مِـن القـلـبِ وَأقـرَبَ إلـى عَـفـوِ الخَاطِــرِ: في رحيل عمر جعـفـر السوري

 


 

 

(أعرف أن الموتَ عندنا باتَ كتحيةِ الصباح)
عمر جعفر السوري في وداع الصحفي اللبناني الرّاحل طلال سلمان،27/8/2023
(1)
ورَحلَ صديقي الأديب الأريب عمر جعفر السَّــوري. . رحيــلا بعـيداً عن الخاطـر وهــو صاحب الخواطر، بعيداً عن القلب وهو الأقرب إلى القلب ، ولكن لا رادّ لإرادة الخالق الأحـد، وكلّ الأمور بداياتها ونهاياتها بيـده سبحانه. .
لقد فقدتُ صــديقين عزيزين على القلب، خلال شهر أغسطـس من عام الرَّمادة هـذا الـذي تقاتل فيه السودانيون ، أولهما طلال سلمان الصحافي القدير صاحب "السفير" ، ثم من بعده رحل صديقى الموسيقار عمر الشاعر . كنت أعرف تقـديـر صديقي عمر جعفرالسوري للأستاذ طـلال سلمان، وأعرف أن علاقته به ذات خلفيات وتشكّل جزءاً من ذكرياته على أيامه العامـرة وخـلال سنواته الطويلة في الشام، بين دمشق وبيروت . كان الصحافي الأديب عمر جعفر السوري وقتها، هو الفاعل النشط أميناً مساعداً لاتحاد الصحفيين العرب في سنوات السـبعينات من القــرن الماضـي، في مستقـر الاتحاد في دمشق .
شاركني أخي الرّاحل عمر أسـاه على رحيل طلال، وبكينا الرّحيل معـاً, كتـب لــي في رسالته : ( السفير العزيز جمال . . سلام وتحية . أعرف أن الموت عندنا بات كتحية الصباح، لكن هذا خاص، شديد الخصوصية عندك وعندي، فقد رحل صديقنا الصحافي الكبير والقابض على كلمته كالممسك بالجمرة، طلال سلمان ، رحمه الله وأحسن إليه وغفر له والعزاء واحد. .)

(2)
بعدها بأيام قلائل ، فقدتُ صديقي العزيز عمر الشاعر، فكتبتُ في رثائه بعض أحــرفٍ خرجت من القلـب، وحــدّثتُ نفسـي أنْ ربّما شاركني أخي عُـمـر جعفـر الحُـزن في رحيـل صديقي الفنان عمر الشـاعر. كان ذلك في اليوم الأخيــر من أعسطـس الماضي. بعـث إلــيّ صديقي عمر جعفر بصورة لـ"كــفٍّ" معبّرة ، مطبوعاً عليها عبارة إعجـاب بما كتبـت. ما
من عاداته أن يبادل رسائلي إليه بردود من الصور الالكترونية المعبّـرة ، وما ذهب خاطري إلى أبعد من ذلـك. .
كنت أعرف شكواه من العلـل، وإن كان شــحيحا من حسـاسيته في أن يشــغل مـن حوله بالحديث عمّـا يعـلّـهُ. في إحـدى رســائله الأخـيـرة لي، ألمـح إلى ما حدا بالسلطات الكنــدية بعد تحــوّلات المنــاخ وحــرائق الغابات في كـنـدا، حيث يقـيم الرّاحـل هـناك، إلى إجبـارهم إخــلاء مسـاكنهم خـوف الحــرائـق النشــطة. عجـبـتُ للمفـارقة ، إذ نحــن في حـرب السّــودانيـين ننقـل الحرائق إلى بيوت الآمنـيـن من السكان، عكـس ما تفعل كـنـــدا. أوّاه لكم توغّـلـنـا بعيداً في أدغال التخلّـف، بما يمثل جاهلية القرن الحادي والعشرين عن جـدارة واستحقاق. .

