نجـوم في أرض الخرطوم …. بقلم: عمر جعفر السّــــوْري

 


 

 

 

s.meheasi@hotmail.com

 

إلى الزميل فاروق احمد إبراهيم

 

عمر جعفر السّــــوْري

 

"هنا في هذا السجن

 

تجيش في حنايا صدري ثورة عارمة

 

و لكنني انتظر صابرا تراكم السحاب

 

سحب تدفعها رياح التاريخ

 

إذ لا أحد البتة

 

بقادر على منع هطول المطر"

 

                                       أنطونيو اغستينو نيتو

 

      كان الهواء الذي يهب من ضفة النيل الأزرق الجنوبية في الخرطوم باردا طيلة تلك الأيام و تلك الأمسيات و هاتيك الليالي، لكن الشمس الساطعة خلال النهار لم تمنع ذلك الخليط من البشر الآتي من مختلف أرجاء الدنيا من الاسترخاء على مقاعد وثيرة متناثرة في بهو الفندق الكبير و فندق السودان المطلين على النهر، و ذرع الممشى بينهما جيئة و ذهابا. ضاق الفندقان بالقادمين، إذ لم يكن في ذلك الزمان ما يليق بكبار الزوار غيرهما. لم يشهد السودان في تاريخه الحديث حشدا مثل ذلك الذي تجمع في تلك الأيام و ستينيات القرن الماضي تلفظ انفاسها. 

 

      ففي بداية العام 1969 انعقد في العاصمة السودانية، الخرطوم، مؤتمر حاشد لدعم الثورات و حركات التحرير في البلدان الإفريقية الرازحة تحت الاستعمار البرتغالي و تلك التي تعاني التفرقة العنصرية في جنوب القارة. كانت البلاد المعنية بهذه التظاهرة العالمية هي: أنقولا، و موزمبيق، و غينيا بيساو و جزر الرأس الاخضر و ساوتومي و برنسيب، و ناميبيا، و جنوب إفريقيا، و زيمبابوي. دعت الى ذاك المهرجان السياسي الكبير هيئتان هما: منظمة التضامن الآسيوي الإفريقي التي ما زالت تتخذ من القاهرة مقرا - و كان يقودها ساعتئذٍ الروائي و الصحافي المصري، يوسف السباعي، الذي اغتيل فجر ثمانينيات القرن المنصرم في العاصمة القبرصية، نقوسيا، إبان فعالية مشابهة - و مجلس السلم العالمي الذي رأسته يومذاك مناضلة يسارية بلجيكية، كانت تنشط في الدفاع عن قضايا السلم و المساواة و حقوق المرأة. ، إلا ان الشخص الفاعل في المجلس و الذي خلف ايزابيل بلوم في الرئاسة فيما بعد، كان محاميا شيوعيا هنديا مفوها، ذو طاقة لا تنضب و حضور طاغٍ. كان راميش شاندرا يتولى و يدير الأمانة العامة لهذه المنظمة من العاصمة الفنلندية، هلسنكي.  غلب على هاتين المنظمتين الشعبيتين التوجه اليساري، رغم وجود منظمات دينية و كهنوتية و مطلبية من بين أعضائها. و كانتا فاعلتين و مؤثرتين في مجريات الأحداث، يحسب لهما كل حساب، منذ بدايات خمسينيات القرن الماضي و حتى انتهاء الحرب الباردة و انتصار الكفاح المسلح في المستعمرات السابقة. لقد ولدتا من رحم انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية و تداعيات مؤتمر بوتسدام الذي شطر العالم إلى معسكرين، أو فسطاطين كما يحلو للبعض هذه الأيام اقتباس تعبيرات عدو لدود، يسكن الكهوف و يتنقل بين الجبال و الوديان.

