يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا (2/2): قراءة في كتاب أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين للدكتور حامد فضل الله

 


 

 

يَعْسُوب المهاجرين في ألمانيا
قراءة في كتاب أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين للدكتور حامد فضل الله
حامد فضل الله، أوراق طبيب سوداني مقيم ببرلين: ذكريات وقصص ووجوه وقضايا فكرية وأدبية، ط1، دار المصورات، الخرطوم، 2021 (382 صفحة من القطع المتوسط)
(2-2)

بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
abdallaelbashir@gmail.com

كانت الحلقة الأولى قد ركزت على إسهامات الدكتور حامد فضل الله، مؤلف الكتاب أعلاه. لقد ظل حامد يعمل على مدى ستين عاماً بجد والتزام واستمرار، في ألمانيا والسودان، مجسداً قول محمود محمد طه "الحر هو من يعمل"، وكذلك قول إدوارد سعيد "العبقري هو من يعمل"، ليقدم النموذج الإرشادي للمواطن والمثقف الكوكبي. فهو الطبيب والقاص والمترجم من الألمانية إلى العربية وبالعكس، ألف وترجم وشارك في تأليف ونشر وتحرير العديد من الكتب، وهو الفاعل وبقوة في المجتمع المدني، عملاً وتأسيساً لمؤسساته. ووقفت الحلقة الثانية عند انشغال حامد بأزمة المسلمين مع الاندماج والتصالح مع البيئة الألمانية والبيئة الأوروبية، فقدمت مقاربة بين آراء وأفكار المفكرين المسلمين والألمان التي ترجمها أو درسها حامد. واستعرضت الحلقة هيكل الكتاب ونظرت إلى تعدد الموضوعات فيه باعتباره تعبيراً عن ملامح حامد ذو الهويات المتعددة، فهو الطبيب والأديب والمترجم والسوداني والأفريقي والعربي والمسلم والألماني، غير أنها هويات ظلت متصالحة، مما مهد الطريق لتطورها في بيئة حامد الداخلية والأسرية، في وجهة الهوية الإنسانية. واليوم نستكمل.

مذكرات حامد: أمانة التبليغ وتمليك الشهادة للأجيال
"ضمير الإنسان هو الجوهر الحقيقي للتاريخ"

