أن حكم هؤلاء الملوك الستة دام بين 300 و350 سنة. وهذه المدة تقدر قيام مملكة الكيلي في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي، لأن أصول الرواية ترجع إلى منتصف القرن العشرين.
وقد ورد اسم مياس في المنطقة الواقعة إلى الغرب من موقع كيلي الحالية دون الارتباط بها، وتناول كرفورد عدداً من الروايات، جاء في رواية ترجع إلى عام 1640م أن هنالك جماعة يعرفون باسم مياس لم يحدَّد مكانهم، يبدو أنهم يقطنون في منطقة بحيرة تانا. كما وردت بعض الأسماء المرادفة لاسم مياس أو القريبة الشبه به، وربط البعض بين اسم مياس وبين اسم Maya والد الملكة جودت التي غزت الحبشة في القرن العاشر الميلادي والذي ورد في وثيقة عربية أنه توفي 1062م. كما رأى البعض أيضاً الربط بين المياس Mias الذين كانوا يعيشون في النصف الأخير من القرن السادس عشر في منطقة Voge. ويرى كرفورد أن اسم Myass ربما ارتبط باسم قلعة Maia شمال داموت وجنوب نهر أباي، حسب ما جاءت على خريطة Egyptus Novilo التي جُمعت مادتها في نحو عام 1454م (خريطة رقم 3).

الممالك التي تحكمها ملكات
تعتبر الروايات الحبشية عن الممالك التي تحكمها ملكات، من أقدم الروايات عن الأوضاع السياسية في منطقة أعالي النيل الأزرق ونهر أباي، إذ ربطت تلك الروايات بين هذه المنطقة وملكة مملكة داموت التي غزت مملكة أكسوم في القرن العاشر الميلادي. وقد اقترن ذكر حكم الملكات في الروايات الحبشية بمنطقة فوج Voge التي ورد أنها تجاور مملكة داموت، ويحدها من الشمال نهر أباي ومديرية العرب. وقد ربطت الروايات التي رواها الراهب الحبشي توماس في أول القرن السادس عشر بين هذه المنطقة وبين الملكة التي غزت الحبشة وقتلت ملكها في القرن العاشر الميلادي، ووضح الراهب توماس أن منطقتي فوج وناريا والمناطق المجاورة لهما تحكمها ملكات وليس ملوك، وأنهن يحاربن كالرجال. وفي القرن الخامس عشر خضعت مملكة فوج لملوك الحبشة.
وربما كانت مملكة فوج هي المملكة الكوشية التي أشارت إليها بعض الروايات الحبشية؛ فقد ذكر سلاسي وجود روايات عن مملكة كوشية قوية غرب قوجام استمرت حتى نهاية القرن الثالث عشر الميلادي. ونقل الرحالة فردريك كايو – الذي رافق إسماعيل باشا في غزوه لمنطقة فازوغلي - ما ورد في التراث المحلي أن مملكة سنار قامت منذ وقت طويل و"حكمتها اثنتا عشرة ملكات وعشرة ملوك قبل قيام دولة سنار في أول القرن السادس الميلادي". ولا يزال التراث الحديث يحمل أخبار الملكات في المنطقة، مثل الملكة فُنْجانة، والملكة آمنة الركابية، وهي الملكة التي ينتسب إليها أبناء الصعيد، التي لا تزال أطلال قصرها موجودة حتى اليوم في مرتاصورور بالقرب من مطينة أورا وأبنغرو. وينبغي على المهتمين بتراث هذه المناطق تسجيل التراث الشفاهي عن أولئك الملكات، وعن دور المرأة بصورة عامة في فترة ما قبل قيام دولة الفونج في سنار وما بعدها.
مملكة الفونج قبل انتقال الأسرة إلى سنار
لقد رأينا فيما سبق كيف ربطت الروايات أسرة الفونج قبل انتقالها إلى سنار بمنطقة أعالي النيل الأزرق. وقد تضمن التراث السوداني عدداً من الروايات عن دخول أسرة الفونج السودان وتأسيسها لمملكة امتدت لفترة طويلة من الزمن قبل انتقالها إلى سنار. وسنتتبع هنا بعض تلك الروايات التي انتشرت في منطقة أعالي النيل الأزرق وخارجها فيما يتصل بهذه المملكة.