 

      أشرفت على تنظيم ذلك المؤتمر بهمة و مقدرة اللجنة السودانية للتضامن الآسيوي الإفريقي، و كان على رأسها شيخ أزهري معمم، يرتدي الكاكولة و جبة فضفاضة، موسوم خداه بشلوخ بيّنة. تبوأ الشيخ على عبدالرحمن، زعيم حزب الشعب الديموقراطي حينئذ، منصب وزير الخارجية في آخر حكومة ائتلافية إبان الديموقراطية الثانية التي أطاح بها انقلاب 25 مايو/أيار 1969. لكنه أدار أعمال المؤتمر بصفته رئيسا للجنة السودانية للتضامن الآسيوي الإفريقي. كان علي عبد الرحمن من بين نفر قليل يعرف الفصل بين الأشياء و المهام و التكاليف و الانتماءات و الواجبات و الحقوق من غير تضاد يقف عائقا أو تعارض ذميم أو ضبابية تخلط بين هذا و ذاك.

 

      لم ينتبه كثير من المثقفين و أهل الأدب و الفكر يومئذٍ الى مقدم شاعرين كبيرين من شعراء البرتغالية لحضور أعمال التجمع العالمي الذي حظيت به الخرطوم. فقد حضر أغستينو نيتو و مارسيلينو دو سانتوس. كان الأول رئيسا لجبهة تحرير أنقولا (امبلا) و الثاني نائبا لرئيس حركة تحرير موزمبيق (فريليمو). لكنهما فوق هذا و ذاك يعدان، و حتى اليوم، من عمالقة الشعر البرتغالي الحديث، و لهما موضع في خارطة الشعر العالمي. كان على رأس فريليمو، أدواردو موندلاني، الذي اغتالته المخابرات البرتغالية بُعيد مؤتمر الخرطوم في مقره بدار السلام. و من بين حضور المؤتمر عدد كبير من الكتاب و الأدباء و الصحافيين اللامعين، إلى جانب ساسة و مناضلين كان يشار إليهم بالبنان في تلك الحقبة من التأريخ. جاء زعيم الكفاح المسلح في غينيا بيساو و جزر الرأس الاخضر، أميلكار كابرال، و هو كاتب و مفكر مهم، اغتالته في كوناكري الأجهزة السرية البرتغالية أيضا بعد أن اخترقت صفوف حركته، و كانت بلاده على أعتاب الاستقلال حينئذٍ؛ كما جاء سام انجوما، زعيم الحركة المناهضة للاحتلال و التمييز العنصري في جنوب غرب إفريقيا (ناميبيا). و كانت من نجوم ذلك التجمع المناضلة الاميركية السوداء، إنجيلا ديفيز، و الكاتبة و المؤرخة و المؤلفة المسرحية و الموسيقية، مدام شيرلي ديبوا، التي هاجرت مع زوجها وليم ديبوا من الولايات المتحدة الاميركية إلى غانا كوامي نكروما في العام 1961. كانت تلك هجرة عكسية من العالم الجديد المتقدم إلى منابت الجذور و الأصول، و هي تخرج من الظلمات حبواً. تخلى كل منهما عن جنسيته الاميركية و اكتسبا جنسية غانا! تلك كانت أيام أفريقيا المضيئة المتوهجة، الواعدة التي شكلت عنصر جذب للأحرار. مات وليم ديبوا في أكرا بعد ذلك بسنتين، و رحلت زوجه، شيرلي، إلى مصر عبد الناصر بعد أن طردها الذين انقلبوا على (الاوساقيفو)* نكروما في العام 1967، و جردوها من الجنسية الغانية، في خسة و لؤم.  

 

      إن أية دراسة جادة لتاريخ حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الاميركية لابد أن تقف طويلا عند وليم ديبوا، سيرة و عملا و نتاجا و فكرا و كفاحا قبل أن تنطلق نحو أفاق أخرى أو تعبر إلى مراحل مالكوم أكس و مارتن لوثر كنق و استوكلي كارمايكل، الذي هاجر هو الآخر إلى غينيا سيكوتوري بعد أن طورد هو و جماعة الفهود السود في بلاده، مطاردة السحرة و غرائب الإبل. تزوج كارمايكل هناك من الناشطة في الحركة المعادية للتفرقة العنصرية و المغنية الجنوب افريقية، ميرام مكيبا.