(3)
ذلك ما أثاره تلميح الرّاحل العزيز في الأسابيع الأخيرة قبيل رحيله الفاجع، وكان ذلـك آخـر ما اسـتشعرتُ من قـلـقٍ غامض ولكـن لم يكـن ذلـك كافــيــاً لتنـبـيـهي إلــى رســــائل الخـطـــر الخـفـيــة، أوللإيحــاءات التي تحملـها الأقدار الغلّابة . طلال صحـافيّ وعمر جعفر صحافيّ مثله . ثم عُمر الشاعر وعُمر جعـفـر، وهـمـا عُـمــران مبـدعــان في غِـمـــار إبـداع عبقــريّ. لـو كان المـوت نقّـاد - على قــول الشاعر العـبّاســي ابن النـبـيـه - هل كان له أن لا يحسن الانتقاء ؟
الناسُ للموتِ كَخيلِ الطِّرادْ فالسَّـابق السَّـابق مِنهَـا الجَـوّادْ
واللـُه لا يَدعـو إلــى دارِهِ إلَّا مَن اسْتُصلِحَ مِنْ ذِي العِـبـادْ
والمَـوْتُ نـقّـادٌ عَـلى كـفِّـهِ جَـواهــرٌ يختــارَ مِنهَا الجِـيــادْ
والمَـرؤ كَالظِـلِّ ولا بـُدّ أن يزولَ ذاكَ الظلُّ بَعدَ امْتـدادْ

فإنْ كانت للموتِ يَـدٌ تنتقي فلعلها تـتـبع في انتقائـها متوالـية أسماءٍ شِـبه هندســية، ولكـن
كيف لنا أن لا نقول إلا ما يرضي الله والقبول بأحكامه. . ؟ هكــذا فجعـني رحيلُ صديقي عـمـر جعفـرالسَّوري، قبلَ يومين، مثلما فجعـني رحيل صـديقي عُـمر الشـاعر قبل نحـو أسـبوعين، ثمَّ وقـفـتُ أنا في حيـرتي بين فاجعتـيـن ، أم ترى أنّ ذلـك ما عـنته عـبارة قاب قوسين أو أدنـى. .؟ أمْ تـرانـي مثلـتُ جمـلة إعتراضـية وسـط جمـلة طــويلة مُمـتـدة، أم أنّ قـوسي قـد دنـا . . ؟

(4)
لو أجاز الناس معايير للصداقة الحقّـة بين شخصين، لكان أول معـيارٍ لها هـو الإقـتـراب المكاني والتواصل الزماني العفـوي المباشر . أما التواصل الوجـداني فذلك جائـز، ولكنه قـد لا ينجز تلك الصداقة المتينة ، ولا يحقـق تلـك الوشيجة الوثقى بين شــخصين فـرّق بينهـما المـكان والزمان ، ولن يكــون بذلـك معـيارا ركيزاً للصداقة الحقة . لكن، كيف تلك الوشيجة التي قامت بيني وصديقي عمر جعفر السوري ، توثقت وترسّـخت عبر أزمنـة مختلـفة ، إذ سنوات العـمـرلم تجمع بيننا فتتيح تواصلا مباشراً ، ولا الأمكـنة المتباعـدة يسرت تفاعلا بيننا . .؟ لن يصـدّق مَـن يعرفني أو يعرف الرّاحـل ، أننا صديقان حميمـان منذ ثمانينات القرن الماضي ، وتواصلـت تلك الحميمية وامتـدت سنوات طوالا حتى الأيام القليلة قبيل رحيله يوم الأحد السابع عشر من سبتمبر عام 2023م. لن يصدق من يعرفنا ، أننا ما التقينا وجهاً لوجـ ه ولا اجتمعنا في مكان واحـد طيلة تلك العقود، وإن كانت تلك هي أخصّ أمانينا معا : أن يجمعنا الزمن في مكان ، وكلانا قد اسـتمرأ السفر والترحـال، وما كان انتصارنا عســيراً على الجغرافيا. .