اتفقت الرواية الشفهية المحلية في منطقة أعالي النيل الأزرق وبعض مناطق السودان الأخرى، مثل دنقلة والبطانة والكاملين، أن أسرة الفونج دخلت السودان عبر الحبشة وأسسوا ملكهم وحكموا فترة طويلة قبل انتقالهم إلى سنار. وتذهب أغلب الروايات مثل روايات عمدة قُلي وأدهم الشيخ إدريس ومحمد بن معروف إلى أن أسرة الفونج عند دخولهم السودان استقروا في منطقة لُولْ Lul. وورد اسم لول في المخطوطات بطرق مختلفة مثل لولو وأولو، وعند روبيني لامؤول (ul’Lam). وسنرجع إليها هنا بـ"لول" كما ورد على نحاس الفونج المنقول أدناه، وكذلك في أغلب المخطوطات. وتوضح رواية عمدة قُلي أن بعضاً من أسرة الفونج استقر في لول، وذهب بعضهم إلى الكيلي وبعضهم إلى فازوغلي.

نحاس الفونج
After A. B. R. 1921, p 211
وذكرت رواية عمدة منطقة رورو Rooro أن مؤسسي أسرة الفونج "جاءوا من الحبشة ودخلوا الروصيرص في مكان اسمه الداخلة ثم انتقلوا إلى بوك ثم إلى أم عضام حيث مكثوا طويلاً، ثم وجدوا الماء في جبل وسكنوا رورو". وتقول رواية عمدة قلي، الهادي محمد عبد القادر التلتل: "الفونج وحدين جوا عن طريق الحبشة وجوا لي جبل أولو". أما روايتا أحمد عيسى البشير وعمدة قلي فذكرت أن الفونج كانوا يسكنون منطقة في شرق النيل الأبيض، "وكان بينهم وبين الشلك غزوات ومشاكل ... والفونج لمان شافوا نفسهم أقلية والشلك تغلبوا عليهم نزحوا إلى أولو".
وذكرت مخطوطة محمد بن معروف أن العمريين هم من سلالة عمرو بن سليمان الأموي، وهم الآن حكام السودان. وقد تزاوجوا مع الهمج أهل لولو حتى أصبحوا مثلهم في كل شيء، ويُعرفون الآن بـ"الفونج". ثم يقال إنهم حكموا السود في السودان وبلاد الهمج حتى ذابوا فيهم وأصبحوا يُعرفون بـ"الفونج".
وتقول رواية عمدة قلي، الهادي محمد عبد القادر التلتل: "الفونج وحدين جوا عن طريق الحبشة وجوا لي جبل أولو". وتوضح الرواية موقع أولو قائلة: "أولو أربعة جبال، وهي وسط هذه الجبال، وهنالك حجر غرب الحلة، يعني في الحلة حجر كبير مسمنِّو لولو، وهو الحجر الذي ينصب فيه ملك سنار... ولولو هو اسمها الحقيقي إلا أن العرب أطلقت عليها أولو". وتصف رواية أدهم الشيخ إدريس طريق موكب التتويج من سنار إلى أول زمن الخريف قائلة:
يقوموا من سنار بالجمال لغايت ما يصلوا لولو في 13 يوم. وإذا انت الليلة تمشي من هنا لغايت ما تصل لولو أظنه يلاقيك أكثر من خمسة أو ستة خور كبير. وفي الخريف اللاندروفر يغطس، ونحن نمشي بالحمير، والحمير ذاتها بتوحل في الخريف والطينة زرقاء وطينة غزيرة وبعدين في محل محبس موية، وفي محلات كبيرة تلقى مسافة تلاتة كيلو ماسكة موية والحصان والحمير يوحلوا، وأنا سافرت من هنا [قلي] إلى لولو بالحمار، ونحن من هنا بنقوم لغايت ما نصل أولو في أربعة يوم وتقريباً 120 كيلو في الخريف".
