لهم المليارات، ولكم الإغاثات والوعود

 


 

 

 

نقلاً عن صحيفة إيلاف

بعد نشر هذا المقال في صحيفة إيلاف الأربعاء الماضي توالت ضربات فرقاء صراع الخليج على الحكومة السودانية، فقد انضمت الدوحة لمحور الرياض – أبو ظبي في دعم الأردن بنصف مليار دولار وعشرة آلاف وظيفة للأردنيين في قطر، ودعمت الإمارات إثيوبيا إبان زيارة ولي العهد محمد بن زايد لأديس أبابا بثلاثة مليارات دولار، فيما أعلنت الرئاسة السودانية أنها تلقت وعوداً سعودية بدعم مشروعات إنتاجية بعد اجتماع ضم البشير وبن سلمان الخميس الماضي.
وإلى نص المقال المنشور في إيلاف:

(1)
إن كان ثمة حسنة واحدة سيذكرها التاريخ لوزير المالية د. محمد عثمان الركابي، طال عهده في المنصب أم قصر، فهي إفاداته المدويّة أمام المجلس الوطني الأسبوع الماضي وهو يقدم تقرير أداء الربع الأول لموازنة العام 2018 المنكوبة، التي وصفناها في هذه الزاوية قبيل اعتمادها نهاية العام المنصرم بأنها موازنة عام رمادة تنذر بعواقب وخيمة، وللأسف الشديد حدث ما توقعناه حتى قبل أن تكمل شهرها الأول، لم يكن في ذلك نبوءة ولا يحزنون بل هي قراءة للواقع الاقتصادي والسياسي كما هو وفي ظل تمسّك السلطات بالمعطيات والأولويات نفسها التي أنتجت هذا الوضع المأزقي، وليس كما تتمناه السلطة من خلال نظاراتها الوردّية، دون أن تأخذ الأمور بحقها، فلا ترى للمفارقة حال لم يعد حتى يحتاج لتوصيف ولا لتدبيج مقالات.


(2)
صحيح أن خطاب وزير المالية أمام المجلس الوطني، والذي خلا لأول مرة في سابقة برلمانية من تقديم تقرير مصاحب بتفاصيل الأداء المالي والاقتصادي في الربع الأول، جاء مضطرباً ومتناقضاً في كثير من وقائعه وتحليلاته، إلا أنه يُحمد أيضاً لوزير المالية أن بعض إفاداته "كشفت" بصوة حاسمة حقائق الواقع الاقتصادي المزري كما هي بدون تذويق أو محاولة تجميل، نحو ما ظل يتفنن في ترويجه الكثير من المسؤولين، قد يكون الوزير الركابي مكرهاً وهو يدلي بهذه المعلومات، وقد عزّت الحلول وتكالب عليه المنتقدون، التي انشغل بها الرأي العام وطارت بذكرها الأسافير "إذ لم يعد في الكأس باقٍ" بعد أن تبخرت الوعود، وتبدّدت مجهودات اللجنة الرئاسية سدى، وفي كل الأحول لم يكن الأمر يحتاج إلى "بطل"، فالواقع المعاش الآخذ في المزيد من التدهور وأصبح يمسك حقاً لا مجازاً بخناق الجميع لم يكن في انتظار أن يدلي وزير المالية بهذه الاعترافات، التي أدهشت البعض في صراحتها، من فرط إزورار المسؤولين عن مواجهة الحقائق واستسهال بيع الأوهام، إلا أنها في واقع الأمر لا تعدو أن تكون من باب تحصيل حاصل.