قدم حامد في كتابه هذا، طرفاً من مذكراته وسيرته الذاتية، كما ضمَّن الكتاب بعض التراجم والسيَّر العامة، وهي السيّر التي تكتب عن الآخرين. تُعد المذكرات مصدر تاريخي مهم، كما أنها تُجسِّر تواصلنا مع أصحابها ومع تجاربهم، هذا إلى جانب المتعة في قراءتها. فالمذكرات كما يرى المؤرخ اللبناني وجيه كوثراني، هي مرآة للتاريخ الذاتي للأفراد الفاعلين المؤثرين أو المتأثرين في حراك المجتمع الذي هو موضوع دراسة. فسواء أكان صاحب المذكرات فاعلاً سياسياً أم فاعلاً ثقافياً فكرياً، فإن كلامه أو خطابه هو أيضاً، "وثيقة تاريخية"، وكما كان مارك بلوخ (1886- 1944) يُفضِّل القول في وصف كل وثيقة، بأنها تؤدي إلى "معطى" (Donnée)، وهي ليست نصاً مطابقاً للحقيقة. ينطبق مفهوم "المعطى" النسبي على المذكرات والسير بامتياز (وجيه كوثراني، تاريخ التأريخ: اتجاهات- مدارس- مناهج، 2012: 398- 399). ومن يدوّن مذكراته، كما هو حال حامد، ينطبق عليه حديث المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي، الذي كتب، قائلاً: "إن من يدوِّن مذكراته... شاهد على حوادث ويريد أن يؤدي شهادته، فيخاطب عبر الكتابة الأجيال المقبلة تماماً كما لو كان يخاطب جلساء له يقلدهم أمانة تبليغ أقواله" (عبد الله العروي، مفهوم التاريخ: الألفاظ والمذاهب، ج1، 1997: 36). إن ما تنطوي عليه المذكرات، كما يقول أحمد صدقي الدجاني (1936- 2003)، لهو مرآة صادقة للأوضاع الحضارية التي عاش في كنفها كاتبها. ومن هنا كانت أهمية تدوين السير كفن من فنون التاريخ (أحمد صدقي الدجاني، "لمحة تاريخية: حضارات إنسانية رئيسية وعلاقة مثقفين بمجتمعاتهم"، المثقف العربي: همومه وعطاؤه، 1995: 19). هنا لابد من الإشارة إلى أن حامد تجمعه علاقة خاصة بالدجاني، فقد عملاً معاً أعضاء في مجلس أمناء المنظمة العربية لحقوق الإنسان في القاهرة، كما اختير حامد في العام 2011 أمينا للصندوق في المنظمة لبعض الوقت.
وتأتي قيمة مذكرات حامد من كونه من الرعيل الأول من السودانيين، ومن أوائل الأفارقة، والعرب، الذين قدموا إلى ألمانيا. وعاش فيها حياة جادة ومنتجة، وكان متصالحاً مع بيئتها، بل متفاعلاً للحد الذي رفع له الألمان القبعات، كما ورد آنفاً. فقد كتب البروفيسور كورت بيك Kurt Beck، أستاذ الأنثروبولوجيا، جامعة باي رويت، ألمانيا، قائلاً: "أردت فقط أن أعبر عن احترامي لترجمتك الرائعة لكتاب الرحالة إدوارد روبيل، والتي قمت بمراجعتها مؤخراً، نرفع القبعة لك!". كتب حامد مذكراته مؤرخاً لطرف من حياته بمسؤولية، وسرد الوقائع والأحداث بضمير يقظ، وفي واقع الأمر هو نفسه تاريخ. وفي التحليل النهائي يكون ضمير الإنسان، كما يقول مارك بلوخ، هو الجوهر الحقيقي للتاريخ (جراهام ف. توماس، السودان: الصراع من أجل البقاء (1984-1993)، 1995: 13). احترز حامد في كتابته سواء عن تجربته الذاتية أو في كتابته عن الآخرين، فكتب، قائلاً: "إنني أكتب عن تجربة شخصية وعن شخصيات التقيت بهم على درب الحياة وربطتني مع بعضهم علاقات وطيدة وحميمة أعتز بها، ... ، وبما أنني أكتب عن فترة طويلة وكغالبية المثقفين السودانيين من الذاكرة فأنبه منذ البداية وأطلب المعذرة إذا كان هناك ثغرات في السرد أو خلط في الأسماء أو السنين".(ص 89). اتسمت كتابة حامد بالصدق والتواضع والتجرد، كما انتفت عنها عيوب المذكرات السيَّر الذاتية السودانية. كان المؤرخ السوداني محمد سعيد القدّال (1935- 2008) قد درس أحد عشر كتاباً من كتب المذكرات والسير الذاتية السودانية، وخلص في دراسته، قائلاً: "ويمكننا أن نخلص إلى القول بأن قيمة غالبية هذه الكتب كمصدر للتاريخ ضعيف، وبعضها لا قيمة له" (محمد سعيد القدَّال، الانتماء والاغتراب: دراسات ومقالات في تاريخ السودان الحديث، 1992: 133-152). وعلل خلاصته، قائلاً من واقع دراستنا لهذه الكتب يتضح لنا الآتي:

 أهملت الجوانب الشخصية التي هي قنوات اتصال بين الكاتب والقارئ.
 ضخمت من دورها في الأحداث.
 جنحت للتبرير.
 سيطر عليهم هاجس الصراعات السياسية.

