tigani60@hotmail.com
.ما كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما ليضطر للمشاركة بنفسه في الاجتماع الذي دعا له الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون غدا الجمعة في نيويورك لبحث المسألة السودانية بين يدي الاستفتاء الوشيك على تقرير مصير الجنوب, لولا أن إدارته أدركت في وقت متأخر للغاية أن أكبر بلد في قلب القارة الإفريقية والمجاور لتسع من بلدانها, يقترب بشدة من حافة الهاوية وهو ما عبرت عنه بوضوح وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي وصفت الوضع بأنه قنبلة موقوتة ستخلف عواقب خطيرة جراء (الانفصال المحتوم) لجنوبه.
وعلى الرغم من أن تعليقها قد أثار حفيظة وصيفها السوداني ورد عليها بعنف متهماً واشنطن بالترويج لفصل الجنوب, إلا أن كلينتون التي كانت تتحدث عن سياسية بلادها الخارجية في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية في وقت سابق من هذا الشهر, كانت تصف خطورة الوضع الراهن وسبل تفادي عواقبه بأكثر مما كانت تستحث الجنوبيين على الاستقلال, فقد قالت (حتى لو فعلنا كل شيء على الوجه الأتم, وبذلت كذلك الدول ذات الوزن المهتمة بهذا الشأن غاية جهدها, فإن الحقيقة هي أن هذا القرار- أي الانفصال- سيكون صعباً على الشماليين القبول به), ومضت تشرح الوضع المأزقي الذي سيواجه الشمال (ما الذي سيحدث لعائدات النفط, فإذا كنت في الشمال ووجدت نفسك تفقد فجأة 80% من العائدات النفطية فلن تكون شريكاً متحمساً), وتساءلت (ما هي الصفقات التي يمكن أن تعقد للحد من العنف المحتمل)؟.
وأجابت(علينا البحث عن سبل يجد معها الشمال أن قبوله باستقلال الجنوب بسلام أمراً يستحق المخاطرة, كما على الجنوب إدراك أنه إذا لم يكن يرغب في المزيد من سنوات الحرب, ولا يريد تبديد فرصة بناء دولته الجديد فإن عليه إيجاد صيغة لاستيعاب مشاغل الشمال).
كانت تلك إذاً هي المرة الأولى التي يعلن فيها مسؤول أمريكي رفيع صراحة عن ترتيب إدارة أوباما لعرض صفقة على شريكي اتفاقية نيفاشا بهدف تفكيك (قنبلة الانفصال) الوشيكة الانفجار.
لم تمض بضعة أيام على حديث كلينتون المثير للانتباه حتى حل المبعوث الرئاسي الأمريكي للسودان الجنرال سكوت قريشن على الخرطوم في رحلته رقم عشرين منذ بداية بعثته قبل عام ونصف, ولم تكن زيارته هذه المرة مهمة روتينية كسابقاتها, بل جاء يحمل في حقيبته عرضاً أمريكياً مفصلاً بـ(الصفقة الأخيرة على حافة الهاوية).
وحسب مصادر سودانية وثيقة الصلة بهذا الملف فإن الجنرال قريشن أبلغ كبار المسؤولين في الخرطوم أن واشنطن قررت أخيراً أنه قد حان الأوان لتلعب بأهم أوراقها في المسألة السودانية, ولذلك فإنه جاء ليلقي (أكبر كروتها) على طاولة المؤتمر الوطني الحاكم.
ولتأكيد الأهمية الاستثنائية لما جاء لأجله هذه المرة, فقد أبلغ المبعوث الأمريكي المسؤولين في الخرطوم أن الرئيس أوباما الذي ظل يتابع عن كثب مهمته في السودان قرر أن يلقي بثقله في المهمة, والانخراط بصورة شخصية ومباشرة في إدارة الملف والظهور بنفسه على المسرح, ولذلك فإنه, أي الرئيس أوباما, سيكون حاضراً في نيويورك ليس فقط للمشاركة في الاجتماع الذي دعا له بان كي مون في مقر الأمم المتحدة, بل كذلك لقيادة فريق بلاده في الحوار والضغط على طرفي اتفاقية السلام السودانية للفوز برهانه على إمكانية نزع فتيلة (قنبلة الانفصال) قبل انفجارها, بإبرام صفقة تحقق مكاسب للطرفين, وكذلك للولايات المتحدة القلقة بشدة من عواقب (انفصال خشن خارج السيطرة) على مصالحها وعلى المنطقة.