(3)
لن أخوض في التعليق على كثير من التفاصيل التي وردت في إفادات الدكتور الركابي على أهميّة ذلك، وأفضّل الاكتفاء بالتركيز على مسألة واحدة بالغة التأثير، ولعل أهمها في ظنّي ذلك الاعتراف الصارخ الذي لم تستطع الصحف مقاومة إغرائه فاتفقت أغلبها على تصدره مانشيتاتها حين قال إنه ظل منذ أن تولى منصبه "يبحث عن تمويل ولو بشروط قاسية، ذهبنا الصين وتركيا، وأي زول قال عاوز يدينا تمويل لو بالصاح أو بالكضب جلسنا معه، ولكن ما في زول بدينا"، وأهمية وخطورة هذه الإفادة ليس في أن نتيجة هذه الجهود كانت صفراً كبيراً، بل تذهب أبعد من ذلك حين تكشف أن الحكومة السودانية ليست محاصرة فقط من خصومها التقليديين كالولايات المتحدة التي رفعت العقوبات إسماً وشدّدت من فعاليتها واقعاً، ولا محل تجاهل من حلفائها المفترضين في حرب اليمن، ولكن اكتملت حلقة الحصار بآخر من كان يتوقع أن يقلبوا لها ظهر المجن بهذه السرعة.


(4)
فقد أمضى وزير المالية وعددد من الوزراء وقتاً طويلاً قبل أسابيع في محادثات مطوّلة ببكين وها هو يكشف نتيجتها أنهم عادوا خالي الوفاض، وهو على أي حال لم يكن مستغرباً في ظل التوتر العلاقات مع الصين الآخذ في التدهور منذ تقسيم البلاد والإضرار بمصالحها النفطية ومن بينها الفشل في معالجة تعويضات ديونها النفطية على السودان، أما ثالثة الإثافي ما ذكره الوزير من أن تركيا التي لم تبرد بعد حمى زيارة رئيسها قبل أشهر والأساطير التي رافقتها وعُلّقت عليها الكثير من الوعود بعلاقات اقتصادية استراتيجية، اتضح من تصريح وزير المالية أن أنقرة ليست أحنّ ولا بدعاً من غيرها وهي تضّن على الخرطوم حتى بقروض بشروط قاسية دعك من مساعدات ملّحة. ولا تنسوا في زحمة هذه التطورات تلك الشركة التركية التي وقع معها البنك المركزي قبل أشهر بحضور مسؤول كبير اتفاقيات لتوفير تمويلات مليارية اتضح أنها هي الأخرى واحدة من الأكاذيب الكثيرة التي يتم ترويجها على أعلى مستوى في الدولة كحلول مزعومة للأزمة الاقتصادية، الغريب أن باعة هذه "الخزعبلات" يمشون مطمئن في مناصبهم الحكومية الرفيعة واثقين من أنه لن تطالهم مساءلة ولا محاسبة، بل ينتظرون المزيد من الترقي.


(5)
وتظهر عواقب الخطورة البالغة لإفادة وزير المالية هذه حين تأتي مقروءة مع تصوّر الحكومة لحلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة حين قال في إفادة أخرى أمام المجلس الوطني "إن الوضع الاقتصادي لن يتطور ما لم نجد المساعدات والتمويل من الخارج، وإذا استمرينا نعمل بطريقة أجدادنا القدامى لن يكون هناك حلَ، ولذلك لا بدّ من تمويل خارجي"، وهذا يعني بوضوح أن السلطات تضع كل بيض الخروج من هذا المأزق في سلّة التمويل الخارجي، الذي لم تعد توجد شكوك في أنه لن يأتي أبداً في ظلّ المعادلات الراهنة سواء على صعيد الأوضاع السياسية الداخلية، أو سياسة البلاد الخارجية التي ثبت أنها ليست بذات جدوى على الإطلاق، صحيح أن إقرار الركابي كان صادماً لدرجة أن البعض عدّه مروّجاً للتشاؤم وقد غلّق كل الأبواب، ولكنها للأسف تلك هي الحقيقة المرّة كما هي بلا تزيين، فعبارات التفاؤل والتشاؤم قد تصلح للتداول في أسواق السياسة، إلا أن الاقتصاد علم يقوم على معطيات منطقية لا تصلح في إدارته برشد أساليب الفهلوة وبيع الأوهام والتصريحات المجانية.


