مناضلوا الكيبورد أو المرافضون الجدد

 


 

 


Mohamedmosa.imam@gmail.com
ليست الثورات لعبات أطفال , ولا مناقشات أكاديمية تمس فيها الكرامات في مصادمات صاخبة , ولا مثاقفات أدبية لا يهدر فيها إلا المداد ! ان الثورة تعني الحرب أي تهديم الأشخاص والأشياء . ومن الطبيعي أن نشفق على الإنسانية لأنها لم تخترع بعد وسيلة أكثر سلمية للتقدم . ولذلك فان التاريخ لم يخطُ حتى الان أي خطوة الى الامام الا بعد ان عُمّدت بالدم . ولا تستطيع الرجعية ان تلوم الثورة على ذلك , لأنها كانت هي دائماً التي سفكت من الدماء أكثر من الثورة . ان الثورة هي اسقاط الدولة .
لقد شهدنا بأعين جاحظة واستمعنا بآذان بارابوليكية parabolic الأحداث السريعة الجارية على البلدان المتوسطية ابتداء بتونس الخضراء وانتهاء بقاهرة المعز . لقد ودّع العالم – كل العالم – العام الفائت بطريقته وودعه الشعب التونسي بثورة شعبية هوجاء أطاحت برئيس البلاد زين العابدين بن على الذي حكم البلاد بقبضة بوليسية محكمة أمّنت له فترة حكم لمدة ثلاث وعشرون عاماً . إلا أن تجاهله لمطالب شعبه وعدم إنصاته أو الالتفات لهموم مواطنيه البسطاء جعله يدفع الثمن غالياً . هكذا تسارعت الأحداث وهبّت نسمة الياسمين على قاهرة المعز واجتاحت رياح التغيير نظام الحكم فيه فهزّت أركان الدولة وخلعت كرسي الرئيس , ليس تغييراً من أجل التغيير ولكن يأساً وقنوطاً من نظام فاسد تبنى نهج التحقير بالشعوب . نظام مرّغ كرامة الشعب المصري على حساب العطايا والمعونات الدولية ربما لحسابات يعلمها المبارك لتجنبه صداماً مع الجارة اسرائيل . الا أنه بحسابات الربح والخسارة خرج الشعب المصري من هذه المقاولة بخسارة كبيرة جعلته يثور على النظام بكامله . إن الشعوب الثائرة تعتمد في المقام الاول على الشباب الطلاب , فهم عماد كل ثورة , وبصرف النظر عن ماهية وكينونة أي ثورة سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية فانها عندما تندلع تقضي على كل شيئ وتعيد صياغة وتشكيل الأوراق والأجندات من جديد . تختلف شخصيات هؤلاء الشباب بمختلف فئاتهم الطلاب والعاملون الذين يقودون هذه الحركات , كما تختلف تنظيمات الهيئات أو الجمعيات التي تؤثر فيها . ولكن الطابع المشترك بينها كلها هو طابع رفض ما هو كائن والتوق الى ما يجب أن يكون . ان الشباب الذين يقودون هذه الحركات هم "رافضة" أو "مرافضوا" الأنظمة القمعية القائمة على الإستبداد والظلم والجشع . وأكثرهم يرفض واقع اليوم كما رفض آباؤهم واقع الأمس . ولكن قبول الآباء بواقع اليوم هو الذي يجعل الحركة تبدو وكأنها ثورة الأبناء على الآباء . لقد احتكرت السلطة الواقع زمكانياً ولم تجد الشعوب متنفساً واجتهد الشباب والطلاب خصوصاً لإيجاد آليات أخرى بديلة للتعامل مع هكذا واقع , وعندما ضاقت بهم الأرض بما رحبت لجأوا الى المجال الإفتراضي وكان الأثير أنجع آلية يمكن استخدامها في ظل واقع يؤثم فيه المرء على رأي أو فكر أو حتى حلم . لقد اختار الشباب الإنترنيت ساحة حرب بديلة للساحات التقليدية وكانوا فرساناً أسفيريون أشباحاً يأكلون الطعام ويمشون بين الناس . لم يكن هؤلاء الشباب مطلبيون أبداً , كانوا في غاية البساطة حتى في اختيارهم لأدواتهم النضالية . لقد (تساووا في الشعور بالظلم , امتلكوا ناصية الحاسوب , تحلّوا بالصبر) . ان التكتيك الثوري الذي يطبقونه هو وليد تمردهم على الوضع القائم أكثر مما هو وليد نظرية ثورية جديدة للإستيلاء على السلطة . وهي تجريبية من يحرك الثورة ويتعلمها بعد أن يبدأ بممارستها . فالتحرك الثوري هو الذي يعلم الانسان فن الثورة كما ان خوض البحر هو الذي يعلم الانسان فن السباحة . وكما أن على السابح أن يبدأ أولاً بأن يسبح فان على الثائر أن يبدأ أولاً بأن يثور . لقد ساعدت التكنولوجيا كثيراً في اختصار واختزال الزمان والمكان , بل وأفرزت مصطلحات جديدة هي بمثابة شفرة بالغة التعقيد لم تصبح حكراً على الحكومات فقط , إذ أصبح الكل يتمتع بأجهزة حاسوب ذكية جداً والذي أصبح سلاحاً اساسياً في كل معترك , أما العامل الفيصل في كسب الحرب , هو العقل .
