هوامش على الجدل حول قانون الأمن الوطني

 


 

د. أسامة عثمان
11 November, 2009

 

Ussama.osman@yahoo.com

انحصر الجدل عن قانون الأمن الوطني في اتجاهين يرى أحدهما أنه لا بد من قيام جهاز أمن قوي واسع الصلاحيات ليكون قادرا على مواجهة الأخطار الكثيرة والمتنوعة التي تواجه البلاد وعبروا عن القوة بالانياب والأظافر والأسنان والصلاحيات الواسعة ومن أهمها الحق في التوقيف والاعتقال ومصادرة الممتلكات وما إلى ذلك من أساليب. ويرى الاتجاه الآخر أن جهاز الأمن ينبغي أن يكون جهازا مختصا في جمع المعلومات تحليلها وتقديم المشورة للجهاز التنفيذي لاتخاذ القرار المناسب.

 

ولقد لفت انتباهي الملابسات التي أحاطت بالنقاش العام حول الأمر أكثر من مواد القانون نفسه. المعروف أن النقاش حول القانون قد بدأه مدير جهاز الأمن  المخابرات الفريق محمد عطا بحديث للصحف قدم فيه القانون، أو بالأحرى قدم مرافعة دفاع عن مسودة القانون التي أعدها قبل عام بعض ضباط جهاز الأمن ممن لهم خلفية قانونية من حزب المؤتمر ومن الحركة الشعبية ودفعوا بها إلى مجلس الوزراء ثم البرلمان حيث بين في مرافعته أهمية أن يكون هنالك جهاز أمن قوي بسبب المهددات الحديثة مثل الإرهاب والجريمة عبر الحدود والاتجار في المخدرات وغسيل الأموال الهجرة غير الشرعية والوجود الأجنبي وما إلى ذلك.  والمهددات التي عددها تدخل في إطار الأمن بمعناه الشامل وعليه فإن المسؤولية عن حماية البلاد تكون مسؤولية المنظومة الأمنية بمعناها العام وفي مختلف مستوياتها يدخل في ذلك أجهزة الشرطة بمختلف أقسامها المتخصصة مثل شرطة الجمارك والمطارات وقوات الحياة البرية وحرس الحدود وخفر السواحل إلى جانب الأمن العام وأجهزة الاستخبارات العسكرية وجهاز المخابرات الخارجية ومكافحة التجسس فضلا عن جهاز النيابة والتحقيق وأجهزة تنفيذ الأحكام.

والملاحظ أن جميع هذه المهددات تدخل في صميم عمل المخابرات أو الأمن الخارجي بينما الصلاحيات المطلوبة للجهاز تتعلق بصفة رئيسية بالأمن الداخل فالتوقيف والاعتقال والتفتيش لا يمكن لأجهزة المخابراتب ممارستها حيث أنها تعمل في معظم الأحوال في خارج البلاد حيث لا صلاحية لها في هذه الممارسات. أما عن الوجود الأجنبي داخل البلاد فعظم محمي من هذه الممارسات أيضا حيث أن أكثر من عشرين ألفا من قوات الأمم المتحدة وموظفيها دخلوا البلاد بموجب قرار من مجلس الأمن بولاية محددة تدخل في إطار إيصال العون الإنساني وحماية المدنيين من بطش القوات المسلحة لبلادهم ومن أجهزة أمنها إلى جانب حمايتهم من هجمات الحركات المسلحة التي تحارب الحكومة.

 

لذلك فهم الجميع أن الصلاحيات المطلوبة القصد بها ليس مواجهة الأخطار التي ذكرها مدير الأمن والمخابرات وإنما مواجهة أعداء الداخل من منظور جهاز الأمن والمخابرات.  ولتطمين الداخل بأن الأمن لن يكون جهاز حزبيا وسيكون جهازا مهنيا وطنيا وكأنه يرد على ما في أذهان الناس من تهم وممارسات ظلت تلازم الجهاز منذ نشأته. ومضى ليقول بأن تسعين  من المعتقلين المائة حاليا هم من الاجانب. ونفي تهمة الحزبية وإثبات المهنية. وربما احتاج الأمر لأكثر من أن يقول مدير جهاز الأمن والمخابرات أنه جهازه غير حزبي ومهني ليصدقه الناس والجميع يعلم أن مدير الأمن الحالي والذي سبقه قريبا ومن كان قبلهم جميعهم من ملاكات الحزب الأمنية منذ أن كانوا طلابا في الجامعة أو أساتذة وظلوا يتناوبون على الجهاز دون انقطاع ولم ير الناس أحدا غير أهل الحزب يقود الجهاز على الرغم من كثرة الكفاءات في هذا المجال من غير أهل الحزب وتسآل كثيرون لماذا لم يعين خبير الامن المحترف الفريق عروة مثلا مديرا لهذا الجهاز الذي يفترض أن يكون جهازا وطنيا مهنيا.