لم يستثنِ القدال من نماذج المذكرات التي درسها إلا مذكرات الشيخ بابكر بدري (1864- 1954): تاريخ حياتي، ثلاثة أجزاء. وصف القدَّال مذكرات الشيخ بابكر بدري بأنها ذات قيمة فنية، وقيمة تاريخية، وعدَّها نموذجاً للسيرة الذاتية. ومن جانبي قمت بدراسة المذكرات والسير السياسية السودانية وضمنتها كتابي: صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ، (ط1: 2013؛ ط2: 2018؛ ط3: 2022)، وخلصت فيها إلى أن جميع نماذج الدراسة، وهم من قادة السودان، قد خلت من الإشارة إلى محمود محمد طه أو إلى نضاله ضد المستعمر، وفترات سجنه، عدا مذكرات أحمد خير المحامي (3/1905- 1995)، ويحيي محمد عبد القادر (1914- 2011). كما كان هناك تجاهل تام لنشأة الحزب الجمهوري برئاسة محمود محمد طه، وقد تحدث جميع كتاب المذكرات عن نشأة الأحزاب السياسية، وأشار جميعهم لأحزاب صغيرة لم يعش بعضها سوى نحو ثلاثة أعوام، وعلى الرغم من اشتراك محمود محمد طه مع بعضهم في عضوية اللجان. كان هناك ما يشبه التحالف أو الاتفاق غير المكتوب في موقف أصحاب المذكرات من محمود محمد طه، في عدم الإشارة إليه. وللأسف أصبحت هذه المذكرات مصدراً للدراسات الجامعية (الدكتوراه والماجستير)، ولبحوث الباحثين، الأمر الذي أدى لتشويه التاريخ وتزويره، وهذا أمر خطير على بيئات التعدد الثقافي، كحال السودان. وقد فصلت في كتابي المشار إليه أعلاه، عن ذلك الإغفال والتجاهل وأسبابه، وآثار تغييب طه عن الذاكرة الجمعية، وتهميش دوره ونضاله في تاريخ الحركة الوطنية ومسار السودان الفكري والسياسي.
لم يكن موقف حامد من محمود محمد طه مثل جل الذين كتبوا مذكراتهم من السودانيين، فقد تحدث عنه، بل جاء حديثه عنه في صدر كتابه تحت عنوان جانبي هو: محمود محمد طه، كما سيرد التفصيل.

"إننا بذلنا جهداً كبيراً في تدريبك وتعليمك فبلادك أحوج إليك من برلين"