لقد حاربت الأنظمة العربية شعوبها وساستهم وسادتهم بالحديد والنار ونموذجي تونس ومصر خير برهان لم تزل آثاره باقية مرئية . ان الشباب الذي احترق في مختلف أصقاع البلدان العربية مفضلا النار على العيش في تلك الأنظمة , لم يكن قانطاً من رحمة الله بقدر ما هو مرسلاً رسالة لكل متكبر جبار فحواها أننا نحن الشباب نقبل أن تنضج جلودنا في النار على أن تهنأوا ساعة . لقد استشهد الكثير من الشباب في تونس ومصر على أيدي البوليس وتضرر الكثيرون وقد تم دحر جموع الجماهير الغفيرة الهادرة بصورة قمعية بشعة بعيدة عن كل معاني التحضر والانسانية . ان أسلوب القسوة لا يولد الا القسوة . ان الفضل الكبير لنجاح تكتيك الشباب الثوري يعود الى مواقف قوى الأمن منهم . فالقساوة التي تصطنعها هذه القوى مع الجماهير هي التي تصعد الثورة , وتجتذب أكثرية الشباب اللامبالية الى صفوف الأقلية المناضلة , وتستثير عطف الرأي العام – ولو في أول الأمر – على الثورة الشعبية . وتخدم قوى الأمن في موقفها الصلف من الجماهير الثورة الشعبية خدمة لا تعادلها أية خدمة أخرى . وقد اتخذت أكثر السلطات العربية موقفاً فظاً من الحركات الثورية الشبابية . واعتمدت في موقفها النهج التالي : "تبدأ بإظهار الحزم , وترسل البوليس , ولكنها ما تلبث أن تلين , وان تقبل ببعض التنازلات بعد أن تعجز عن السيطرة على الموقف . وكان هذا النهج أبلغ دليل على فقدان التواصل بين الأجيال . ان الشيئ الوحيد الذي يمكن أن يقال دفاعاً عن هذا النهج القاسي هو أن الشباب أنفسهم أحياناً لا يعرفون ما يريدون , أو أنهم يريدون أشياء كثيرة . ولذلك فان من العسير على السلطة أن تتفاوض معهم . ثم ان طليعة الشبان الثائرين لا تريد مفاوضات ولا تنازلات ولا ترضى الا باستسلام السلطة استسلاماً تاماً . وهذا ما أربك النظام المصري في أيامه الأخيرة , إذ ان جموع الشعب الغفيرة الثائرة كانت تردد كلمات بسيطة في فحواها عميقة في معناها (الشعب يريد اسقاط النظام) . لم يكن هناك حسابات لتبعات وتداعيات هذا السقوط , اذ ان النظام كان يعي تماماً هذه التبعات ولكن هؤلاء الشباب لم يكونوا مدركين لمعنى فراغ دستوري أو كيفية تسيير الدولة بدون نظام لمدة تفوق الست أشهر . ولذلك فانهم يحاولون أن يستفزوا ردود أفعال لا ان يظفروا بتنازلات . ولكن بوسع السلطة ان تعزل الطليعة المتطرفة فيما لو تحلت بالمزيد من البراعة والفهم في معالجة مطالب الشباب المشروعة . وكان استخدام البوليس بصورة خاصة ذا مفعول مضاد على الثورة تقريباً في كل حالة من الحالات التي استخدم فيها . ان التكتيك الثوري الشعبوي يقضي برفض التفاوض مع السلطة . لأن كل تفاوض يؤدي إلى تنازل متبادل . والشباب الثائرون لا يريدون أي تنازل جزئي من السلطة بل تنازلها الكلي عن الحكم . ولذلك يتخذون من السلطة موقف التحدي الشامل . ولكن رد السلطة على هذا التحدي هو الذي يستفز جمهور الشباب ويحوله من تحدي اقلية مرافضة الى تحدي أكثرية غاضبة . وقد تمثل لنا ذلك جلياً في جمعة الغضب وجمعة الرحيل وجمعة الصمود والتحدي , لقد أظهر الشباب المصري أنهم متماسكون وواعون تماماً لما يفعلونه رغم بساطتهم , على عكس السلطة الحاكمة التي كانت لا تزال في سكرتها حيث لم تفهم متطلبات الشعب كما لم تعي الدرس المنشود .

اقتباس :
إن الإستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال "أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة وأخي الغدر وأختي المسكنة وعمي الضر وخالي الذل وابني الفقر وابنتي البطالة وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب , أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال " . هكذا قال الكواكبي

 

آراء