تمثل الاتجاه الدفاعي والاعتذاري عن القانون الذي ابتدره مدير الجهاز في أن الدفاع عن القانون والسعي لتمريره على عجل قد ترك أمره، لقادة الجهاز وبعض الصحفيين الذين يدافعون عن كل ما يقوم به أهل الحكم حتى وإن كان رقابة على الصحف تكتم الأنفاس، ولبعض التنفيذيين والتشريعيين. ولقد لاحظنا أن الأمر لم يتصد له "أصحاب المشروع" أو "أسياد الجلد والراس" بلغة أهل السودان أو " أهل بدر" بلغة الإسلاميين وإنما ترك الأمر"للمتوركين" من مسلمي ما بعد الفتح فكانوا هم الأعلى صوتا والأشرس في الدفاع عن هذا القانون ومن قبيل ذلك تصريحات السيد عبد الباسط سبدرات والسيدة بدرية سليمان والسيد غازي سليمان ولولا المناصب التي يشغلون لم اهتم احد بآرائهم، فما يقوله السيد سبدرات يكون وقعه ثقيلا عندما يأتي منه وهو وزير العدل. فقد أورد في تبرير الصلاحيات الكبيرة التي يطالب بها الجهاز لرجاله أن الضرورات تبيح المحظورات فهو يقر بأن هذه الصلاحيات غير عادية. واستشهد فيما استشهد به بالإجراءات الاستثنائية التي ادخلت في القوانين الامريكية والبريطانية بدعوى محاربة الإرهاب وظلت وستظل موضع جدل وخلاف لانها تخالف قواعد العدالة الراسخة في مجتمع ديمقراطي. والاستثناء في تلك البلدان يعتبره وزير عدلنا  الهمام نموذجا يحتذى واستشهد بما يهزم حجته تماما وهو الاعتقال في قاعدة غوانتانامو الذي عده دليلا على الصلاحيات التي اعطيت لاجهزة المخابرات لمواجهة الخطر الجديد الذي اقتضى ممارسات غير مألوفة وهو ما أراد الفريق عطا إثباته في مرافعته. هل ياتري فات على السيد وزير العدل أن الاعتقال في قاعدة غوانتانامو خارج البلاد لم يقع إلا للحيلولة دون مخالفة القانون العادي السائد والذي لا يبيح الاعتقال دون توجيه تهمة بأية حال بعد أجل معلوم لا يتعدى 24 ساعة في معظم الحالات وفي كامل التراب الأمريكي أم يا ترى يعتقد السيد الوزير أن غوانتانامو هي عاصمة إحدى الولايات الخمسين! ألا يدري السيد الوزير أن الإدارة الأمريكية تبحث عن بلد يسود فيه مثل القانون الذي يبشر السيد الوزير لإرسال نزلاء غوانتانامو إليه ليستمر اعتقالهم دون توجيه تهمة لأن جميع الولايات قد رفضت استقبالهم على أراضيها لهذا السبب القانوني الأخلاقي ولأسباب أخرى.

 

لم تذكر لنا كتب التاريخ إن كان من بين طلقاء مكة طليقات غير هند بنت عتبة زوج أبي سفيان بن حرب آكلة كبد حمرة عم الرسول عليه الصلاة والسلام تشفيا وحقدا. إن السيدة رئيسة لجنة التشريع والشؤون القانونية هي أبرز القادمات إلى صفوف حزب السلطة وأشرس المدافعات عن جهاز الأمن ذي الأظافر والأنياب. لن نقف عند "انقلابية" السيدة بدرية سليمان أو صحة خبر انتسابها لخلية انقلابية إن كانت لصالح الانقاذ أو لصالح مايو ولكن ما يعنينا فيما نحن بصدده هو استشهادها بأن المعاملة التي لقيتها حين اكتشف جهاز الأمن في العهد الدييمقراطي تلك الخلية حيث طلب منها كتابة تعهد وطلب منها عدم مغادرة العاصمة وهذا في عينها هو الضعف بعينه الذي لا تريد لجهاز الأمن ذي الاسنان والسنان. لم تر السيدة رئيسة لجنة التشريع في اكتشاف جهاز الأمن لخليتها قبل الانقلاب دليل قوة. هل كانت السيدة القانونية المحترمة تتوقع من جهاز أمن في عهد ديمقراطي أن يأخذها عنوة من دارها ويفعل بها رجاله الأفاعيل وينهشونها بأظافرهم وأنياهبهم ثم يلقون بها في قارعة الطريق؟ إن الشمولية حالة يجد بعض الناس صعوبة في التخلص منها أو إخفائها. فلننظر إلا تصريح آخر للسيدة رئيسة لجنة التشريع التي ذكرت في إطار تعريضها ببعض عناصر المعارضة السودانية التي حاولت التشكيك في شرعية الحكومة القائمة لانتهاء أجلها بموجب اتفاقية السلام حيث قالت لا فض فوها "إنهم يجلسون في البرلمان ويقولون أنهم معارضة!" تأمل هذه العبارة أو ليست زلة فريدوية تدل على حالة الشمولية المتأصلة؟ أو ليس المكان الطبيعي للمعارضة هو الجلوس تحت قبة البرلمان! لا شك ان السيدة القانونية البارزة لا يمكنها تخيل المعارضة إلا في الخارج وإن كانت في الداخل فمكانها الطبيعي هو سجن كوبر أو بيوت الأشباح.