ووصف الرواية لطريق موكب تتويج السلطان من سنار إلى لولو من كثرة الخيران والطين والوحل يشبه وصف الرحالة روبيني للطريق الذي سلكه من لولو (ul’Lam) إلى سنار. وقد زار الرحالة روبيني السلطان عمارة بن السلطان بادي في مقر إقامته في لول عام 1523. ذكر روبيني أنهم قطعوا المسافة في ثمانية أيام، حيث عبر عدداً كبيراً من الأنهار، وذكر أنه يوجد نهر من الطين تغرس فيه الخيل حتى بطونها. وقد شك بعض الباحثين في وصف روبيني هذا ودعموا به شكهم في موقع لول. غير أن وجود عدد كبير من الخيران المليئة بالمياه يمكن أن تكون في نظر روبيني أنهاراً. ويتطابق وصفه للنهر الطيني مع ما ورد في الرواية. وقد قطع روبيني المسافة في وقت أقل من زمن موكب السلطان، وهذا يبدو مقبولاً لأن العدد الكبير من المرافقين في الموكب لا يساعد في سرعة السير، إضافة إلى أن روبيني كان مستعجلاً في سفره.
ووصفت رواية أدهم الشيخ إدريس لول بأنها "فيها أربعة جبال، وأولو زاتها في وسط الجبال، ولولو دي غربها، غرب الحِلَّة (القرية)، وفي الحِلَّة ذاتها حجر كبير مَسَمِّنُّو لولو، ودا البجيبو فيه الملك بتاع سنار وينصبوه فوقو". وتوضح رواية عمدة البرون مكان لولو قائلة: "الفونج بالصعيد وهم جنود لولو، والصحيح أولو، وهي منطقة تقع جنوب غرب الدمازين الآن". ولول - أو أولو كما تنطق محلياً – عمودية تابعة لنظارة قُلي غرب الدمازين.
وتقول رواية كاتب الشونة (مخطوطة فيَّنا) "أن ابتداء أمر الفونج كانوا بمحل يعرف بـ"لولو" بتفخيم اللامين، فكانوا بها على قدر ما أراد الله إقامتهم به، ثم انتقلوا إلى جبل موية". أما رواية عمدة قلي، الهادي محمد عبد القادر التلتل فتقول: "الفونج وحدين جوا عن طريق الحبشة وجوا لي جبل أولو". بينما ذكرت مخطوطة محمد أحمد عمر أن سليمان بن عبد الملك هاجر من الحبشة إلى جبال الفونج وتزوج ابنة الملك صندل العاج وأنجب منها ابنيه أودون وأنس.
وفي رواية أخرى لكاتب الشونة (مخطوطة نوتنجهام) أن مؤسس أسرة الفونج رجل أتى من الصعيد (الجنوب) إلى قوم "يقيمون في كيلي ... فنزل بهم، ونظر إلى أحوالهم ... فزوجوه بنت ملكهم، ولدت له ولداً فلما نشأ وكبر مات جده فاتفق رأيهم أن يجعلوه محل جده ويتبعوه الكل ففعلوا ذلك ولذلك سموا بـ"الأونساب"، وأقاموا بمحلهم المعروف ... ثم انتقلوا إلى جبل موية".
هذا، بينما لم تحدِّد بعض الروايات الأخرى، منها مخطوطة الشيخ طاهر بن عبد الله الركابي، ومخطوطة إسحاق محمد شداد البديري الذي ذكر أنه اعتمد على مخطوطة السمرقندي الأصلية - لم تذكرا المكان الذي نزلت فيه أسرة الفونج، بل ذكرتا أن الفونج ينتسبون إلى سليمان بن عبد الملك الأموي الذي نزل من الحبشة على أحد ملوك السودان، وتزوج ابنته وأنجب منها داؤود وأنس (أونسة)، وبعد موت سليمان حُرِّفت أسماء ابنيه؛ فتحول اسم داوود إلى "أودون" وعرفت سلالته بـ"الأودوناب"، وتحول اسم أنس إلى "أونسة" وعرفت سلالته بـ"الأونساب"، وتولوا الملك ملكاً بعد ملك حتى أصبحوا ملوك السودان المشهرين في التاريخ.
ولم تتفق الروايات في تحديد الأسرة التي تزوج منها الفونج عند دخولهم السودان؛ فبينما ذكرت رواية البرون أن القائد سليمان بن عبد الملك تزوج ابنة ملك البرون وأنجب منها ابنيه أودون وأونسة، لم تحدِّد مخطوطتا الشيخ طاهر بن عبد الله الركابي وإسحاق محمد شداد البديري اسم الملك الذي نزل عليه سليمان وأتباعه، بل ذكرت أنه أحد ملوك السودان، وأن سليمان تزوج ابنته. بينما ذكرت مخطوطة محمد أحمد عمر أن سليمان بن عبد الملك هاجر من الحبشة إلى جبال الفونج وتزوج ابنة الملك صندل العاج وأجب منها ابنيه أودون وأنس. ولم توضح الرواية اسم بنت ملك صندل العاج.