(6)
ولعلّ التطور الأكثر أهمية الذي يؤكد فرضية "لا- جدوى علاقات السودان الخارجية بالمعطيات الراهنة" الذي ذهب إليه وزير المالية، ربما عن غير قصد ولا سابق تدبير، وهو يكشف كيف باءت بالفشل الذريع كل محاولات الحكومة للحصول على أي تمويل خارجي ولو بشروط قاسية لإنقاذ الوضع الاقتصادي المختنق، ذلك التطور المثير للاهتمام من تلك المفارقة الفاضحة التي حملتها عناوين وسائل الإعلام السعودية قبل يومين وهي تنقل أخبار قمة مكّة الرباعية التي دعا إليها الملك سلمان بن عبد العزيز لإنقاذ اقتصاد الأردن المتداعي، الذي خلّف اضطرابات سياسية واجتماعية أطاحت بحكومتها، وتداعت له بالتجاوب العاجل الإمارات والكويت، لتظفر عمّان من غير طلب منها بمساعدات تُقدر بملياري ونصل المليار دولار، ووجه المفارقة أن وسائل الإعلام السعودية حملت في اليوم نفسه نبأ وصول باخرة إغاثة سعودية لميناء بورتسودان، في مقارنة تقول كل شئ دون أن تحتاج لتفصح بكلمة واحدة.


(7)
ليس سراً أن الرياض وأبو ظبي حليفتا الخرطوم الافتراضيتين، بمعنى افتراض الأخيرة وتمسّكها بزعم أنها فعلاً جزء من تحالف استراتيجي يجمعها مع العاصمتين دونه المهج والأرواح مع أنه لم يثبت حتى الآن أن له دليلاً واحداً شاهداً على أرض الواقع بأي معيار، لم تتجاهلا الأوضاع الاقتصادية العصيبة التي يمر بها حليفهما المفترض فحسب، بل تسهمان كذلك في وضع العصى على دواليب الانفراجة التي بانت برفع العقوبات الأمريكية ظاهرياً على الأقل، فبعد عام ونصف من الرفع المؤقت في خواتيم عهد أوباما ثم رفعها نهائياً في أكتوبر الماضي، لا يزال الحليفان يمارسان حصاراً مصرفياً على السودان، والحق يُقال أنهما ليستا وحدهما في استمرار فرض هذا الحصار، فقد أعلن وزير المالية في إفاداته الأخيرة أن الحصار يمثل جزءأ من الأزمة، وأن السودان لا يجد سوى مراسلاً خارجياً واحداً لمعاملاته المصرفية الخارجية.


(8)
مع ملاحظة أن مساعد وزير الحزانة الأمريكي مارشال بلينغزلي أعلن عند زيارته للخرطوم في نهاية أبريل الماضي أن الإدارة الأمريكية خاطبت دول الخليح وغيرها كتابة بأنه لم يعد هناك فيتو أمريكي على إعادة إدماج السودان في النظام المصرفي العالمي بعد رفع العقوبات، ولكن لا شئ من ذلك تحقق ولم تخف حتى غلواء الحصار المصرفي الإقليمي، وهو ما يطرح تساؤلاً إن كان هذا الموقف نتيجة استجابة بالوكالة لضغوط أمريكية غير معلنة على الخرطوم، أم أن للحليفين سياسة خاصة تريد أن تتخذ من الحصار المصرفي الذي ظل سارياً كوسيلة للضغط على النظام الحاكم لخدمة أجندة سياسية معينة أقلها تغيير معادلاته الداخلية، وهو ما قد يفسّر أيضاً تجاهل العاصمتين لنجدة حليفها المنهك اقتصادياً في غياب أية مبرّات موضوعية، في حين هبتّا بلا مواربة وفي عجالة لدعم الحليف الأردني الحقيقي الأوثق.


(9)
في الحقيقة فإن الرياض وأبو ظبي هما آخر من يستطيع السودانيون توجيه اللوم لهما في "لغز الحب (التحالف) من طرف واحد" الذي تنتهجه الخرطوم، فمن الطبيعي أن تخدم أية دولة مصالحها الوطنية على النحو الذي تدركه بوعي لمحدّادت ومهدّدات أمنها القومي، ولا تُوجد دولة تخدم مصالح دولة أخرى من باب المجاملة أو الإحسان، ولا يُعقل أن يطالب أحدهم من دولة أخرى أن تقوم بالنيابة عنها في رعاية مصالحها الوطنية، لا شك أن التحرك الخليجي الثلاثي السريع لإقالة عثرة الأردن، من غير طلب منها بل بمبادرة من الملك سلمان بن عبد العزيز، أحيا الكثير من التساؤلات الدفينة الممزوجة بالدهشة وعقد ألسنة الكثيرين، ألهذه الدرجة أزرى بنا الدهر إلى هذه الحال؟.