وكان بالفعل مفاجئاً دخول أوباما المباشر على الخط, فقد كان مقرراً أن ترأس وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون وفد بلادها لذلك الاجتماع, وكانت هي من اتصلت قبل ذلك بنائبي الرئيس السوداني سلفا كير, وعلي عثمان لدعوتهما إلى نيويورك, وهو أمر ما كانت تحتاج للقيام به بالنظر إلى أن بان كي مون هو صاحب المبادرة في الدعوة للاجتماع, ولكن كانت تلك إشارة موحية بأن واشنطن قررت تبني الاجتماع, وقيادته, وتحويله من شأن خاص بالمنظمة الدولية إلى أمر يهم الولايات المتحدة. وتأكدت الأهمية الاستثنائية لهذا الحدث بالإعلان المفاجئ عن مشاركة الرئيس أوباما شخصياً فيه.
عند اجتماعه بكبار المسؤولين في الخرطوم كشف الجنرال قريشن عن تفاصيل (الصفقة الأمريكية) للمؤتمر الوطني عارضاً التعاون مع إدارة أوباما لضمان التنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل, وإقامة الاستفتاء في موعده والقبول بنتائجه والاعتراف بها وعدم وضع العصي في دواليب جنوب السودان المستقل, وحل أزمة دارفور مقابل سلسلة من الخطوات بداية بمخاطبة مخاوفها من عواقب الانفصال, إلى أن تؤدي في نهايتها إلى التطبيع الكامل للعلاقات السودانية الأمريكية, غير أن قريشن حذر المسؤولين السودانيين بوضوح بأن رفض (الصفقة) وعدم التعاون مع واشنطن لتحقيق هذه الأهداف ستكون له عواقب وخيمة بيد أنه لم يفصل في طبيعة هذه العواقب, بينما اهتم أكثر بطرح خارطة الطريق التي حملها حتى تطبيع علاقات البلدين
وحسب خارطة الطريق الأمريكية فإن واشنطن تعهدت في حالة موافقة المؤتمر الوطني على الصفقة أن تعمل خلال الأشهر القليلة المتبقية قبل موعد الاستفتاء على رفع القيود على بعض الصادرات الأمريكية إلى السودان, خاصة تلك السلع الحيوية التي يحتاجها السودان في المجال الزراعي, وفي مجالات أخرى.
والأمر الثاني أن تنخرط الإدارة الأمريكية مع مؤسسات التمويل الدولية, البنك الدولي وصندوق النقد الدولي للبحث في مسألة إعفاء ديون السودان, والأمر الثالث أن تساعد واشنطن في إيجاد صيغة لمعادلة مرضية مع الحركة الشعبية بشأن عائدات النفط, وقد حرص قريشن على إبلاغ الخرطوم بتفهم واشنطن لتبعات فقدانها ل80% من العائدات النفطية.
وتمضي خارطة الطريق الأمريكية إلى أنه في حالة قيام الاستفتاء في موعده, واعتراف الخرطوم به, فإنه سيتم تبادل السفراء بين البلدين, وإذا استمرت الخرطوم في التعاون ولم تضع العراقيل حتى قيام دولة الجنوب المستقلة في نهاية الفترة الانتقالية بسلاسة, فإن واشنطن حينها ستنظر في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب, ورفع العقوبات المتعلقة بذلك, أما التطبيع الكامل للعلاقات فسيكون رهيناً بالتوصل إلى تسوية نهائية لأزمة دارفور.
