يا هواء بيروت !!

 


 

أسامة رقيعة
11 August, 2021

 

لا أخفي أن بعضا ممّا قرأت من تاريخ بيروت قد أربكني، وجعل شعورًا بالرهبة والرغبة يقتحم كياني يوم أن تنسّمت هواءها عند بوابة المطار ..
كان بالهواء همس أنيق ومتفرد، كما ولو أنه مزيج رائع من ترنيمات جبليّة، أو إيقاعات دبكة قديمة مع غليان قهوة في مفترق طرق ترابيّة، أو أصوات أسلاف فينيقيّين، لقد أنعش الهمس بدني و أحضر إلى ذّهنِي صورة الخضرة والماء والوجه الحسن.
بيروت بُنيت قبل أربعة آلاف سنة، ثم أصبحت مملكة مستقلة على الساحل الذي عرف قديما باسم "فينيقيا"، و قد عبد أهله إلها خاصاً اسمه "بعل بيريت"، فبيروت إذا مدينة متدينة وذات عراقة تاريخية فأول إشارة تاريخية لها تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، حين ذُكرت في رسائل "تل العمارنة المسمارية" وقد جاء فيها أنّ "عمونيرا" ملك "بيريت" أرسل ثلاث رسائل إلى الفرعون المصري. ثم أن بيروت سبق وأن سماها الجنرال الروماني ماركوس أغريبا في عام 64 ق.م. بمستوطنة "جوليا أغسطس بيريتوس السعيدة " تيمنا بجوليا بنت الإمبراطور أغسطس، ولعل الهواء الذي تنسمته عند خروجي من المطار، وأنا في طريقي إلى الفندق، كان فيه عطر من جوليا هذه وقد شقّ غبار التاريخ و أتي الي فقد كان الهواء البيروتيّ مقدّسًا بالفعل في تلك اللحظة: قال لي صديقي إنه عصارة هواء البحر وأنفاس الغمام. وللبحر قصة لا تنتهي في بيروت.
كنت قد وصلتها في بدايات المساء الأول وأشعة الشمس الذهبية ما تزال تخيط جمالا فاتنا على واجهات المحلات والطرق، الفتاة اللبنانية جميلة بالطبيعة، وأنثى بحكم الرقة والأناقة واللطافة، كانت واحدة منهن تعمل كموظفة استقبال بالفندق، كان استقبالها لي مخمليا ناعما وودودا كأنها تعرفني منذ عهد نوح، وحينما صعدت إلى غرفتي بالفندق ازداد إحساسي بسطوة المكان ثم ارتقى توقي إلى الانغماس فيه بكلّ كينونتي، وما عرفت هل هو سحر الاستقبال أم أنه العطر والهمس الذي كان مبثوثا في الهواء، لقد نمت مليا كطفل صغير، وتركت كل هموم العمل ومشاغل الحياة خارج جسدي.
تجولنا بحرية في كل طرقات بيروت، احتسينا بعض القهوة عند "استاربكس" ثم سرنا بالأقدام طويلا حتى شاطئ البحر، التقطنا بعض الصور، وضحكنا ملء رئتينا، وبقيت أسال عن سرّ هذا الانتعاش .. ذهبنا إلى معرض بيروت الدولي للكتاب، وهو ما كان سبب مجيئنا الأول إلى بيروت، كان المعرض رائعا ولكنه صغير إذا ما قسناه بعراقة التجربة وعمق تأثير الثقافة اللبنانية على المحيط العربي. انتهينا من جولتنا بالمعرض ثم عدنا إلى الفندق بعد أن نال منا الرهق ما نال، لقد عدنا ونحن في شوق كبير للقاء أصدقاء رائعين في صبحية اليوم التالي، إذ كنا سنقدم سويا لجمهور المعرض ندوة عن النقد والإبداع .
مدينة بلا أصدقاء كحقل بلا ثمار، لقد كان أصدقاؤنا فاهكة بيروت، استقبلونا بفرح وتحدثوا إلينا بحميمة يعرفها الموغلون في حبّ الناس، اهتموا بنا أثناء كل لحظاتنا الثقافية، قبل الندوة، وبعدها، ثم تباروا على تحقيق راحتنا، لقد كانوا كرماء، بل في غاية الكرم. وفي ذات مساء أخذونا إلى شاطئ الروشة. والروشة في الأصل هو حي سكني تجاري معروف بمبانيه السكنية الراقية حيث الأغاني التي تفوح من شبابيك المطاعم والمقاهي، و على ساحل حي الروشة توجد علامة طبيعية بارزة تسمى صخرة الروشة أو صخرة صباح نصار " أجمل نساء الأرض" أو صخرة الحب، ويعتقد أن أصل كلمة الروشة مشتقة من كلمة "روش" بالآرامية و تعني رأس، كما يعتقد أن كلمة روشة جاءت من كلمة "رُوشيه" وتعني باللغة الفرنسية كتلة صخرية كبيرة، وقلوب أصدقائنا لم تكن صخرة أبدا، بل كانت ألين من الحرير، لقد كانوا كيّسين للغاية. ثم إنهم قد اختاروا لنا مطعما رائعا لنتعشى فيه قرب الشاطئ، وحين جلسنا على طاولة الطعام أحسست بالنعاس، وهذه هي مشكلتي مع الجو اللطيف والناس الرائعين، فحين يبلغ بي الأنس مبلغه أميل إلى الاستماع والاستمتاع بما اسمع ثم يغلبني النعاس كأنما الرفقة الرائعة هي هدهدة للروح والوجدان.
لم يتركنا الأصدقاء الرائعون معزولين في بيروت، لقد أحاطونا بالمحبة والكرم، وفي اليوم التالي كان الغداء الفخم بمنزل الروائية دكتورة نتالي، وفي العشاء كنا جميعنا رفقة صديقي الرائع المحب للسّفر الدكتور عبد الدائم السلامي من تونس، والروائيتين اللبنانيتين صاحبتيْ الطلاّت والكلمات الأنيقة دكتورة هدى عيد، ودكتورة نتالي مع زوجيهما ، تعشينا بمطعم "فندق روتانا" الفاخر حيث يهيج جمال الشمس البهيج عند الغروب البيروتيّ، أما اليوم الثالث فقد خصّصناه للتجوال بالمعرض واقتناء الكتب، ثم العشاء صحبة هؤلاء الأصدقاء. كانت أيّامنا هناك منعشة منذ بداياتها وحتى خواتيمها، وقد حفرت سكنها في الذاكرة .

 

آراء