وأوضحت بعض الروايات الأخرى أن الأسرة التي تزوج منها سليمان بن عبد الملك؛ فذكرت رواية البرون أن سليمان تزوج بنت ملك البرون. وذكرت رواية أحمد عيسى البشير أن الأمويين تزوجوا "امرأة شلكاوية من القبائل المحلية الجوة اسمها "فُنْجا" أنجبت أنس وداؤود". وتقول رواية عمدة قلي: "ازِّوجوا من الهمج أو من العنج ما عارف". وتؤيدها مخطوطة محمد بن معروف التي ذكرت أن العمريين سلالة عمرو بن سليمان الأموي، وهم الآن حكام السودان. وقد تزاوجوا مع الهمج أهل لولو حتى أصبحوا مثلهم في كل شيء ويُعرفون الآن بـ"الفونج". ثم يقال إنهم حكموا السود في السودان وبلاد الهمج حنى ذابوا فيهم وأصبحوا يُعرفون بـ"الفونج".
وقد جعلت أغلب الروايات اسم المهاجر الأموي هو سليمان بن عبد الملك، بينما جعلته مخطوطة محمد بن معروف، عمرو بن سليمان الأموي. وذكرت مخطوطة أسرة الشيخ طلحة أن "العمريين أبناء سليمان بن عمر بن عبد الملك".
إذا استثنينا الرواية التي ذكرت أن مؤسس أسرة الفونج تزوج إمرأة شلكاوية، فإن كل الروايات الأخرى ربطت مؤسسي أسرة الفونج بملوك وسكان المنطقة الواقعة غرب وجنوب غرب مدينة الدمازين الحالية، لأن لول ورورو والكيلي وجبال الفونج تقع في هذه المنطقة. فإذا افترضنا أن أسرة الفونج كانت تغيِّر مكان إقامتها من وقت لآخر داخل هذه المنطقة، فإن لول أتت في الروايات أكثر ارتباطاً بمقر الأسرة. وقد كانت مقراً للأسرة عندما زار الرحالة روبيي، الملك عمارة دنقس بن السلطان عدلان قبل الانتقال إلى سنار.
وهنالك بعض الروايات التي ربطت أسرة الفونج ببعض مناطق إرتريا الحالية قبل دخولها السودان، مثل الروايات التي ذكرها الشاطر بصيلي عن القصص المتواترة عن محلات للفونج في ريالاف بالقرب من ريبا الواقعة على وادي أقرة في إرتريا. وتقول الروايات أن الجد الثالث لقبيلة "منسا" التي كانت تسكن جنوب الحباب هو "فُنجاني"، وهنالك بلدة تعرف باس "عد فنجاني" تقع على بعد 30 ميلاً جنوب خور اقوردا.
وليس من السهل تحديد تاريخ قيام مملكة الفونج قبل انتقال الأسرة إلى سنار، ويتطلب ذلك مزيداً من البحث في الآثار، وثقافات المنطقة، والروايات الشفهية، وتاريخ قرى ومدن المنطقة. ولكن من المؤكد أن المملكة كانت قائمة قبل عصر الملك عمارة. نعم كان الملك عمارة حسب الروايات، الملك الأول في سنار، ولكنه لم يكن الملك الأول في الأسرة، كما أشارت إلى ذلك روايات المنطقة. والدليل الأقوى في ذلك، ما ورد على نحاس الفونج من أن والد عمارة كان ملكاً: "نقارة الدار - نقارة السلطان عمارة بن السلطان عدلان جدهم الكبير الجا من أول". والأمر الذي يدعو إلى الحيرة والتساؤل الملح هو تجاهل السلطان عدلان، ليس في كتب التاريخ المتداولة فقط، بل تجاهلته أيضاً الروايات المتواترة بالمنطقة. فقد جعلت قائمه نسب الفونج السلطان عدلان شيخاً، وليس ملكاً. جاء في القائمة عمارة بن الشيخ عدلان بن الشيخ نول بن الشيخ ناصر، ثم ترتبط الأسرة بالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. وورد في رواية أحمد عيسى البشير: عمارة دنقس ود عدلان ود الشيخ نوار ود داؤود ود ناصر ود عبد الملك بن مروان.