قدم حامد مذكرات واقعية وصادقة، وحملت الكثير مما يعين في قراءة التاريخ ودراسته، لم يضخم فيها ذاته أو دوره، بل كان في بعض الأحيان يسخر من نفسه. ولم يحجب النقد الذي وُجه له في بعض مراحل حياته. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، كتب في إحدى فقرات مذكراته السابقة، قائلاً:
"تم نقلي من مستشفى أم درمان بعد ذلك إلى مدينة المناقل كطبيب اختصاص. في هذه الفترة مرت زوجتي بظروف صحية قاسية. فعناية الخالق وجهود أطباء مستشفى أم درمان وبمساعدة جراح بريطاني وأستاذ زائر للمشاركة في امتحانات طلبة كلية الطب، تخطت زوجتي الفترة الحرجة وقررنا مواصلة العلاج في برلين وسمحت لي الوزارة بإجازة سنتين . وعدنا إلى برلين من جديد في عام 1974. بعد اكتمال العلاج وفترة النقاهة وانتهاء عطلة السنتين، قررنا البقاء في برلين لفترة أطول. واجهتني... مشكلة الحصول على حق الإقامة والتي انتهت بعودتي إلي السودان وكذلك علي إذن عمل من وزارة الصحة في ولاية برلين . اتصلت بأستاذي السابق البروفيسور هربرت لاكس Herbert Lax الذي اندهش لحضوري المفاجئ وبالرغم من تقبله لموقفي قال بنبرة حادة "إننا بذلنا جهداً كبيراً في تدريبك وتعليمك، فبلادك أحوج إليك من برلين". وما كان أمامي إلا أن أتجرع هذه الحقيقة الناصعة والمرة في عين الوقت. وأردف سأبذل جهدي أن أحصل لك على وظيفة لمدة عام واحد فقط. وعليك بعد ذلك أن تدبر حالك".
تجرع حامد هذه الحقيقة المرة من أستاذه الكبير لاكس، وهو، كما ذكر حامد، لم يكن رئيساً لقسم أمراض النساء والتوليد، في كلية الطب بجامعة برلين الحرة فحسب، بل ونائباً لمدير الجامعة. وكان متحدثاً لبقاً ويدعو إلي تطوير الطب الاِجتماعي. وكان مسانداً للثورة الطلابية في العام 1968 ، وكان بذلك هدفاً للنقد من قبل الأساتذة الآخرين، بحكم أن غالبية الأساتذة الكبار في كلية الطب، تنتمي إلى طبقة المحافظين وكان يُطلق عليه لقب "البروفيسور الأحمر" وجابه ذلك بشجاعته المعهودة . مثَّلت كلمات لاكس مواجهة صريحة لحامد، وعبرت عن نقد قاسي لشخصه، وعلى الرغم من ذلك، لم يحجبها حامد، عن مذكراته، ليكشف بذلك عن مدى أمانة التبليغ عنده، وعن مستوى شفافيته في التعاطي مع التاريخ والوقائع.
لم تكن مذكرات حامد متصلة بالسودان فقط، وإنما اشتملت على ذكريات في ألمانيا ومصر التي قضى فيها بعض الوقت قبل وصوله إلى ألمانيا. فقد تحدث عن وصوله للقاهرة لدراسة الطب، ولكن تفاجأ بواقع توزيع الفرص الدراسية أوانئذ. يقول حامد: "عندما وصلت وُزعت "كوتة" المِنح الدراسية المُخصصة للسودانيين على أبناء الطائفة الختمية، وأبناء الموسرين من التجار السودانيين وخرجت خالي الوفاض". قرر حامد في ظل هذا الواقع الذي كان يتحكم فيه أصحاب الامتياز، أن ينتظر فرصة أخرى، خاصة وأن المنحة كانت تشتمل على إعانة شهرية للمعيشة. وبالطبع كانت هذه الإعانة معينة لشاب مثل حامد، فهو لم يكن من أصحاب الامتياز، غير أنه كان عصامياً، لا تنقصه العزيمة والمثابرة والإصرار.