 

      في العام 1970 زار كارمايكل و زوجه السودان بدعوة من جوزيف قرنق، وزير شؤون الجنوب في حكومة العقيد جعفر نميري، الذي عرفني عليهما، فقد كنت يومذاك مصادفة في مكاتب الوزارة القريبة من رئاسة أركان القوات المسلحة السودانية بعد لقاء قصير مع الصحافي الجهبذ الأستاذ عوض برير، الذي رأس يومئذ صحيفة أصدرتها الوزارة بالانقليزية و أسمتها (نايل ميرور) جئت أسعى إلى معرفة رأي جوزيف قرنق في سر و خلفيات الأزمة الصامتة التي بدأت تتبلور بين قوى اليسار و العقيد غريب الأطوار. أتيت إلى مكتبه دون موعد مسبّق، كما كنا نفعل في ذلك الزمان، حيث لم تكن الحواجز قد نُصبت و لم يمتلك الخفراء و"الديدبانات" ناصية الأمور، يأمرون و ينهون بسلطان القابع خلف المكاتب الموصدة، و ما صار العسس يصدون الناس و أصحاب الحاجات بقسوة و نزق عن أصحاب المقامات، بدلا من حراسة هؤلاء البؤساء ممن يضمر لهم شرًا، إنْ لم يصبح بعضهم منبع الشر ذاته. رحب بي مدير مكتب قرنق، صامويل أرو، و هو سياسي جنوبي لطيف المعشر، ذو رؤية ورؤى، و دعاني إلى الجلوس معه قليلا قبل أن ألقى الوزير، إذ كان يستعد إلى التوجه نحو الفاتيكان مبعوثا إليها يقارع حجة "المعادين" لوحدة البلاد بالحجة. و كان لي في الصرح البابوي حينئذ معارف من أبناء الكنيسة الكاثوليكية في إرتريا، حسب كلانا أنهم قد يشكلون مدخلا إلى عتبات بلاط خليفة القديس بولس الرسول. لكنني لست موقنا إن كان صامويل أرو ذهب في بعثته الدبلوماسية تلك، أم عصفت بها رياح الأحداث الدامية التي صبغت السودان باللون الأحمر القاني، و ما زالت تلطخ جدران المدن، و رمال الصحارى، و طين الأرياف و الحقول، و مياه الأنهار و الجداول.

       كان من أكثر الصحافيين السودانيين اهتماما بتلك الفعالية و نشاطا في أروقتها الزميل فاروق أحمد إبراهيم. غطى فاروق أعمال هذا التجمع العالمي لوكالة أنباء محلية و لجريدة "صوت السودان" التي صدرت عن حزب الشعب الديموقراطي. و هو صحافي "ضرس"، حينما يروق لبعض الناس التعبير عن القدرة الجبارة و الملكة الفائقة و التحكم في ناصية الأمور. و هو إلى ذلك بحاثة دءوب و كاتب ذو بيان رفيع و جلد و احتمال. فبحثه المستفيض الذي صدر عن وكالة السودان للأنباء في الثمانينات عن "أم ضواً بان" و غير ذلك، مراجع للدارسين تستحق الحفظ و الاهتمام. لم يفارق فاروق و صحافي يوغسلافي راسل وكالة "تانيوق" اليوغسلافية من الخرطوم، المؤتمر و المؤتمرين إلا عند السحر، حينما تفرغ أروقة الفندقين من الساهرين. كان ذلك الصحافي اليوغسلافي يعد في ذات الوقت رسالته لنيل الدكتوراة عن (الأحزاب السياسية السودانية: التناقض بين العقيدة و الممارسة). و لعل في رسالته تلك بصيص ضوء ينير مواقع الأقدام التي تريد أن تعي ما يجري في بلاد السودان.

      حينما افرنقع القوم و رحل المؤتمرون، كل إلى بلاده أو إلى منفاه أو نحو دغله، نشرت "صوت السودان" عبارة في صفحة كاملة لفاروق أحمد إبراهيم عن "المناضل الجسور"، في مناقب الشيخ علي عبد الرحمن.

 -------------------------------------------------------------

* أطلق الغانيون هذا اللقب الذي يعني "المعلم" على زعيمهم كوامي نكروما.         