(10)
واللافت في هذا الخصوص ما أعلنه وزير الخارجية السعودي من أن "مبادرة خادم الحرمين الشريفين لدعم الأردن تؤكد حرص المملكة على استقرار أشقائها"، وعبر حسابه على موقع "تويتر" غرد الجبير قائلاً إن "مبادرة خادم الحرمين الشريفين في دعم الأردن الشقيق وتواصله مع قادة دولة الإمارات ودولة الكويت لعقد اجتماع دعم الأردن بمكة المكرمة ليتجاوز هذا البلد العزيز أزمته، تؤكد سعي المملكة المتواصل لتنعم الدول العربية وشعوبها بالاستقرار والتنمية". وورد في بيان القمة الرباعية الختامية أنها عقدت "انطلاقاً من الروابط الأخوية الوثيقة بين الدول الأربع، واستشعاراً للمبادئ والقيم العربية والإسلامية، فقد تم الاتفاق على قيام الدول الثلاث بتقديم حزمة من المساعدات الاقتصادية للأردن يصل إجمالي مبالغها إلى مليارين وخمسمئة مليون دولار".


(11)
لا شك أن القمة الرباعية العجلى لإنقاذ اقتصاد الأردن شكّلت في حد ذاتها إحراجاً بالغاً للسياسية الخارجية السودانية، ولكن ما هو أكثر إحراجاً تلك الحيثيات التي سيقت في بيان القمة لتفسير المسارعة للتحرك المبادر لإخراج الأردن من أزمته الاقتصادية، فهل تعني هذه الحيثيات أن السودان ليس مؤهلاً لها، وأنه يفتقر للمعايير التي توفرت للملكة الأردنية لذلك فقد كان طبيعياً أن تتجاوب الدول الثلاث مع الدولة التي توجد بينها وبينهم مشتركات حقيقية ومن ذات نسيجها، وأن إندراج السودان ضمن تحالف عاصفة الحزم لا يعدو أن يكون حدثاً عرضياً اقتضته ضرورات ظرفية، وبالتالي لا تترتب عليه أي علاقات أو أبعاد استراتيجية ذات شأن، وإن توّهمها الطرف السودان وتعلّق بها من طرف واحد. لذلك لم تر هذه الدول غرابة أو ما يدعوها للتردد في أن تنزل كل طرف ما يستحقه عندها من مكانة ودور، لعمّان المساعدات المليارية، وللخرطوم المعونات الإغاثية من باب أن الأقربين أولى بالمعروف.


(12)
لم تترك مجمل هذه التطورات على صعيد العلاقات الخارجية للحكومة السودانية متكئاً تستند عليه في إدارة علاقات خارجية تقوم على تحالفات هشّة وصلات متحوّلة، تخوض أحياناً معارك طواحين الهواء على غرار دون كيشوت في قصته الشهيرة وهي تحسن الظن في نفسها توهماً، وليس مهماً ذلك الجدل حول تقاطعات الدبلوماسية الرئاسية أو دور الدبلوماسية المهنيّة ,ايهما أولى وأقدر، فالنتيجة واحدة أن علاقات السودان الخارجية تسمع لها ضجيجاً ولا ترى لها طحيناً، ليس فقط في ما يتعلق بالعلاقة مع حلفاء حرب اليمن، بل كذلك مع المحور الآخر، القطري التركي الذي تتهم الخرطوم بموالاته أيدولوجياً، فهو يقف متفرجاً مثله، وهو ما يجعل طرح السؤال على القيادة السودانية بات مطلباً ملّحاً على أساس وكيف تدير هذه العلاقات الخارجية غير المنتجة، صحيح تستطيع أن تسمع الكثير من الكلام المعسول، ولكن النتيجة على أرض الواقع هي تلك الحقيقة المرة التي أفصح عنها وزير المالية: أن الخرطوم لا بواكي لها، لا من غيرها ولا من نفسها.



khalidtigani@gmail.com

 

آراء