يافع في حضرة عميد الأدب العربي يستمع لحديث الأربعاء

أثناء هذه الفترة اتيحت لحامد الفرصة لحضور الندوات الثقافية والأدبية في نادي القاهرة، ومشاهدة الكبار من الكتاب والأدباء. وكان محظوظاً بحضوره لحديث الأربعاء لعميد الأدب العربي طه حسين (1889- 1973)، في كلية الآداب بجامعة القاهرة. صور حامد هذا المشهد، مشهد حضوره لحديث الأربعاء، فكتب، قائلاً: "لا يمكن وصف الشعور الذي يمتلكك وأنت اليافع القادم من جنوب الوادي، جالساً في حضرة العميد (الجسم النحيل واللبس الأنيق والطربوش على الرأس المتين وهو يلقي دروسه بصوته الرخيم". وكان حامد قد شاهد طه حسين أول مرة على شاشة السينما، حيث كتب، قائلاً: "كنت قد شاهدت العميد من قبل على شاشة السينما في سينما برمبل "قديس" سابقاً،... في أم درمان، عندما تم عرض فيلم ظهور الإسلام والفيلم مأخوذ من كتابه: الوعد الحق". وأضاف حامد، قائلاً: "وقد كتب طه حسين حوار الفيلم بنفسه، ولا تزال كلماته التي قدم بها الفيلم محفورة في رأسي (فنان يجرّب فنّه للمرة الأولى متيمناً بظهور الإسلام)"، (ص 24).
وبيَّن حامد كيف كان يوظف يومه في القاهرة، فهو يقضي النهار في مدرسة الألسن التي أنشأها رفاعة رافع الطهطاوي (1801- 1873) في العام 1935 داراً للترجمة عن لغات أوروبا، ونشر المختارات من عيون التراث. وقد تم ضمها، كما أشار حامد، في العام 1973 إلى جامعة عين شمس باسم كلية الألسن. وكان حامد في المساء يزور المنتديات الثقافية، وفيها شاهد لأول مرة كبار الأدباء والكُتاب مثل نجيب محفوظ (1911- 2006)، ويوسف السباعي (1917- 1978)، ويوسف إدريس (1927- 1991). وكان حامد يتابع بشغف الملحق الثقافي للصحف المصرية وخاصة جريدة المساء. وبينما هو مستمتع بهذا الجو الثقافي الرفيع والغذاء الروحي والفكري، والحديث لحامد، "علمت بفتح باب التقدم للدراسة في الخارج، فعدت من القاهرة على عجلٍ للمنافسة في البعثات الخارجية غير الحكومية". واشتمل كتاب حامد على تفاصيل لذكريات مهمة ومفيدة وممتعة.
لقد نشر الأستاذ عبد المنعم عجب الفيا مقالاً (6 ديسمبر 2022) عن كتاب حامد هذا، فوصفه، قائلاً: "الكتاب عبارة عن لوحات فنية رائعة رسمت بريشة كاتب فنان متعدد المواهب والاهتمامات ثر الخبرات جمّ النشاط واسع الثقافة والاطلاع، غني بعلاقاته وصداقاته الانسانية الرحبة". وتناول عجب الفيا ضمن مقاله مذكرات حامد مشيراً للفصل الأول من الكتاب: "من حقيبة الذكريات"، حيث قال: "وهذا الفصل من الكتاب، شأنه شأن كل فصول الكتاب، مفيد غاية الفائدة، وممتع غاية الإمتاع. تتمثل الفائدة فيما يلمُّ به القارئ من تفاصيل شيقة عن الحياة المجتمعية والسياسية والتعليمية في ذلك الزمان الناضر الجميل. والإمتاع ناتج عن توظّف المؤلف موهبته القصصية وأسلوبه الأدبي ولغته السلسة والسهلة الممتنعة في سرد ملامح من ذكرياته". ولا شك في أن حامد سيل طرف من مذكراته بصدق وأمانة ومتعة وتجرد. كتب البروفيسور أحمد أبو شوك في مقدمة تحقيقه لـ: مذكرات يوسف ميخائيل عن التركية والمهدية والحكم الثنائي في السودان (2004)، قائلاً: إن صناعة المذكرات هي ضرب من ضروب السِّيرة الذاتية، وانَ قيمة المذكرات الشخصية تكْمُن في طبيعة الأحداث التي عاشها المؤلف، وتجرَّد في توثيقها...". والتجرد في التوثيق هو أمانة في التبليغ، وهي من سمات المثقف الحر.

