الانتهازية والانتهازيون في السودان (2 ) …. بقلم: صديق محيسى

 


 

صديق محيسي
23 April, 2009

 


مقالات تبحث في  ظاهرة  أعاقت مسيرة الديمقراطية
نواصل الحديث عن الانتهازية  والانتهازيين في السودان  كظاهرة  خطيرة  ساعدت علي  تدعيم الأنظمة الشمولية  والقضاء  علي الحركة الديمقراطية  وفتح الطريق  لقيم  قبيحة جديدة  تمجد الانتهازي  بوصفه  شاطرا , أو( ابن كلب), أو فهلويا كما يقول إخوتنا المصريون , ونقول إن   مرض الانتهازية لا يصيب المثقفين  والسياسيين وحدهم   فقط ,  بل إن  إعراضه  قد  تظهر علي فئات  أخرى من  الشعب  كأن إن يكون  هناك طالبا , أو عاملا, أو مزارعا  انتهازيا  , وان تكون هناك  نساء  انتهازيات , والانتهازية هي مرادف  طبيعي للنفاق  حيث  يجري  تلاقح  فيروسي  سهل بين الاثنين , فمن الاستحالة بمكان إن تجد  انتهازيا  دون إن يكون منافقا , أو تجد منافقا دون إن يكون انتهازيا , بل إن النفاق  هو  ركن قوي  من أركان  هذا الداء,  وتحتاج  السلطة الشمولية  دائما إلي الانتهازي المنافق , كاتبا كان أم صحافيا ’ أم أكاديميا  , ويجد هؤلاء فيها مجالا مغناطيسيا يتم الانجذاب  إليها بوصفها  سلطة مستعدة  لمنحهم   ما يريدون, وتلجأ السلطة الشمولية  أيضا  إلي الانتهازيين  إحساسا  منها  بان ماقامت به من انقلاب علي النظام الديمقراطى هو عمل  غير شرعى ومرفوض سياسيا  ولامبرر  له سوى  أنها تسعي  إلي   الحكم  والي فرض برنامجها علي الآخرين بقوة السلاح , وهو البرنامج  الذي  فشلت  في  تنفيذه في العهد  الد يمقراطى,   ولا أدل علي ذلك  من قيام  نظام ( الإنقاذ )  في أيامه  الأولي  باللجوء  إلي  عدد من الصحفيين الانتهازيين  للترويج  لمشروعه , وتهافت هؤلاء   إلي مائدته من أول إيماءه , بينما  قامت سلطات امن النظام  الجديد  باعتقال كل الصحفيين  المناوئين  لها  وغير القابلين  للمساومة أو الرشوة  مرسلة إياهم  إلي بيوت الأشباح, ومما أدهش الكثيرين  إن صحافيا من هؤلاء كان قد   كتب مقالة طويلة حذر فيها حكومة الصادق المهدي  من مؤامرات  يدبرها  الإسلاميون  ضد النظام الديمقراطي, بل وذهب  إلي  حد اتهام  زعيمهم  الترابي  باتهامات يعجز القلم  عن كتابتها, غير إن الصحافي نفسه عاد   وارتدى قناعا إسلامويا   جديدا واجري مقابلة مطولة  مع زعيم بارز من زعماء الانقلاب العسكرى  قدم لها  بالإساءة الشديدة  إلي النظام الديمقراطي , بل وطالب  بمحاكمة   قادة العهد البائد  كما وصفهم  يومذاك .
   تتجلى الانتهازية في انصع صورها  اذا كان لها نصوع في ذلك النموذج الذي  أدمن  تأييد الأنظمة الشمولية  مثلما يدمن  مريض تعاطي المخدرات, فهو  تمرغ  في تراب  نظام مايو  حتي اتسخت روحه وسخا  ثقيلا , فاختير  وكيلا  لوزارة  الإعلام ,  ثم  صعد وزيرا لها وملحقا ثقافيا ثم سفيرا في دولة  افريقية  هامشية  حتي طرده النميري  في نشرة الثالثة  المشهورة, وهذا النموذج  له سماكة جلد تمساح , وبرود  حديد فى عز الشتاء  وصبر برص  (  ضب ) يجيد الكمون في انتظار فريسته  ساعات  وساعات, وكان له  في انقلاب الاسلامويين  كما يسميهم حيدر إبراهيم  رحلة  زادها   الارداة  الشريرة  والمكر ,  وما إن أعلن النظام  الجديد عن دولته الإنقاذية وعاصمتها الخرطوم  حتي رأيناه   وزيرا  لوزارة لها علاقة  شديدة بالناس ,  استخدمه  الحكم  كعازل  طبى  ليبعد  عنه  تهمة  الاسلاموية, ولم يلبس أياما في الوزارة  حتي لاحظ  أصدقاؤه  شعرا ابيض  ينبت أسفل ذقنه وبالعناية والرعاية   بدا  الرجل  وكأنه  ورع صالح  قادم من مملكة سنار القديمة, تغيرت مشيته , وأكثر من  البسملة والحوقلة , وسارع بإعطاء الأوامر  فورا  لبناء مسجد  ملحق  بالوزارة  مرفقا أوامره   تلك بإنذارات  مشددة  لكل موظف يتأخرعن أداء الصلاة  عند سماع الأذان, وحكي  عنه  والعهدة علي الحا كى   انه  عند   زيارة شيخ   النظام  لحضور اجتماع   ما  بالوزارة  فوجيء  الموظفون  بالوزير نفسه  يرفع اذان الظهر  فكان للشيخ  ان يبادل  ورعه  بابتسامة ماكرة  تكشف عن كثير ,ولم  تمض اياما  علي  غرقه  في التصوف الزائف  حتي كان صاحبنا  ملقيا  في  مذبلة  النظام   التي أعدها خصيصا لمثل هؤلاء,   طرد كما تطرد الأسود الذئا ب من  حول طريدة لم تشبع منها بعد  , لم يستسلم الرجل  للنازلة  التي أحاقت به ,  وشوهد  يبكى   بكاء  مرا  إمام  العراب الكبير  الذي  عطف  عليه  وسهل  له لان يكون رئيسا لجمعية صداقة مع شعب أسيوي , فالرجل مستعد دائما  لان ينزل من درجة وزير إلي درجة خفير , ومن اعلي الجبل إلي سفحه,  ويمارس  الاستيربتيز  حتي  أخر   قطعة من ملابسه , فهو انتهازي   منافق نشفت ماء وجهه  كما  تنشف الليمونة من عصيرها  . 
   في مسيرته الانتهازية   المليئة  بحفر السقوط   لم يدخر جهدا  إلا  وبذله  من اجل  الحفاظ  علي  مدرسته بعيدة عن المؤثرات  والتأثير , فهو  له ساقا  نعامة  في الوصول  إلي هدفه  عوضه الديكتاتور عن وفاة عزيز  له  بان اسند  إليه   وزارة  لها  علاقة   بالصورة والصوت وكان ذلك العزيز أعطاه (  الطريقة ) في الوصول  إلي  المستبد  بعد  إن داهمته نوبة قلبية  حادة  أودت به بعد ساعات من قصيدة شعر نافق فيه الديكتاتور فكان جزاء الله  أسرع  من جزاء الديكتاتور,  بدأ   النموذج  مسيرته اشتراكيا  خلال دراسته الجامعية , وبعد عودته  من الخارج  حيث نال درجة أكاديمية رفيعة  انخرط  ضمن موكب  الكتبة المنافقين فى تدبيج مقالات  بالصحف عن فكر القائد  ورؤيته  الثاقبة  في تطبيق الاشتراكية  السودانية , وظل يقف  بباب السلطان زمانا  حتى  حدد  له  السلطان  تاريخ  انتهاء صلاحيته  فأصبح أثرا بعد عين, وكنا قد أوردنا  من قبل  كيف إن هذا النموذج  ارتكب اكبر مجزرة للصحفيين  أرسل بموجبها  العشرات منهم  إلي الشارع , ولكن دعونا  نتساءل  عن مالأت  هذا الرجل  العجيب,  هل خرج  من عباءة  الاشتراكية  الزائفة  وجلس علي حائط   المبكى  كي يحاسب نفسه  عن جرائم  ارتكبها  ضد الآخرين  ويرتدع  عن  العودة  إلي  سيرته السوداء القديمة ,  هل استيقظ  ضميره  بعد    تخدير  لازمه  خلال مسيرته الملوثة ,  ليس من إجابة  تقفز إمامنا  سواء لا  النفى, فالرجل  بما له  من سليقة  جبلت علي  الأخذ  دون العطاء , وعلي الانحطاط  دون الارتفاع , وعلي الإمعان في  التلون  دون الثبات علي لون واحد,  سارع من أول وهلة  ليعلن إسلامه من جديد  علي هايدى    فاتحين  استخدموا  الدبابة  في غزوتهم  علي الشعب , ركض  ملهوفا  وراء حكومة اللحويون الجدد  الذين  جاءوا  إلي السلطة  بليل  يدفعهم نزوع   قوى إلي السرقة  والفساد  باسم  كتاب الله  , عاوده  دمله القديم  فنبذ الاشتراكية الحاقدة الملحدة  ليختار ا لشريعة الواعدة , وليكسب رضي    أولياء  نعمته الحامدون الشاكرون  وان يكون  قريبا  منهم , قرر بضربة واحدة إن يلتحق  بالحزب الحاكم  في وظيفة  مشبعة  بالدولارات منزوعة من  دسم المسئولية, وقد شوهد  الرجل  في أخر زيارة إلي مكتبه  بقصر الصداقة  يقف علي قدميه  ساهيا بعد  إن وجد  شخصا  يجلس  علي كرسيه  فلم يستطع  مساءلته  بعد  إن اسر له  احدهم  بأنه  بديل  له  جاء  به  الشيخ  ,   ومثل   مصاب بالجرب  السياسي  يبتعد عنه  الناس  سراعا, اكتفى النموذج  بشاشة  التلفزيون  كمجال للشهرة  يرد  علي الأسئلة القانونية  وليكون دائما  في الصورة  عسى   إن يلفت  نظر الرئيس لرسوخه  في الدجل(  الاسلاموى ) فيتعطف  عليه  ويختاره  مندوبا  للسودان بالجامعة العربية .
  في السير الانتهازية  نلتقي  بنمط  أخر عجيب خاض معركتة  من  اجل المجد  الشخصى  والمالي  بدأب  كدأب  النمل  في الشتاء , يدخل ويخرج  بلا كلل , ويكمن ويتحرك  كثعبان  مليء بسم اسود ,  ففى  بداية  سنوات الستينات بدا حياته  كفراش ( مراسلة ) في شركة  تجارية  يملكها أرمن في قلب الخرطوم , وكانت وظيفته بجانب تنظيف المكاتب, وجلب الشاى  حمل الشيكات إلى البنوك ,  وإيداع  البريد  وجلبه  من مصلحة البريد , وهذا ليس بعيب  إذا  كانت  مقاصد نبيلة,  وطموحاته  مشروعة ,  وبحكم  موقع تلك الصحيفة  الحزبية في أسفل البناية  التي  بها  مكاتب الشركة  سعي   إلي خلق  علاقات  مع   كادر تحريرها   وعلي رأسهم  رئيس التحرير الذى كان من أهم  قيادات ذلك الحزب الطائفى,  وبذلك  بدأ  أولى  خطواته   الانتهازية فى طريق طويل  انتهى به  إلي ما انتهى إليه ألان  كصاحب لصحيفة   تافهة  لا يقراها   احد , وخانة  في   حزب  يعانى  من الانقسامات  الايميبية  , لم  يكن هذا النموذج  صحافيا يملك ناصية المهنة  ومجيدا  لأدواتها  التي  في مقدمتها اللغة,  فهو   لايزال  لا  يفرق  بين الفاعل والمفعول والرافع , والمرفوع ,  والمبتدأ والخبر , والجار والمجرور, وقد وصفه احد  الخبثاء  بان جاهل عصامي  اكتسب جهله بعرق  جبينه  لم يساعده  في ذلك  احد ,  ووصفه خبيث  أخر  بأنه  رضى  بجهله , ورضي جهله  به , وعاش هكذا متصالحا  مع   هذه الآفة  حتي ألان .