 

 حاشية

 

 انتهت  رائعة  الزميل عمر السّورى   التى تحمل   شجنا   ثوريا من عصر  السبعينات ولكن لم ينته  الحديث عن الزميل فاروق احمد ابراهيم  ذلك  الإنسان الذى عاش ولا يزال حياة حافلة  بالتصوف الوطني وطهارة اليد ونظافة والتزام القلم , عرفت فاروقا  في  ستينات القرن الماضى  وانأ  صبى يافع  قدمت من عاصمة الجزيرة وادمدنى للجلوس لامتحان الثانوية للالتحاق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم, كان زما نئذ  محررا لصفحة الشباب  بجريدة الجماهير ثم غادرها  إلى صحيفتي الناس والتلغراف  التي قضى فيها سنوات , ولن انسي  تلك الورقة من فئة الخمسة وعشرين قرشا     التي اعطانيها  وانأ  جائع مشرد في شوارع الخرطوم, في ذلك الزمن  كانت رايات  حركات التحرير  ترتفع  في سماء  القارة الإفريقية  وكانت الخرطوم  ملجئا  للثوريين المضطهدين من مستعمريهم  ينزلون في بيوت  الشباب بالخرطوم  وبانسيونات تديرها  نساء إغريقيات ,  كان فاروق  احمد  إبراهيم  أول من كون  خلية للجبهة الشعبية لتحرير  فلسطين  بالسودان إيمانا منه  بعدالة القضية الفلسطينية  ومنه   وبه تعرفنا على  حركة القوميين العرب و زعيمها جورج حبش  الذى   كان يطلق عليه  اسم الحكيم لكونه طبيبا بشريا  اختار مبضع   الثورة  في غرف الكهوف   بأغوار الأردن  بدلا من غرف االعمليات في المستشفيات, تزاملنا سويا  في التلغراف  والناس  والأحرار  وذقنا مرارة العمل  مع محمد مكي , والتشرد الرحيم مع صالح عرابي, اطلقنا علي  فاروق اسم فاروق البروليتارى لتجرده فى العمل الوطنى  وتسوير  نفسه بقيم عالية وقته شر السقوط  فى مهاوى الانتهازية والارتزاق, ومن كثرة استعمالنا  للاسم  الجديد  اختصره  صديقنا  الروائى الراحل  محمود  محمد  مدنى  ليصبح  فاروق البرو  ولازلت اذكر كيف نجونا من وعيد جعفر النميرى  عندما  قام الضباط  الشيوعيون  في  عز ظهر التاسع  عشر من  يوليو  سبعينات القرن  الماضي   بانقلاب  نهاري  أطاح لمدة  27  بنظام العقيد النميرى  الأمر الذي أطلق عليه الراحل محمد أبو القاسم حاج  كميمونة باريس, يوم ذاك  كتبنا فاروق وانأ  برقية تأييد لهاشم الغطا  قائد الانقلاب باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فرع الخرطوم , ولكن لحسن حظنا عثر عليها   في مكاتب جريدة القوات المسلحة  الزميل الراحل  محمد إبراهيم حتيكابى  والذي مزقها قبل إن تصل الإذاعة  عندما أحس  بفشل المحاولة وعودة  أبعاج,  وإلا لكنا  ضمن أصحاب برقيات التأييد  الذين انتقم منهم   النميرى وزج  بهم في سجن كوبر سيء الصيت   طالما  أنحيت باللائمة  علي صديقي  كمال حسن بخيت رئيس تحرير الرؤى العام الجريدة القومية  بلغة المصريين لأنه لم يستوعب  صديقنا فاروق  كرافد  من  الخبرة  الصحفية الطويلة  يستفيد  منها أبناؤنا  من جيل الصحافيين الجدد  ولا ادري  حتى كتابة هذه  السطور  إن كان فاروقا  يتجول في ردهات  صاحبة الجلالة  مثل صديقنا الروائي عيسى الحلو,  أم انه  اختار الجلوس في  منزله  بالجريف  كجنرال ماركيز لايحادثه احد

                                                   صديق محيسى ,  الدوحة  قطر

 

آراء