الطبعة السودانية من ريا وسكينة
حكاية ريا وسكينة التي دارت أحداثها في اربعينيات القرن الماضي في مدينة الاسكندرية، دراما مصرية تسجل وقائع يومية لمجموعة بائسة قليلة الحظ على رأسها «ريا وسكينة»، تستهدف اصطياد النساء وقتلهن ودفنهن بعد سلب كل ما لديهن من حلى، وهي أحداث ليست بعيدة عن أحداث النسخة السودانية في كون ضحاياها من النساء فقط.
الصور المؤسفة التي تتناقلها وسائل الإعلام العربية والدولية عن استهداف النساء السودانيات هذه الأيام باسم ما يُسمى بقانون النظام العام، وأبرزها حكاية «بنطلون» لبنى أحمد حسين، وقضية الشابة السودانية الضحية التي ملأت صورها شاشات العالم وهي تضرب في كل شبر من جسدها دون وازع ديني او اخلاقي مهما كانت جريرتها، والتي يحاول بعض المسؤولين تجريمها لتشويه صورة الفتاة وتبرير ما لحق بها في مخالفة صريحة لجوهر الدين والشرع والأخلاق السودانية، ربما تدعو جميع السودانيين وغيرهم للتساؤل حول ما يلحق ببعض النساء السودانيات من تعدٍ سافر باسم النظام العام وتطبيقاته غير النظامية وغير الأخلاقية.
لقد نالت هذه المشاهد من صورة السودان في الداخل والخارج الكثير من القبح، بقدر ما نال جسد هذه الفتاة من السياط وهي تتلوى وتستنجد من فرط الألم، في وقت السودان أحوج ما يكون فيه إلى إظهار أجمل ما عنده للعالم ليبدد الصور البائسة التي طبعت أذهان العالمين.
ولو كان هم الدولة الحرص على تطبيق جوهر الدين والقانون وإقامة الحق والعدل والنظام وتثبيت أمن المجتمع، لكان من أهم أولوياتها إزالة أسباب العوز والحاجة التي تدفع إلى الانحراف، وتطبيق القانون أولاً على المفسدين من منتهبي المال العام وسارقي قوت الناس من ذوي الجاه والنفوذ والسلطان، قبل تطبيقه على هذه الفتاة الضحية، على طريقة «إذا سرق الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد» وهو ما نهى عنه الرسول الكريم.
فإقامة العدل بين الناس وتطبيق القانون لا تتجزأ أو تنتفى في ما ثبت فيه جرم او تعدٍ. وحتى إذا ثبت تجاوز البعض من النساء او الرجال للسلوك العام بما يضر بالمجتمع، فهناك أصول لتطبيق العقوبة ومواصفات لمن يقوم بتطبيقها وفق القانون.
ولكن المضحك المبكي أن المسؤولين الذين تباروا في التعليق على نشر شريط الفيديو الذي حمل هذه الصور المزعجة على طريقة ويكيليكس، كان أكبر همهم من إجراء التحقيق هو الكشف عمن قام بتسريب هذا الشريط، وليس حول ما احتواه من مشاهد لا تليق بالسودانيين ودينهم وثقافتهم وقيمهم واعتدادهم بالمرأة التي خلدتها الأغنيات الحماسية التي يتمايل لها طرباً علية القوم في كل مناسبة.
وللسودانيين تقاليدهم في التعامل مع النساء عامة، ولهم تقاليدهم حتى في التعامل مع من يبعن أجسادهن بسترهن وانتشالهن إلى جادة الطريق، وقد جسدوا ذلك في أدبهم الخاص المروي والمسموع، لاسيما في روايات رائد القصة القصيرة في السودان الراحل عثمان علي نور وغيره من الأدباء.
هذه الصور التي تجسدها مثل هذه القوانين تتناقض تماما مع ما تعلنه الدولة من سياسات تدعو للتواصل مع العالم المتحضر وما تبشر به عبر الإعلام، بل تتناقض حتى مع جوهر الدين ووصايا الرسول الكريم لاحترام النساء وتقديرهن. ولعل في الحديث الشريف الذي يروي قصة المرأة التي زنت وأتت للرسول «ص» تقرُّ بذنبها ليطبق عليها الحد، ما يؤكد أن جوهر الدين يتناقض تماما مع ما يرمي إليه قانون النظام العام وزبانيته.
وعليه لا ينبغي أن تجد الدولة حرجاً في إلغاء هذا القانون المعيب، ويكفي أنه مخالف لروح الدين والشرع ومخالف للقيم السودانية، فضلاً عن أن القوانين السودانية كافية لتطبيق النظام العام وفق الضوابط والإجراءات القانونية وجميعها مستمدة من الإسلام.
وأخيرا فإن مثل هذه المشاهد والتصرفات وغيرها من التجاوزات السياسية والاقتصادية وصور الفساد وغيرها، هي وحدها التي تشجع على خلق وإنشاء ويكليكس سودانية تفضح مثل هذه الصور والتجاوزات في هذا العصر المحكوم بتكنلوجيا المعلومات، وهذا ما لا نرجوه لبلادنا التي لمواطنيها من الضعفاء والمستضعفين والمسحوقين ما يبرر رفع تطبيق الحد، وقديما قال الإمام حسن البنا «لا تقطع يد سارق ما لم يستوفِ حقه من مأكل ومشرب ومسكن وأن يُقضى دينه».
فإذا كان هذا في ما يتعلق بتطبيق حد شرعي، فما بال تطبيق قانون النظام العام الذي ناله ما ناله من انتقادات وطعون من علماء ومفكرين وقانونيين ونشطاء لهم من العلم ما يؤهلهم لذلك.
Hassan Elhassan [elhassanmedia@yahoo.com]