أمانة التبليغ عند المثقف الحر

على خلاف جل المثقفين السودانيين، الذين تجاهلوا ذكر محمود محمد طه في مذكراتهم، أفرد حامد حيزاً من مذكراته للحديث عن طه، بل جاء الحديث في صدر كتابه. كتب حامد، قائلاً: "كنت شاهدتُ الأستاذ محمود محمد طه، لأول مرة في منتصف الخمسينات من القرن السابق، كنتُ وقتها في المرحلة الثانوية، عندما كنتُ أحضر الندوة، التي كان يُقيمها الأستاذ في دار بالقرب من مكتب البوسطة (البريد) بأم درمان وبالقرب من سينما برامبل أيضاً. كنا نستمع له بشغفٍ شديدٍ وحب استطلاع، وهو يقدم محاضرته بصوتٍ هادئ، مع بسمةٍ تضيء وجهه الصبوح". (ص 14). كما أشار لانقطاع علاقته بطه بسبب سفره إلى القاهرة ومنها إلى ألمانيا. ولمَّا استقر في برلين عاد حامد لاستدعاء طه بتلك الذكريات الحميمة، مقترنة، كما يقول: "بذكرى أخرى أليمة، فقد عشت ذلك اليوم المشؤوم (18 يناير 1985) يوم إعدام محمود محمد طه...". ليس الكتابة عن طه فحسب، وإنما عمل حامد على تنظيم الملتقيات والندوات للتعريف بطه وبفكره. فقد قُمنا في برلين، والحديث لحامد، بالتعريف بالأستاذ طه وبأفكاره التنويرية. "وأقمنا في يناير 1995، بدار ثقافات العالم بمناسبة مرور عشر سنواتٍ على استشهاده، بمجهودٍ ضخمٍ ومساعدة قيمة من توماس هارتمان، رئيس التحرير المناوب لصحيفة دي تاتس، القريبة من حزب الخضر، ندوة تحدث فيها الجمهوري د. عبد الله النعيم قادماً من القاهرة وبمشاركة أوتو شيلي Otto Schily وزير الداخلية الألمانية الأسبق وأدار الحوار البروفيسور فريتس شتبارت Fritz Steppat، أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة".
لا جدال في أن هذه جهود كبيرة، وهي جهود وطنية وعلمية أخلاقية وإنسانية، كما أنها عصية على الكثير من المثقفين للقيام بها، ولكن حامد قام بها، ولا يزال يُعبر عن احتفائه بطه وبفكره وسيرته الفكرية، سواء عبر كتابة المقال أو تنظيم الندوات واللقاءات الحوارية. وفي تقديري أن ألمانيا، وأوروبا، بل الإنسانية جمعاء، في حاجة ماسة لفكر محمود محمد طه، خاصة مع تنامي الفكر الإرهابي والهوس الديني، وقدرته على استقطاب الشباب، وقد تأذت ألمانية كثيراً من هذا، وفي ظل إرث الحركات الإسلامية المتطرفة في آسيا وأفريقيا، وفي مختلف أنحاء العالم. لقد كشف حامد عن هذه الحاجة من خلال ما قدمه لنا من تناول للمستشرقين الألمان، ودراسات عن قضايا الاندماج في البيئة الألمانية، وعبر قراءاته أو ترجماته أو تلخيصه لكتابات العديد من المفكرين والباحثين الألمان، كما ورد آنفاً. منهم على سبيل المثال، لا الحصر، دراسات البروفيسور أنجليكا نويفرت Angelika Neuwirth، المتخصصة في دراسات القرآن والإسلام، ومديرة معهد الدراسات العربية، سابقاً، بجامعة برلين الحرة والمديرة السابقة لمعهد الشرق التابع للجمعية الشرقية الألمانية في بيروت وأسطنبول. والفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني المعاصر يورغن هابرماس Jürgen Habermas ، والبروفيسور كورت بيك Kurt Beck، أستاذ الأنثروبولوجيا، جامعة باي رويت، ألمانيا وكذلك الكاتب رالف جوردانو Ralph Giordano ، وأرنولف بارنج Arnulf Bering أستاذ التاريخ المعاصر والعلاقات الدولية، سابقاً، في جامعة برلين الحرة. والبروفيسور كرستيان ترول Christian Troll، الأستاذ السابق في كلية الفلسفة واللاهوت في فرانكفورت، وفي المؤسسات الإسلامية التابعة للمعهد البابوي بروما سابقاً، وقد تعرَّض حامد لدراسة له بعنوان: الفكر التقدمي في الإسلام المعاصر: نظرة نقدية. (الصفحات 141- 155). وكذلك تناول حامد دراسة الدكتور هاينر بيلافيلد Heiner Bielefedt بعنوان: إشكالية العلمانية: المسلمون في دولة القانون العلمانية، (الصفحات 127- 140). وغيرهم ممن ذكر في كتابه هذا، أو في كتابه السابق، أو في ترجماته ومقالاته الأخرى، مما لا يسع المجال لذكرهم أو التفصيل في دراساتهم.