 

وآخر"الطلقاء" هو الأستاذ غازي سليمان المحامي وموثف العقود وهذا لقب لا يستطيع أحد أن ينزعه منه إلا إذا نزع عنه حق ممارسة المهنة لانه ليس من شاكلة "قيادي في الحركة الشعبية" فهو قيادي في الحركة رغم أنفها وقد شاهدته يحلف بالطلاق من على شاشة تلفزيون السودان بأنه لن ينضم لحركة لام أكول على الرغم من احترامه للرجل ولن يغادر الحركة الشعبية إلا بعد أن يتخلص من بعض العناصر فيها التي لا تمثل الحركة كما يمثلها هو، وبعد اسبوع من ذلك القسم المغلظ وقع فصله رسميا من الحركة. ما يعنينا من أمره وقانون الأمن هو انطلاقه دفاعا عن القانون بحماس قد يحسده عليه غازي الآخر رئيس كتلة الحزب الحاكم في البرلمان والذي كان دفاعه عن القانون اعتذاريا كأنه ليس على اقتناع بأن هذا القانون يشرف حزبه. لقد قال "القيادي البازر في الحركة الشعبية" إنه وجهاز الأمن في خندق واحد على الرغم من أنه اعتقل أكثر من 18 مرة! وأنه ينبغي أن يعطى الجهاز "جميع الصلاحيات التي يحتاجها " بهذه الإطلاقية التامة! وأن جهاز أمن بلا أظافر ولا أنياب دعوى للفوضى.

 

ومن اللافت للنظر أيضا أن بيان تقديم السمات العامة للقانون الذي تقدمت به لجنتين مختصتين من لجان البرلمان قد جاء ضعيف مضطربا لا يخلو من تبرير وخلط وقرر في آخر فقراته أن مشروع القانون لا يتعارض مع الدستور واتفاقية السلام وسكت دون أن يشرح لنا كيف يكون ذلك. وجاء في الكثير من التصريحات لأنصار القانون أن ضباط الحركة كانوا قد اشركوا في صياغة المسودة وأن وزراء الحركة قد وافقوا عليه في المجلس ولم يقع تبديل في المذكرة كل ذلك الاضطراب يجعلنا نعتقد أن هذا القانون اشبه باللقيط لا أحد يريد أبوته. وجاء في معرض المدافعة المستعجلة لإجازته إن عدم إجازته يعني استمرار القانون الحالي في نوع من التهديد باستمرار "القانون البطال دا" إذا استخدمنا عبارة جعفر نميري رحمه الله. وكاني بأصحاب هذا الرأي يقولون بأن هذا القانون سيئ ولكنه أقل سوءً من القانون الحالي، ورد أحد نواب التجمع بأن "القانوني الحالي لا يخيفنا فقد خبرناه وبيوت أشباحه!".