واجه الجنرال قريشن لوماً مريراً من المسؤولين في الخرطوم على نهج واشنطن في التعامل مع المؤتمر الوطني, وذكروه بصفقة مماثلة وتلقوا الوعود ذاتها من وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كولن باول إبان مفاوضات السلام الشامل, ومنذ التوقيع عليها وحتى اقتراب نهاية الفترة الانتقالية, فإن واشنطن لم تف بأي من وعودها تلك, مما لا يوفر أية أرضية للثقة في خارطة الطريق الجديدة, غير أن المبعوث الأمريكي أكد على أن هناك فرقاً هذه المرة مؤكداً أن الصفقة التي يعرضها على الخرطوم لا تمثل وجهة نظره, ولا فريقاً بعينه في الإدارة, ولكنها تعبر عن موقف موحد لإدارة أوباما وتحظى بموافقة كل الأطراف المعنية داخلها بما في ذلك تلك الشخصيات المعروفة مواقفها المتشددة حيال الخرطوم التي تتزعمها المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة سوزان رايس.
وعلى الرغم من تحفظات الخرطوم (خشية أن تلدغ من الجحر مرتين) إلا أنها انخرطت عملياً في التعاطي مع العرض الأمريكي عبر المحادثات التي أجراها نائب الرئيس علي عثمان طه في نيويورك مع كلينتون ورايس قبل اللقاء الكبير بحضور أوباما
ومع ذلك تشير الدلائل إلى أن الصفقة الأمريكية المعروضة على الخرطوم تتأرجح بين القبول والرفض في دوائر حزب المؤتمر الوطني الحاكم, فثمة فريق يتخذ مواقف متشددة حيالها ويعتبرها محاولة أمريكية جديدة للحصول مرة أخرى على تنازلات من الخرطوم مقابل وعود فضفاضة ليست هناك ضمانات حقيقية للوفاء بها من قبل واشنطن نحو ما جرى في السابق, بينما يرى فريق أخر أن الخرطوم ملزمة بالوفاء بالتزاماتها في اتفاقية السلام الشامل في كل الأحوال, وأن واشنطن لم تطلب سوى ذلك , وبالتالي فليس هناك مبرر لرفض العرض الأمريكي, ويشير هذا الفريق أيضاً إلى أن وضع إدارة أوباما لخريطة طريق محددة على الطاولة يمثل تطوراً جديداً لم يكن متوفراً من قبل.
ومهما يكن من أمر فإن الوصول إلى اتفاق على صفقة تنزع فتيل (قنبلة الانفصال المحتوم) من اجتماعات نيويورك أمراً لا مفر منه للأطراف الثلاث الإدارة الأمريكية, المؤتمر الوطني والحركة الشعبية, بالطبع إذا كانت المحافظة على السلام وإبعاد شبح عودة الحرب هو هدف مشترك ويحقق مصالح كل طرف, بعدما تبددت فرص بقاء السودان موحداً.
وبالنظر إلى أنه ليس هناك فيتو من الخرطوم على انفصال الجنوب, وأن ما تبحث عنه الآن هو ضمانات موثوقة-خاصة من الولايات المتحدة- ألا يؤدي ذلك إلى أن تواجه بمفردها العواقب الاقتصادية والسياسية المترتبة على الانفصال.
وبالنظر إلى أن الحركة الشعبية التي تقترب من تحقيق حلمها باستقلال الجنوب فليس من مصلحتها أن تضطر المؤتمر الوطني إلى أضيق الطريق فيعمد إلى خلط أوراق اللعبة إن لم يجد فيها ما يوفر له الحد الأدنى مما يمكنه من تجاوز هذه الفترة العصيبة بسلام.
وبالنظر كذلك إلى أن آخر ما تحتاجه واشنطن, المثقلة بتبعات تدخلها في العراق وأفغانستان, أن تفتح على نفسها جبهة جديدة ف(قنبلة الانفصال) إذا انفجرت فستصيب شظاياها وفوضاها عشر دول على الأقل في هذه المنطقة من القارة الإفريقية, وإذا أضفت إليها الفوضى الحادثة في الصومال, فذلك يعني أن وضعاً مثالياً سيتحقق لتوفير اكبر ملاذ آمن للجماعات التي تطاردها واشنطن في (حربها على الإرهاب).
كل تلك الاعتبارات في حسابات الأطراف الثلاثة في واشنطن والخرطوم وجوبا تجعل هناك حاجة حقيقية لعقد صفقة, ولكن مع ذلك لا أحد يستطيع التكهن بما يمكن أن يفعله من يرى داخل هذا الأطراف أن الصفقة تتم على حسابه.
عن جريدة (الراية) القطرية
الخميس 23 سبتمبر 2010