من الواضح جهل أو تجاهل الروايات لأسلاف السلطان عمارة حتى إنها تجاهلت السلطان عدلان الذي يرون اسمه مكتوباً على النحاس. فتاريخ مملكة الفونج وتاريخ ممالك منطقة أعالي النيل الأزرق قبل انتقال أسرة الفونج إلى سنار في مستهل القرن السادس عشر الميلادي في حاجة ماسة إلى البحث والدراسة.

الخاتمة
ساهمت منطقة أعالي النيل الأزرق بثرواتها الطبيعية – وعلى رأسها الذهب - في النشاط التجاري المبكر مع المناطق المجاورة لها شمالاً بين البحر الأحمر ونهر النيل. وقدد تناولت المصادر القديمة ذلك النشاط مع مصر القديمة ومملكة كوش ومع اليونان والرومان. وازداد ذلك النشاط التجاري والتواصل في النصف الثاني من الألف الأول بعد الميلاد مع التطور الذي شهدته حركة التجارة العالمية بانتشار الإسلام. وأدى ذلك النشاط إلى تطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في منطقة أعالي النيل الأزرق، فقد حفظت لنا الذاكرة الشعبية وبعض وثائق المنطقة عدد من الممالك ونشاطها وعلاقاتها مع مملكة علوة وممالك الحبشة حتى القرن الخامس عشر الميلادي. وقد سلط هذا الموضوع بعض الضوء على ذلك التراث الذي يتطلب العناية والدراسة من الباحثين والتعريف بدوره في تاريخ السودان القديم والوسيط.

نشر هذا الموضوع بمجلة الدراسات السودانية التي يصدرها معهد الدراسات الافريقية والآسيوبة، جامعة الخرطوم، المجلد السادس والعشرون، أكوبر 2020 ص ص 23 – 48.
لم تشر المراجع إلى أسماء أولئك الملكات أو أسماء ممالكهن.
Jane Roy (2011): The politics of trade. Egypt and Lower Nubia in the 4th Millennium BC. Leiden, p.264.
Walles Budge (1907): The Egyptian Sudan: its History and Monuments. London, p.272-273.
سليم حسن، سليم حسن (2000): تاريخ السودان المقارن إلى عهد بيعانخي، القاهرة: شركة نهضة مصر للطباعة النشر، ص75.
“Periplus of the Erythrean Sea”, published in William Vincent (1907): The Commerce and Navigation of the Ancients in the Indian Ocean. London, pp.541, 550.
Ibid., p.541, note no. 39.
O.G.S. Crawford (1955): Ethiopian Itineraries circa 1400 – 1425. London: Cambridge University Press, p.80; J.S. Trimingham (1965): Islam in Ethiopia. London: Routledge, p.48; S.H. Sellassie (1972): Ancient and Medieval Ethiopian History to 1270.Addis Ababa: (n.p.), p.60, 65, 131.
O.G.S. Crawford (1951) the Fung Kingdom of Sennar: with a Geographical Account of the Middle Nile Region. Gloucester: John Bellows LTD, pp.281–283.
رواية المك زكريا بن الك حميدة رجب، مك عموم جبال فازوغلي، "ملوك فازوغلي" سجلت في مدينة فازوغلي يوم 15/3/2005، أعدها مهدي حامد أحمد، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق / 9.
مضمنة في رواية المك زكريا بن المك حميدة السابقة.
رواية علي عبد الرحمن رجب، مك عموم جبال فازوغلي، "ملوك فازوغلي" سجلت في مدينة فازوغلي يوم 15/3/2005، أعدها مهدي حامد أحمد، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق / 9.
- "فداسي" المقصودة هنا هي صاحبة الاسم الأصلي، والكائنة داخل الأراضي الإثيوبية، وليست هي "فداسي" الواقعة شمالي ودمدني في الطريق إلى لخرطوم؛ فهذه مسماة على الأولى.
بني شنقول منطقة واسعة، وربما المراد هنا سلطنة بني شنقول المشار إليها على الخريطة رقم 2 بمملكة بني شنقول رقم 1.