ها أنذا أداري دمعتي عن الناس، في رحيل صديقي العـزيز عُـمــر جعفر السوري، ويقيـنـي يزيد حتى في ساعة رحيله ، أننا على موعد للتلاقي ، فذلك العالم الفكري الذي أنشأناه سويا لن يخذل تلاقينا، ولن ينهي مفاكراتنا التي نسجناها معاً مثلما تنســج الطيور أعشاشها . لك أن تسألني كيف يلتقى طائران وهما في فضـاءات تتلاقى أنجـمها وتتباعــد، تأتلف أقمارها ليتسع الضياء من حولهما ثمّ لا تفتأ في كسوفها، إذا غدرت بها شمـوسٌ سـاطع نهـارها. .؟

(5)
تستدعي ذاكرتي أيّامـي في تونس وأنا دبلوماسي غِـر في سفارة للسودان توسّعت مهامها فجأة بعد رحيل الجامعة العربية بعقابيلها وأحابيلها من القاهـرة إلى تونس . لم تكن لي معـرفــة بذلك الشخص الأنيـق القادم إلى تونس زائرا . جاء إلى ســفارة السودان والتقـيـته وتعـارفــنـا سريعاً وتبادلنا عبارات المجاملة المعتادة . كان بيننا- وقتذاك - صديقي المرحـوم حسـن النـور عثمان ، وقد التحق بوظيفة في أمانة الجامعة العربية. انشغال صديقي حسن بسفره إلى مالطـا لتجهيز وتأثيث شـقته من هناك، لم يتح له تعريفي على نحوٍّ مناسب بذلك الصـديق الســوداني الذي جاء زائراً لتونس في مهمة وغادر، سِـوى إسمه الذي حفظته ذاكرتي إذّاك : عمر جعفر السوري. لكن ثمّة ومضة بقيت في الذاكرة والقلب معاً.
لا أجد ما أفصح عـنه عن كيف طفقنا معاً في إنشاء عالم يخصّنا ، وفي مساحة لم يشاركنا فيها كائن آخـر. إنّما للوجـدان لغـة وللأرواح تماثلات وللإخوة تمازج . ذلـك ما جمعــني إلـى الرّاحل العزيز عمر جعفر السَّوري، وما أبقانا متواصلين ولن نكف عن التواصل. من عفـو خواطره ومن مراسلاته معـي في السياسة والأدب، وأنا أكتب ما يعنّ لي ، مثلما هو كتب ما عنّ له، باباً أسميته "أقرب إلى القلب" ، تواثقـنا معاً أن نعدّ كتابا نجمع فـيه تلك الرسـائل التي تبادلناها ســنين عـــددا وحوَتْ عصارة تفاكـرنا ومبادلاتنا الثقافية ، فهي تشكل تمرينا وكنزاً في كتابة إبداعية في إطارأدب الرسائل، وهو باب قلّ طرقه وصار مع اجتراحات التواصل الاجتماعي، نوعاً مهجورا من الإبداع. شجَّعني الرّاحل على انجاز مخطوطة رسـائلنا معا ، وأسأل الله أن يعينني فأجـدّد عزمي لنشــرها . أما بقية ما ترك الرّاحــل العزيز من كتابات ثمينة المحــتـوى وعميقة التناول، فثقتي أن الأسـرة المكلومة، وبعد الافاقة من الحزن العميق ، فإنها لمهمة تنتظر الانجاز. إنَّ الإرث الفكري الذي خلفه وراءه الراحل العزيز، هو أمانة في أعناقنا ، ولن يعجــزنا الرّاهن المقلق من نشـرها على الملأ ، إذ كان هَـمّ الرّاحلِ العزيز هو رفعة الوطـن وعـزّته .
لك أن تنعم يا صيقي العزيز براحة أبـدية، ونعيم موعود به عـند ربِّ العالميـن، صحبتــك رحمته سـبحانه وتعالى وشـملك غفرانه.
أمّـا وأنـا أزجـر حـزناً غالبـاً ، لكم تمنيـت أن لا يخاطبـني أحد بوصف "الأديب الأريب" ، فـقـد رحلتْ تلك العبارة مع رحيـل صاحبها الذي خصّني بها صديق العـمر، عُـمر جعفر السَّـوري.

20 سبتمبر/أيلول 2023

jamalim@yahoo.com

 

آراء