حمدوك الموظف وتحديات العسكر

 


 

 

تتفوق موازين القوى التي وُقع في ظلها الاتفاق الجديد بين قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، ورئيس الحكومة عبد الله حمدوك، على الاتفاق نفسه. فالأخير هو النتيجة السياسية للانقلاب العسكري، الذي أطاح المدنيين من الحكم وحصر السلطة بيد الجيش. حمدوك نفسه الذي كان تحت الإقامة الجبرية، بدا كرهينة وافق على شروط تحريره من أسره، وليس طرفا نديا في اتفاق سياسي.
العسكر أنتجوا نسخة جديدة من حمدوك، مطواعة وخاضعة ومفصولة عن القاعدة الشعبية، المنبثقة عن الثورة السودانية، نسخة ترضي الغرب الذي يتمسك بالرجل انطلاقا من مدنيته وثقتهم بكفاءته، وفي الوقت ذاته، بلا أنياب سياسية، إذ نص الاتفاق الجديد على «تشكيل حكومة كفاءات (بلا انتماءات حزبية) أي بلا سند لرئيس الحكومة الذي سيكون أقرب لموظف أو سكرتير يسيّر، دون أن يدري، استراتيجية العسكر في إحكام السيطرة على البلد، الذي نص الاتفاق الجديد على، إشراف، مجلس السيادة المعين من قبل البرهان، على المرحلة الانتقالية فيه. ما يعني أن حمدوك الذي برر عودته لمنصبه بالحفاظ على المكاسب الاقتصادية، سيهتم بقضايا الاقتصاد فقط، ما يوفر بيئة مريحة للجيش لتنفيذ خططه، مع وضع حمدوك مجدداً في الواجهة للتصدي لأي غضب شعبي، حيال تدهور الأوضاع المعيشية.
ولم يكتف نص الاتفاق بإزاحة قوى «الحرية والتغيير» (المجلس المركزي) الرافض للانقلاب، من الحكومة، لكنه فتح الباب أمام تعويم قوى سياسية جديدة، الأرجح قريبة من العسكر، ففي حين قضى الاتفاق باعتماد «الوثيقة الدستورية لعام 2019 المرجعية الرئيسية خلال المرحلة المقبلة» فقد نص كذلك على «ضرورة تعديلها بالتوافق، بما يضمن ويحقق مشاركة سياسية شاملة لمكونات المجتمع كافة، عدا حزب المؤتمر الوطني (المنحل)». ما يدل على نية لدى العسكر لتوسيع الحاضنة السياسية المؤيدة للانقلاب على حساب تلك المعارضة له، بلغة أخرى تصعيد الحمدوكات السياسية، حزبيا كما حكومياً. العسكر أنتجوا نسخة جديدة من حمدوك، مطواعة وخاضعة ومفصولة عن القاعدة الشعبية المنبثقة عن الثورة السودانية.
من هنا، يمكن فهم المعارضة الشعبية للاتفاق الذي عكس موازين قوى لصالح العسكر، ولم يأت كتسوية سياسية، كما يروج إعلاميا. والمعارضة تلك، لا تقتصر على مناصري الأحزاب المناهضة للجيش، وإنما على مناصري الثورة، الذين شكلوا جسمها الأساسي، أي لجان المقاومة وتجمع المهنيين والنقابات وقطاعات مجتمعية أخرى. هؤلاء يصعب على العسكر اختراقهم أو اختراع بديل حمدوكي لهم، بحكم علاقتهم الراديكالية بالثورة، لدرجة انتقادهم، مطالبة «الحرية والتغيير» العودة للشراكة، ورفضهم سقفها المنخفض. والأرجح أن القمع الذي شاهدنا فصولا منه قبل أيام، حيث سقط 40 قتيلا في يوم واحد، قد يتجدد لمواجهة قوى الثورة، التي تخطط لتنظيم مليونية حاشدة ضد الجيش خلال ما يعرف بمليونيات ديسمبر. والقمع هذا، الذي سيكون مقننا بحيث لا يثير غضب المجتمع الدولي، سيصبح الأداة الوحيدة للجيش، للتعامل مع تحدي مواجهة القوى الثورية المنظمة، والقادرة على حشد جزء واسع من الشارع. أما التحديات الأخرى، التي من المتوقع أن تواجه العسكر، في المرحلة المقبلة، فأبرزها، الصراعات القبلية في دارفور، وملف السلام، وإقناع المجتمع الدولي بمواصلة تأييد الاتفاق الأخير، خصوصاً أن الموقف الأمريكي، كان حذراً وطلب خطوات أكثر، يضاف إلى كل ذلك، الأزمة المعيشية التي يصعب الاستمرار بجعل حمدوك كبش محرقة لها.
باختصار، يمكن للجيش تطويع رئيس الحكومة، وتوسيع الحاضنة السياسية الموالية له، وقمع القوى الثورية، لكن مشاكل السودان أعمق، من أن يجري حمدكته، خصوصاً أن المؤسسة العسكرية نفسها، ورغم تماسكها الحالي لترسيخ الانقلاب، لكنها معرضة للانقسام والصراع على السلطة، وهو ما بدا واضحا عند محاولة البرهان، استيعاب قائد قوات «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو «حميدتي» بتعيينه رئيسا للجنة التمكين. رفض الأخير لهذا المنصب، يعني، أن طموحه من كعكة الانقلاب، أكبر بكثير من تصورات البرهان الطامح بدوره، بالكعكة كلها.