التباري في التضحية وتجسيد القيم الإنسانية

غني عن القول بأن هذا السجل العامر بالعمل والسلام والعطاء الإنساني والمحبة، والذي أودعه حامد في الأرشيف الألماني والسوداني، بُني وتطور بالشراكة مع امرأة عظيمة ونبيلة، يعود لها الفضل في أنسنة البيئة الداخلية للمنزل، والسهر من أجل بناء هُوية إنسانية في فضاء أسرتها. كما قامت بتهيئة المناخ لحامد للعمل والعطاء، مراهنة عليه، فلم يخيب حامد ظنها، بل عانق أحلامها وتوقها، بالجد والعمل والانجاز والوفاء. إنها السيدة برجته لقد كشفت هذه السيدة المتفردة منذ سني زواجها الأولى عن شجاعتها ونبلها واستعدادها للتضحية في سبيل حامد والسودان والإنسان. عندما وصلت السودان أول مرة مع حامد عام 1964، أعلنت الحكومة السودانية عن حاجتها الماسة لأطباء للعمل في جنوب السودان، أعتذر الأطباء وزوجاتهم عن الذهاب إلى هناك بسبب الحرب الأهلية. ولمَّا أخبر حامد زوجته فما كان منها إلا وأن شجعته على الذهاب، وأعلنت عن استعدادها لمرافقته. وهذا ما تم. كانت التضحية، في تقديري، هي السمة التي تميز هذه السيدة النبيلة. لقد تخرجت برجته في كلية الاقتصاد، بجامعة مارتن لوثر\ هاله، فتنبيرج، ألمانيا الديمقراطية، وعملت في وزارة المالية، ثم ما لبست، أن عادت لتجسيد التضحية في سبيل حامد والأسرة. يقول حامد، وهو لا يحبذ الحديث عن أسرته، ولكن تقديراً لحرصي وأسئلتي، تحدث باقتضاب، يقول حامد: "قطعت برجته مسارها الأكاديمي والوظيفي متفرغة لتربية الأطفال، وإفساح المجال لي لممارسة مهنتي المرهقة والممتعة في نفس الوقت وكذلك لمواصلة نشاطي في مجال العمل الطوعي، في المنظمات العديدة، والكتابة". في تقديري أن هذه السيدة، استطاعت، وبما قدمته من تضحية، أن تحمي مؤسستها الأسرية، وتؤنسن الحياة في داخلها، كما نجحت في أن تجعلها منبعاً للهدوء والصفاء والعمل والعطاء الإنساني.
لقد عاشت برجته وحامد وبنتيهما نادية ومريم، وابنهما طارق، حياة هادئة وهانئة وصحية. وكأني بحامد وبرجته كانا يتباريان في امتلاك بعضهما عبر التضحية، وإكمال النقص في كل منهما. يقول محمود محمد طه: "وقد يظن بعض الناس أن ما يقتل الحب بين الزوجين إنما هو مشاكل الحياة المادية، ومسئولية الكسب، والإعالة، وتدبيـر المعاش للأسـرة.. والحق أن هذا نتيجة، وليس سببا، وإنما السبب هو التنافر الذي ينشأ عندما يلتقي نقص الرجال، بنقص النساء" (محمود محمد طه، تطوير شريعة الأحوال الشخصية، 1971). لا جدال في أن كل من برجته وحامد يعيش في سلام داخلي، وبإقامة السلام الداخلي، تعاش المحبة سلوكاً، ويتحقق السلام على الأرض، وهذا ما ينقص عالمنا المرزوء بالحروب والحزن والكآبة، وتفاقم أزمة الأخلاق. واليوم وبعد مرور أكثر من ستين عاماً على تضحيات برجته المستمرة، ليس هناك شيئ يشغل حامد أكثر من التعبير عن وفائه وتقديره وإكرامه لبرجته. وذكر لي حامد بأنه "كثيراً ما تُقابل زوجتي ما أقوم به نحوها من وفاء رداً للجميل، بكثير من الامتنان، غير أني أقابل ذلك بالمزيد من الوفاء، بلا تعب أو كلل أو ملل. فأنا شديد الوفاء لبرجته".
حقاً نحن أمام رجل إنسان، وامرأة إنسانة، يمثلان نموذجاً إرشادياً لأسرة كوكبية يجب أن يُحتفى بها، ويُحتذى بها، فهو نموذج نادر المثيل. وفي تقديري، لقد تأخرت ألمانيا في تكريم الدكتور حامد فضل الله، كما تأخر السودان كذلك في تكريمه. ولكن العزاء في أنه كرّم من قبل منتدى بغداد للثقافة والفنون في برلين. وسط مجموعة كبيرة من الأصدقاء العرب والألمان. كما تم تكريمه من قبل مجموعة المرأة السودانية في برلين، باحتفال بهيج، كان بتاريخ 9 يوليو 2022.