مبارك يعقوب طه، "رواية تاريخ مملكة فازوغلي" تم تسجيلها 21/ / 10 / 2004 بحي الرياض بالدمازين أعدها مهدي حامد أحمد، متحف فازوغلى، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق / 2
رواية مبارك يعقوب طه عن تاريخ مملكة فازوغلي، تم تسجيلها 21 / 10 / 2004 بحي الرياض بالدمازين. أعدها مهدي حامد أحمد. متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق /2
بابكر دفع الله أبو عزة، من أعيان الفونج، "رواية تاريخ مملكة فازوغلى"، سجلت الرواية في الدمازين في يوم 30/ 9/ 2004.
رواية العمدة عبد الله موسى في الدمازين، "سلسلة تاريخ قبيلة البرون"، نقلها عيسى عبد الرحمن عيسى يوم 15/1/ 2018. تحصلت على نسخة من الرواية أثناء زيارتي للدمازين في بناير 2018).
الأمين أبومنجة محمد ويوسف الخليفة أبوبكر (2006): أوضاع اللغة في السودان. الخرطوم: معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، ص190.
رواية أدهم الشيخ إدريس، قرية قلي، "تاريخ قلي"، أعدها مهدي حامد أحمد يوم 14/2/2005، متحف فازوغلي، محفوظات الروايات الشفهية رم 6.
Crawford (1951), op.cit., pp.153 - 154.
رواية أحمد عيسى البشير حسين، من قرية الكيلي21، تم تسجيل الرواية يوم/10/2004، متحف فازغلي، أعدها مهدي حامد أحمد، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق/3.
رواية الفكي طه المحبوب، من أعيان الفونج، سلالة ملوك كلسي، 21/10/2004، "روايات تاريخ الكيلي"، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق (4).
O.G.S. Crawford (1955), op.cit., p.81 – 82.
أباي هو اسم النيل الأزرق في إثيوبيا.
Ibid, 15.
Crawford (1955), op.cit., p.80, 141.
Sellassie, op.cit., p.230.
فردريك كايو (2012): رحلة إلى مروي والنيل الأبيض وما وراء فازوغلي، ترجمه الدكتور فضل الله إسماعيل علي. الخرطوم: جامعة السودان المفتوحة، ص181.
جعفر مصطفى عابدون (ب.ت): بني شنقول الأرض والشعب. (ب.م): (ب.ن)، ص 4 و6.
رواية عمدة قلي، الهادي محمد عبد القادر التلتل، "تاريخ قلي"، سجلت الرواية يوم 17/2/2005، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق/7.
تفس الرواية.
محمد بن معروف، "مخطوطة محمد بن مغروف" في:
H. A. MacMichael (1967): History of the Arabs in the Sudan, Vol. 2, 2nd impression, London: Frank Cass & Co. Ltd., p.364.
A. E. R. (1921) “The Fung Drum or Nihas”, Sudan Notes and Records, Vol. 4, Part 4.
رواية آدم زايد محمد حران، عمدة رورو، 18/12/2005 "رواية تاريخ منطقة رورو" (8)، متحف فازغلي، محفوظات الروايات الشفهية ج ن ق/8).
رواية عمدة قلي السابقة.
محمد بن معروف، مصدر سابق.
رواية عمدة قلي السابقة.
رواية أدهم الشيخ إدريس السابقة.
S. Hillelson (1933): “David Reubeni: An Early Visitor to Sennar” Sudan Notes and Records Vol. 16 part 1.
عمدة البرون، مصدر سابق.
أحمد بن الحاج أبو عاي (ب.ت)، مخطوطة كاتب الشونة: تاريخ السلطنة السنارية والإدارة المصرية، تحقيق الشاطر بصيلي عبد الجليل، القاهرة: سلسلة تراثنا وزارة الثقافة والإرشاد القومي، ص6.
أحمد بن الحاج أبو علي (2018): تاريخ ملوك سنار والحكم التركي المصري فس السودان 910 – 1288 هـ / 1504 – 71/1272 م، تحقيق يوسف فضل حسن، الخرطوم: دار مدارك للطباعة والنشر، ص51.
- MacMichael, op.cit., p.36, 104
- ibid., p.346.
- ibid. idem.
- ibid. p.132.
الشاطر بصيلي (2008): معالم تاريخ سودان وادي النيل من القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي.القاهرة: مكتبة الشريف الأكاديمية، ص49.
قائمة نسب الفونج، المك زكريا بن المك حميدة.
رواية أحمد عيسى البشير السابقة.

/////////////////////////////////////

 

آراء