طبيعة الدور السياسي للجيش يقودنا الى قصة حضور سفير إحدى الدول الأجنبية في القاهرة ندوة بعد أشهر قليلة من وصول جماعة الإخوان، وأبدى استغرابه من مصريين مدنيين طالبوا بسقوط حكم العسكر خلال فترة إدارة المجلس العسكري للبلاد عقب رحيل نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، ثم عادوا وهتفوا للاستعانة بالجيش عندما تأكدوا من فشل الإخوان في حكم مصر.
كان الرجل عاجزا عن فهم المنطق الذي أدى بشريحة كبيرة إلى تبني خطاب متناقض خلال وقت قصير، ما جعله يتشكك في طبيعة الدور السياسي للجيوش العربية. وما لم ينتبه له الكثيرون وقتها أن هناك جهات كانت لها مصالح في حالتي الرفض أو القبول، ودفعت نحو هذا أو ذاك وفقا لظروف كل مرحلة.
يقود الحديث المصري إلى ما يجري في السودان حاليا، حيث بات هناك انقسام حول الدور السياسي للجيش، فلا هو مرفوض تماما أو مقبول على طول الخط، فالقوى المدنية بعضها يرى ضرورة في وجوده داخل السلطة، وبعضها يطالب بخروجه منها نهائيا ويظل دوره محصورا في الأمور العسكرية خارج نطاق الحياة المدنية. يأتي التناقض حيال الموقف من الجيوش العربية عادة خلال الفترات الانتقالية التي تبدو فيها الأوضاع الأمنية غير مستقرة، ورؤية القوى المدنية ضبابية، وتصبح الاستعانة بالمؤسسة العسكرية عملية محورية لضمان عدم الانفلات. ما يجعل الجيش رقما مهمّا في مصر والسودان مثلا أنه لم يكن يوما بعيدا عن السياسة فيهما، فغالبية من حكموا البلدين لفترات طويلة ينحدرون منه، ويكاد يكون تاريخهما مرهونا بإرادة الكثير من الجنرالات. أدت هذه المسألة إلى صعوبة في حالة الرفض مع امتلاك الجيش مفاتيح للحل والعقد في البلدين، وفي حالة القبول مع تصاعد أصوات المدنيين وحدوث تغير في مواقف قوى كبرى لم تعد ممتعضة علنا من سيطرة المؤسسة العسكرية وداعمة سرا لها. بدلت التطورات في السودان الموقف، فالكثير من القوى المدنية المؤيدة للجيش لم تعد تمنحه شيكا على بياض، ورهنت تأييدها بالمرحلة الانتقالية وبعدها يجب أن يعود إلى ثكناته ويبتعد عن الانخراط في السياسة بصورة لا تمكنه من فرض سطوته أو يكون فيها المواطنون مضطرين إلى الاستعانة به.
كما أن اللعبة المزدوجة التي كانت تعتمد عليها بعض القوى الدولية في التعامل مع الجيش تساقطت جوانب عديدة فيها، ففكرة الدعم سرّا آخذة في التراجع أمام تصاعد المد المدني، وقد فهمت المؤسسة العسكرية في السودان هذا المعنى الذي حرّضها على الليونة والقبول بصفقة عودة رئيس الحكومة المعزول عبدالله حمدوك لموقعه.
يكشف رفض المؤسسة العسكرية والاستعانة بها، أو العكس، عن توازنات القوى، فإذا كان الجيش متغلغلا في المجتمع ماديا ومعنويا ويمتلك من الأدوات الاقتصادية ما يساعده على فرض إرادته يستطيع كسب المعركة، وإذا مالت الكفّة لصالح القوى المدنية تصبح قدرته على الهيمنة محدودة أو كبيرة متوقفة على مدى صمود الأخيرة في المواجهة.
تبدو هذه القاعدة في السودان متساوية تقريبا، ولكل جهة عناصر قوة عندما تزيد عند طرف تنقص لدى الآخر، ومنذ استقلال السودان كانت هذه المعادلة حاضرة، ويفسر نجاح الجنرالات في القبض على السلطة فترات طويلة أنهم تمكنوا من تفكيك مقومات القوة في صفوف المدنيين واستغلوا عناصر الضعف، ما يفسر لماذا كان يتغلب العسكريون على المدنيين دائما في السابق.
حاول قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان السير على هذا المنهج، وكاد يكسب الجولة الحاسمة التي ظهرت تجلياتها مع قراراته في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي ضد الحكومة وقوى الحرية والتغيير، لكن وجد أن الإصرار على إجراءاته لن ينسجم مع قوى كبرى كان يعتقد أنها سوف تستسلم للأمر الواقع بسهولة.
تحوي الرسائل السلبية التي تلقاها البرهان أخرى إيجابية وصلت إلى حمدوك وجعلته يقبل بنصف انتصار ويعود إلى التعامل مع المؤسسة العسكرية التي كان ينتظر طعنتها من الظهر فجاءته في الوجه مباشرة، لأن المقدمات التي سبقتها أشارت إلى أن الطعنة قادمة لا محالة.

mido34067@gmail.com

 

آراء