 

ومن السمات الأخرى عن نقاش هذا القانون هو أن خلطا كبيرا قد وقع فيما يكتب الناس ويقولون بين مفهوم الأمن الداخلي ومفهوم الأمن الخارجي أو المخابرات إلى جانب الخلط في مفهوم القوة وتعريفها في حالة ارتباطها بكل من مظهري العمليات الأمنية. استخدمت كلمات من شاكلة أظافر وأنياب وأسنان للكناية عن القوة التي يريدها البعض للجهاز وإذا ترجمت ما يقولون تجد أنهم يريدون جهازا باطشا مهابا ترتعد فرائص من يجروء على أن يرى غير ما يرى النظام والدولة والزعيم ولقد علمنا التاريخ أن أقوى أجهزة المخابرات لم تستطع حماية الدولة أو الزعيم عندما حانت لحظة الانهيار وما أمثلة هتلر وستالين وشاوشيسكو وجعفر نميري وصدام حسين ببعيدة عن الأذهان. وفي الجانب الآخر وصف أنصار الانياب والأظفار اكتفاء جهاز الأمن بجمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة لصناع القرار سيجعل من الجهاز جهازا اشبه بمصلحة الاحصاء أو جهاز جودية بحسب عبارة وزير العدل، وأن وكالة سونا للأنباء يمكن أن تقوم بهذه المهمة والمؤسف أن الكثير من الصحفيين قد ولغوا في الاستخفاف بأهمية المعلومات كمصدر قوة. هل نسى الناس مقولة نابليون القديمة أن جاسوسا واحدا يعادل 30 ألف جندي في ساحة المعركة. هل نسى الناس أن بث العيون والبصاصين قد عرفته جميع الجيوش القديمة. إن تسميات "المكتب الثاني" كناية عن مكتب الاستخبارات تمييزا له عن المكتب الأول الذي يتعامل في المعلومات المعروفة وتسميات الطابور الخامس قد جاءت من عهد الجيوش القديمة حيث كان الجيش يقسم لاربعة طوابير والطابور الخامس غير المرئي هو طابور العيون والجواسيس أو ما يسمى في الجيوش الحديثة بالاستطلاع وهو جمع للمعلومات عن طريق الأفراد او الطائرات أو السواتل وهي معلومات حاسمة في إدارة الحروب. هل تناسى الناس أن الحرب على العراق قد سوغت وفقا لتقارير أمنية لفقت لتقود أضخم آلة عسكرية في التاريخ إلى معركة خاسرة سياسيا. لقد قادت منظمة اليونسكو معركة طويلة في الثمانينات لطرح ما سمي بالنظام العالمي الجديد للمعلومات لكسر احتكار تدفق المعلومات من عدد محدود من الوكالات. من المعروف لرجال الأمن والمخابرات أن 95 في المائة من المعلومات متوفرة في المصادر المفتوحة من أمثال وكالة سونا ومصلحة الإحصاء والقليل المتبقي هو الذي يجهد رجال الاستخبارات في جمعه والأهم من ذلك هو مسار المعلومة ومآلها وتوقيت حجبها أو بثها وهو صميم عمل أجهزة المخابرات وليس العمليات العسكرية والتصدي للقوات الغازية. فإذا أردت أن تعرف كم يبلغ طول مدرج الهبوط في مطار نيالا مثلا فما عليك إلا أن تدخل الموقع العام في الشبكة الإلكترونية لوكالة الاستخبارات الخارجية الأمريكية المعروفة المعروفة ( CIA) والمعلومات المتوفرة هناك تشمل كل صغيرة وكبيرة عن بلدان العالم وضعت بقصد توفير المعلومات للجهاز التنفيذي الأمريكي ولكنها فتحت للجميع تعميما للفائدة. إن قوة جهاز المخابرات الحقيقية تكون في الحصول على المعلومات الدقيقة لتحركات قوات مثل قوات حركة العدل والمساواة وهي في مواضعها ومتابعة تحركها  وتمليك المعلومات للقوات المسحلة التي تعد العدة للتصدي لها عن دخول الحدود أو عندها انطلاقها ان انطلقت من الداخل وليس الانتظار للتصدي لها وهي تحاول عبور جسر الانقاذ في طريقها للقصر الرئاسي! الطريف أن محاولة غزو البلاد مرتين قد كانت في عند أجهزة الأمن ذات الأظافر والأنياب وليس في العهود الديمقراطية

وأخيرا لقد قال أحد النواب في البرلمان محقا بأننا لا نريد جهاز أمن بأظافر وأنياب وأسنان وإنما نريده جهازا بعقل يفكر ويحلل ويقدم الخيارات لصناع القرار.

وبعد لقد كانت هذه هوامش على الجدل حول القانون وليس في متن القانون الذي سنعود إليه عندما يطرح للنقاش من جديد ونأمل أن يعود بعد أن تكون المسودة قد إعيدت صياغتها بشكل جذري استفاد من تجربة بداية النقاش والتعثر والتخبط الملحوظ الذي شاب تقديمه للبرلمان.

 

نقلا عن جريدة الصحافة ليوم الثلاثاء 10 نوفمبر 2009

 

 

آراء