وثائق اميركية عن جنوب السودان (1)

 


 

 

واشنطن: محمد علي صالح
وثائق اميركية عن جنوب السودان (1):
خطاب جوزيف لاقو الى البابا
ما اشبه الليلة بالبارحة
واشنطن: محمد علي صالح

منذ قبل استقلال السودان، بدأت السفارة الاميركية (مكتب الاتصال الاميركي في ذلك الوقت) في الخرطوم تكتب تقاريرعن جنوب السودان.  
في البداية، كانت التقارير قليلة جدا.  خاصة لأن تعليمات من رئاسة الخارجية في واشنطن طلبت اعتبار المشكلة "مشكلة داخلية".  ويبدو ان واشنطن كانت تريد كسب الدولة الجديدة بدون وضع عراقيل امامها.
لكن، في وقت لاحق، ذهب جنوبيون في اديس ابابا، وكمبالا، ونيروبي الى السفارات الاميركية هناك.  واشتكوا من "ظلم الشماليين المسلمين العرب."  
ثم وقع تمرد توريت (سنة 1955).  ثم حملة عسكرية عنيفة قامت بها حكومة الفريق عبود (سنة 1962).  ثم طرد المبشرين المسيحيين الاجانب من جنوب السودان (1964).  
وزاد اهتمام السفارة الاميركية بعد انقلاب المشير جعفر نميرى اليساري (سنة 1969) الذي اشترك فيه شيوعيون.  كان ذلك في عهد الرئيس نيكسون الذي خاف من تسلل الشيوعية والنفوذ الروسي من مصر الى السودان.  ثم الى جنوب السودان.  ثم الى شرق، ووسط افريقيا.  وزاد الخوف لأن الروس اعطوا نميري دبابات وطائرات، وضرب بها المتمردين في الجنوب.
هذه اول عشرين حلقة مقتطفات من هذه التقارير.  بداية بهذه الوثيقة من سنة 1970، وهي خطاب ارسله جوزيف لاقو، قائد جيش "انيانيا" في جنوب السودان، الى بابا الفاتيكان:
--------------------------------
"الى صاحب القداسة بول السادس:
في السنة الماضية، كتبنا الى قداستم خطابا عن اضطهاد شعبنا في جنوب السودان تحت اقدام السودانيين العرب.  
لكننا، ما كنا نعرف انه، بعد شهور قليلة من الخطاب، سيحدث تغيير في حكومة الخرطوم (ثورة مايو سنة 1969).  وسيكون التغيير سبب مزيد من الاضطهاد.  وما كنا نعرف ان الاضطهاد هذه المرة سيكون بتأثير دولة اجنبية، هي اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية.
الأن، وفي هذه اللحظة التي نكتب فيها هذا الخطاب الى قداستكم، يحتفل الشماليون العرب المسلمون بيوم الثورة في الخرطوم.  يشاهدون دبابات روسية تزحف في الشوارع، وطائرات "ميج" روسية تحلق في السماء.  في وقت سابق، كانت هذه الدبابات والطائرات في جنوب السودان.  كانت تضرب، وتقتل، وتعوق، وتجرح شعبنا الاعزل من السلاح.  وفي وقت لاحق، ستعود هذه الدبابات والطائرات  الى جنوب السودان، لتواصل ما كانت تفعل.
 منذ ان تغيرت الحكومة في الخرطوم في السنة الماضية، تعود شعبنا في جنوب السودان على رؤية الضباط الروس يقودون الجنود الشماليين العرب في حملة قاسية للقضاء على المسيحية في وطننا، ولتدمير حضارتنا الافريقية ...
يا صاحب القداسة:
ليست هذه اول حرب عربية اسلامية للقضاء على المسيحية في السودان.  في القرن الثاني عشر، دمر العرب المهاجرون من الجزيرة العربية ممالك مسيحية ارثودكسية وكاثوليكية في المغرة وعلوة.  
لكن، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قاد كمبوني، المونسينيور خادم الرب، مبشرين شجعان ومخلصين الى السودان.  ومرة اخرى، ارتفع "علم الخلاص"، وحل الامل محل اليأس.  
لكن، بمجرد ان بدأت بذور المسيحية تنمو، وتزيد الكنائس، قامت التمرد المهدي، وقضى عليها.  كان الاب جوزيف اوهوالدر، مؤلف كتاب "عشر سنوات في الاسر"، احسن من وصف ما فعل التمرد المهدي.  كتب:
"دمرت المهدية تطور خمسين سنة.  وسقط السودان في الظلام مرة اخرى.  وغرقت الحضارة في فيضان الهوس الديني. وانهار امل الخلاص.  وصار قادته عبيدا مقيدين بالسلاسل.  وارتفعت اعلام الاستبداد من  دارفور الى البحر الاحمر.  ومن الرجاف الى الشلال الثاني.  وانتشرت عصابات الهوس الديني في الارض.  ودمرت كل علامة مسيحية.  وانكشف السودان عاريا، ومنعزلا، وخرابا، وفوضى."
بعد التمرد المهدي، اعاد البريطانيون السلام للسودان عندما حكموه لمدة 56 سنة.  وسمحوا للمبشرين بنشر المسيحية في جنوب السودان.  وعمل المبشرون، بدون راحة وبدون توقف، للدعوة الى كلمة الرب وسط شعب جنوب السودان الطيب.  واعتنق عشرات الآلاف المسيحية.  وخلال نصف قرن، صارت المسيحية دين ثلاثة اجيال في بعض العائلات.  وفتح المبشرون المخلصون مدارس، وبنوا مستشفيات، وانتشرت مؤسسات التعليم المسيحي
يا صاحب القداسة:
يسرنا ان نقول لكم، في فخر، ان كل متعلم جنوبي الآن تخرج من مؤسسة تعليمية مسيحية.  في سنة 1944، تخرجت اول دفعة من القساوسة الكاثوليك الجنوبيين.  ومنذ ذلك الوقت، تخرج مئات من القساوسة، والرهبان، والراهبات.  وبدأ مستقبل المسيحية براقا، كما كان في الماضي.
يا صاحب القداسة:
نأمل ان تصبرون، ونحن نروي لكم تاريخ المسيحية في السودان.  نريد ان نوضح لكم ما تعاني اليوم الكنيسة في السودان.  وما يواجه المسيحيون السودانيون من دمار شامل.  نريد ان نقول لكم ان المهاجرين من الجزيرة العربية دمروا المسيحية مرتين في هذا الجزء من افريقيا.  وهاهم، بداية من السنة الماضية، يريدون تدميرها مرة ثالثة.  
هذه المرة، تتحالف القوات العربية القاسية مع الاتحاد السوفيتي.  وكما تعلمون، المسيحية هي نقيض التوسع الشيوعي.
عندما سمحت بريطانيا للسودان بالاستقلال، سيطر الشماليون على البلاد، سياسيا واقتصاديا.  وخطط هؤلاء العرب لاسلمة شعب جنوب السودان اسلمة كاملة.  ولتعريبه تعريبا كاملا.  مدفوعين برغبة قوية لاضطهاد واذلال الجنوبيين المسيحيين.
يا صاحب القداسة:
ها نحن اليوم، نرفض فرض الاسلمة والتعريب بالقوة على ثقافتنا المسيحية والافريقية.  وهذا هو سبب الحرب الحالية بين الجنوبيين والشماليين.
فشل السودانيون العرب في كسر تصميم شعب جنوب السودان.  ولهذا، تحالفوا مع الروس الشيوعيين، ومع الدول العربية.  وهم مصممون على مسحنا من على سطح الارض، بينما يتفرج كل العالم، ولا يتحرك، ولا يفعل شيئا ...
يا صاحب القداسة:
في السنة الماضية، تشرفنا بمقابلة قداستكم في يوغندا.  زودتنا المقابلة بقوة اخلاقية، وتوجت نضالنا بهالة روحية، وشجعتنا على حماية الوطن والعقيدة.
لكن، سببت هذه العزيمة الجديدة لمقاومة الاسلمة والتعريب مزيدا من الدمار والاضطهاد في وطننا.  تخفى السيف الاسلامي وراء الدبابة الروسية، واستعمل المهووسون المسلمون صواريخ وقنابل مصنوعة في روسيا لقتل شعبنا.  
حتى الأن، ابادا 500,000  من الرجال والنساء والاطفال.  قتلوهم بالرصاص، او احرقوهم احياء، او اماتوهم جوعا ومرضا.  واجبروا 500,000 على اللجوء الى اثيوبيا، ويوغندا، وكينيا، وجمهورية افريقيا الوسطى.  ويستمر الذين لم يقتلوا، ولم يلجأوا، في العيش في خوف وهلع.  ولجا بعضهم داخل الوطن، الى الاحراش، وقمم الجبال ...
يا صاحب القداسة:
نأمل ان تتحرك الدول الافريقية للدفاع عنا ضد هذه المؤامرة الروسية العربية التي تريد القضاء على شعب افريقي بأكمله.  فقدنا الامل في الانسانية، وفي المؤسسات العالمية.  لكننا، لم نفقد الأمل في الكنيسة التي تقودها.
نحن نسترجي قداستكم ان تصلوا من اجل شعب جنوب السودان.  لنظل اقوياء ومصمين على الدفاع عن العقيدة.  ولنطرد القوات الاجنبية من وطننا.
يا صاحب القداسة:
نقدم ، نحن ابناؤكم وبناتكم في المسيح، الولاء لكنيسة الله.  ونؤكد لكم اننا سنقبل الابادة دون ان نسمح للمسيحية ان تزول للمرة الثالثة من السودان.
مع الايمان القوي، انا الكولونيل جوزيف لاقو، نيابة عن الانيانيا المقاتلة من اجل الحرية في جنوب السودان."
---------------------------------
تعليق (1):
لا ينفي عاقل ان الشماليين، في الوقت الحاضر، يستعلون على الجنوبيين، بصورة عامة.  وفي الماضي، تاجروا في الرقيق الجنوبيين.  وفي الماضي، شنت حكوماتهم حملات عسكرية قاسية لحل المشكلة بالقوة.  لكن، لا يقدر عاقل على ان يقول ان الهدف هو "القضاء على المسيحية" في السودان، او في جنوب السودان.
تعليق (2):
ليست مشكلة جنوب السودان مشكلة دينية (بدليل وجود مسيحيين شماليين).  ولا مشكلة عرقية (بدليل هجرة جنوبيين الى الشمال).  بقدرما هي مشكلة حضارية، مشكلة تعليم وعلم (بدليل ان المتعلمين الجنوبيين لا يقلون مكانة عن المتعلمين الشماليين.  ولا يجب.)
تعليق (3):
لم ينتشر الاسلام في السودان، وفي غيره، بالقوة.  (لماذا، اذا، لا يعود ملايين المسلمين الى اديانهم القديمة؟  وكل سنة، كم مسلم يصير مسيحيا؟  بالمقارنة مع كم مسيحي يصير مسلما؟)  انتشر الاسلام، وينتشر في كل يوم وفي كل مكان، لأن الدين عند الله هو الاسلام، ولان الاسلام هو، ايضا، دين عيسى بن مريم.
تعليق (4):
ما اشبه الليلة بالبارحه.  الآن، يجيئ جنوبيون الى اميركا ليصوروا للاميركيين ان في السودان حربا بين الاسلام والمسيحية.  وليجدوا انفسهم في حفرة واحدة مع "النيوكون" (المحافظين الجدد، من مسيحيين متطرفين، ويهود صهاينة) الذين يريدون من اميركا ان تعادي المسلمين، في كل مكان، وبدون نهاية، باسم الحرب ضد "الارهاب."
تعليق (5):  
أسفا، تبنى كثير من الاميركيين نظرية الحرب بين الاسلام والمسيحية في السودان. قبل ثلاث سنوات، قدم روبرت زوليك، نائب وزير الخارجية (الأن رئيس البنك الدولي) تقريرا الى الكونغرس قال فيه: "في القرن التاسع عشر، حاول تجار ومرتزقة (ميرسيناريز) في الخرطوم تأسيس دولة بالقوة في وادي النيل."  كان يقصد ثورة المهدي.  لكن، الحقيقة هي ان هذا "المرتزق" قاد واحدة من اهم ثورات العالم الثالث في القرن التاسع عشر.
تعليق (6):
يقدر كل عاقل على ان يعطف على هذا الخطاب من جوزيف لاقو الى البابا.  خاصة لانه كتبه بينما توجد في الشمال حكومة عسكرية، وفي الجنوب حملة عسكرية.  لكن، اخطأ لاقو خطأ كبيرا عندما اعاد كتابة تاريخ السودان ليجعله ليس الا "مقاومة مسيحية لغزوات اسلامية."
تعليق (7):
من عبر التاريخ ان جوزيف لاقو، بعد سنوات قليلة من كتابه هذا الخطاب الى البابا، تصالح مع الشماليين.  وصار نائب رئيس جمهورية.  وتزوج مسلمة والدتها جنوبية ووالدها شمالي (من منطقة مملكة علوة المسيحية القديمة، التي اشار اليها في خطابه الى البابا).
mohammadalisalih@yahoo.com <mailto:mohammadalisalih@yahoo.com>  

 

آراء