مركز القرشي: وديعة المُؤلف للوطن من أجل التعليم والتنمية

على الرغم من طول إقامة حامد في ألمانيا، فإن السودان لم يغب عنه، بل بقي حاضراً عنده. فقد ظل حامد مشغولاً بالسودان وقضاياه. تلمس ذلك في كتاباته وقصصه المنشورة، وفي الفعاليات التي ينظمها عن السودان، إلى جانب الخدمات التي يقدمها للجانبين، الألماني والسوداني، في دعم العلاقات الثنائية، سواء بترجمة الوثائق أو إرشاد الوفود الرسمية من الجانبين وتسهيل مهامهم في البلدين، فضلاً عن عمله المستمر في تذليل الصعاب أمام الوافدين من السودانيين إلى ألمانيا، سواء للدراسة أو التدريب، أو للعلاج. ومواصلة لهذا العطاء الذي لم ينقطع، قام حامد ببلورة مبادرة فردية، أشار لها في الصفحة الأخيرة من كتابه، وتمثلت هذه المبادرة في حُلم تأسيس مشروع تنموي، قوامه تأسيس مركز القرشي للتدريب المهني والتلمذة الصناعية، بمدينة الخرطوم بحري، في المنطقة الصناعية. ويهدف المشروع إلى دعم جهود التنمية في السودان، خاصة قطاع الشباب، من خلال الإسهام في بناء القدرات، وتنمية المهارات، وتمليك المقدرات، وصقل الخبرة والتجارب.
إن مشروع مركز القرشي، وهو في سبيل التحقق، يمثل، في تقديري، على الرغم من المصاعب والمعوقات، فحامد قادر على تجاوزها، مبادرة خلاقة، يقدمها حامد بجهود فردية، ووديعة للوطن، انطلاقاً من الواجب الوطني والإنساني للمثقف. وتصب هذه المبادرة في دعم الشباب، وفي فكرنة ثورة ديسمبر المجيدة التي يعيشها السودان، وعقلنة مسارها حتى تحقق التغيير الجذري والشامل.
ختاماً أتقدم بخالص شكري للدكتور حامد فضل الله على إهدائي نسخة من كتابه، وقد ظل متابعاً لرحلة سير الكتاب حتى وصلني. لقد حفزني كتاب حامد على التأمل والتفكر، أثناء قراءته والكتابة عنه، كما أتاح لي الفرصة لتجديد تجسير التواصل مع الفضاء الألماني العبقري. وهو فضاء ملهم، خرج منه كبار الفلاسفة والأدباء والعلماء في مختلف المجالات، ولا يمكن الاستغناء عنه. فقد قدم، ولايزال يقدم إسهامات عظيمة في سجل الحضارة الإنسانية. اشتمل كتاب حامد على كتابات لكبار المفكرين الألمان المعاصرين، وكتابات عن آخرين منهم. التهمت نصوصهم، وتمعنت في انشغالاتهم، وتوقفت عند استفهاماتهم، وأجريت بعض المقاربات الموجزة جداً مع طرف من أطروحاتهم، فتعلمت واستمتعت.

 

 

آراء