 في  بداية  ستينات  القرن الماضى  وكنت شاهدا علي الواقعة  سعى النموذج  وهو من غرائب الطبيعة  إن يدخل  الجامعة  بالرغم  من انه  لا يمتلك  الشهادة  الثانوية  التي تجيز  له  الالتحاق  بها  , ولكن  في ذلك الزمان كان أصحاب الجامعة  يخصصون كوتات   لحزب  قريب منهم  وتسمي تلك الكوتات  بأسماء  ا صحابها , مثل  كوتة فلان, وكوتة علان,  واختار  هو كوتة علان , ولكن  واجهته  مشكلة الشهادة  الثانوية, وهو الذى لم يكمل المرحلة الابتدائية  بعد   وعن طريق شخص كان  صديقا  له  في الماضي ويقاطعه  ألان  لأنه يعرف  ذلك التاريخ  وتلك الواقعة* , عن طريق ذلك  الشخص  لجأ إلي صاحب مدرسة خاصة   بالخرطوم  جنوب يبيع الشهادات الجاهزة الموثقة  توثيقا رسميا  من وزارة التعليم, وبتلك الشهادة  المزورة  دخل الجامعة  وتخرج منها  لا بدرجاته  العالية , ولكن  بهداياه  من أقمشة الصوف  الراقي عالي الثمن الذى كان يحبه  بعض الاساتذه من  أمثاله  عديمي الضمير الاكاديمى , نما وتفتح وعيه  الشرير  فقرر إن يكون  له  قرني استشعار يرعاهما  ويحركهما  ويدربهما  من اجل الأهداف المقبلة  وكانت تلك مرحلة جديدة في مسيرته.
  في عام 1969 وقع انقلاب النميرى العسكري  فأنضم  النموذج إلي المعارضة  في  الخارج  بقيادة   راحل وطني كبير  كان يرى   فيه  احد قادة الحزب الجدد  الذين يمكن الاعتماد عليهم  في معاركه  ضد  النظام  العسكري ,  و لكن شتان   بين رؤية  الاثنين إلى بعضهما  البعض   فالنموذج  كان ينظر إلي العمل المعارض  من خلال جيب الراحل الباذل العطاء  فطفق  يتحرك  بين ليبيا  والقاهرة وبغداد , خادعا الجميع  بأنه يقوم بدور إعلامي  يساعد علي إضعاف نظام  النميرى .
  التقيته  في بغداد  فى سبعينات القرن الماضى   بصحبة الراحل محمد عبد الجواد ,  جاء العراق  بتوجيه  من الراحل  الوطني الكبير ليوزع علي  مؤتمر لاتحاد  الصحفيين العرب  بيانا  باسم الجبهة الوطنية المعارضة  للنميرى , ولكنه  اهتبل الفرصة ليتوسط  له   بعض البعثيين   السودانيين  من الطلاب لان يقابل االرئيس  صدام حسين, وعندما  لم  يتمكن من  تحقيق هذه  الأمنية  كتب مقالة ركيكة مطولة  في جريدة الثورة  في مدح الرئيس العراقي  عسى إن تلفت النظر إليه  ,غير إن النموذج انتظرطويلا  قبل إن   يمنح   مظروفا  غادر من بعده  إلي الكويت .
   في التحليل النفسى لهذا النوع  من البشر هو انه  يعاني  دائما  من  اتساع ذلك  الشرخ  الاخلاقى في شخصيته  يحرص علي   سده  بشتي السبل مثل ان يرتدى  مثلا اجمل  البدل  واغلاها سعرا  ويلحقها بغليون, او سيجار كوبي  فاخر , او  ان يجتهد  في استنباط  حيل  في التزوير  حتي ينال  درجة اكاديمية  كبيرة  ويصير بذلك مثل شخص  يطلي جسمه  بلون غير لونه الطبيعى , ويدرب لسانه علي مصطلحات سياسية وادبية  قد  تسبب دهشة  الي مستمعيه  الذين لا يعرفون حقيقته, ويمضى النموذج  في مسيرته  مستجيبا  دائما  لمتغيرات الطقس  السياسي  بردا  قارسا , ام  حرا قاتلا  , يجيد  المراوحة  بين اليسار واليمين  والوسط   والشمولية والتعددية
يتبع
 s.meheasi@hotmail.com


 

 

آراء