الاقتصاد السوداني.. أخيراً خبر جيد، النفط خارج الحسابات

 


 

 



يقترب موعد التاسع من يوليو، عندما يصحو السودانيون على واقع نشوء دولتين على أرض وطنهم بكل تعقيدات وتبعات وتداعيات هذا الحدث الجلل، لاسيما على صعيد أوضاع الاقتصاد، المجال الاكثر تأثرا مباشرا وعاجلا، ومع دنو هذا الموعد بات الوعي الرسمي والشعبي على حد سواء يزداد تبينا من حجم وتكلفة فاتورة الانفصال، بصفة خاصة فقدان العائدات النفطية التي كانت تؤمنها اتفاقية قسمة الثروة مما يتسبب في صدمة اقتصادية يتفق المحللون على حتمية حدوثها، وان تباينت تقديراتهم شأن مدى فداحة ثمن الانفصال وحجم توابع زلزاله.
ولئن بدا واضحا حتى قبل اسابيع قليلة من هذا الموعد ان الامور ابعد ما تكون عن اتفاق بين الطرفين على خريطة طريق لانفصال سلمي وهادئ وسلس على خلفية عدم التوصل الى اتفاق لحسم مسألتي أبيي وترسيم الحدود العالقتين من بنود اتفاقية السلام، ثم حالة الجمود وكذلك تباعد المواقف بشأن بعض قضايا فك الارتباط بين الدولتين الوليدتين.
فإن أياً من الطرفين لا يملك ترف الانتظار على الجبهة الاقتصادية لوقت مفتوح مثلما تملك الجبهة السياسية لقطف ثمار سياسة التصعيد على حافة الهاوية التي شهدتها الجبهة العسكرية في مسألة أبيي.
والانطباع السائد ان حقبة ما بعد التاسع من يوليو ستحمل أنباء سيئة للاقتصاد السوداني، والمعني هنا بالطبع الشمال، وتقوم الافتراضات على انه سيدخل في أزمة عميقة، وحسب تصريحات نسبت للدكتور صابر محمد حسن، محافظ البنك المركزي السابق، فان حدوث صدمة اقتصادية في البلاد عقب انفصال الجنوب ستكون امرا واقعا، وصفها بانها تفوق تأثير الأزمة المالية العالمية. ما لم يتم تداركها باصلاحات رئيسية في هيكل الاقتصاد السوداني.
والسؤال الذي يثير حيرة السودانيين جميعا، وكذلك المهتمين من خارج السودان، لماذا يظل الاقتصاد السوداني مأزوما ومتى يكتب له الخروج من هذه الدائرة المفرغة؟ وكيف لبلد يملك كل هذه الموارد الطبيعية الضخمة ان يكون مدرجا ضمن لائحة الدول الاقل نموا في تصنيف الامم المتحدة، في حين ان دولا لا تملك شروى نقير من الموارد الطبيعية تتبوأ مكانا متقدما بين اكبر عشر اقتصادات في العالم، سنغافورة نموذجا وهي التي لا تتعدى مساحتها ثلاثمائة وخمسين كيلومترا مربعا، اي ان مساحة السودان توازيها اكثر من سبعة آلاف مرة.
من الواضح ان التشخيص السليم لأزمة الاقتصاد السوداني يشير الى انها في الحقيقة أزمة افتقار الى الخيال والرؤية، والعجز عن اغتنام الفرص السانحة وحسن ادارتها، وتقاصر القيادة القادرة على الالهام لارتياد آفاق بعيدة تتجاوز الاطر التقليدية المكبلة، مأزق الاقتصاد السوداني انه ظل يدار بذهنيات محلية محدودة الأفق وتفتقر الى الكفاءة والفاعلية والديناميكية. لقد ظل الاقتصاد السوداني مأزوما لأنه ظل مرتهناً لادارة الأزمات، وليس لادارة الفرص، ما ان يخرج من أزمة حتى يدخل في اخرى وهكذا سلسلة أزمات متلاحقة.
وما كان لمسألة الانفصال ان تحدث كل هذا التأثير السلبي على صعيد الاداء الاقتصادي للدولة، لو كانت أحسنت استغلال الموارد الكبيرة من العائدات النفطية التي توفرت لها طوال اكثر من عشر سنوات، لقد بددت الحكومة وقتا ثمينا وفرصا ذهبية ابان سنوات رخاء العائدات النفطية على مدار العقد الماضي، وقد اطلت السنوات العجاف بلا تحسب لها، وما كان الامر ليحتاج الى عباقرة في علم الاقتصاد لاكتشاف هذه الحقيقة العلمية البسيطة التي جرت قبل آلاف السنين على لسان وزير مالية العزيز، يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
لقد بح صوت الخبراء والمختصين وهم ينبهون منذ ان اطل فجر عصر النفط على البلاد من مغبة الخضوع لاغرائه، والركون اليه دون اهتمام بقطاعات الانتاج الحقيقية في بلد يذخر بموارد طبيعية هائلة في الزراعة بشقيها، وكان محتماً ان يصاب الاقتصاد السوداني بالمرض الهولندي المعروف لان صناع القرار تجاهلوا تلك النصائح ليس لعدم معرفة بتبعات ذلك، فمن بينهم خبراء اقتصاديون مرموقون، ولكن لأن مشكلة الاقتصاد السوداني في عهد الحكم الحالي هي انه لم يكن يدار بأولويات وحسابات اقتصادية، بل غلبت عليها الاجندة السياسية وحسابات الربح السياسي القصير الأمد على حساب المعالجات الاقتصادية العلمية طويلة الأثر.
ومهما يكن من أمر انتهت. في كل أنحاء العلم، تلك الحقبة التي كانت تمارس فيها السياسة بحسبانها سوقاً لـ«طق الحنك» وإطلاق الشعارات الجوفاء، لقد أعادت التطورات على الساحة العلمية تعريف السياسة ذات القيمة الحقيقية بأنها القدرة على الإدارة الاقتصادية الفعالة والكفاءة للموارد المحدودة بحيث تحقق الرفاهية للمواطنين، لتضع بذلك معايير جديدة لنجاح وفشل الدول، والدور المحوري الذي يلعبه الاقتصاد كرافع أساسي للعمل السياسي لم يعد أمراً محل جدل، وأينما جلت ببصرك رأيت الاقتصاد يستحوذ كل اهتمام وأجندة الحكومات والسياسيين، يستوي في ذلك الدول الديمقراطية العريقة أو تلك الباحثة بجد عن التحول نحو الديمقراطية وحتى تلك النظم الدكتاتورية العتيقة التي تحسب في توفير الرفاهية الاجتماعية شأناً يغني مواطنيها عن الالتفات لتسلطها وسلبها لحرياتهم، ومن يتابع الانتخابات التي تجري في أركان الدنيا الأربعة يجد ان القضايا الاقتصادية هي محور حملات البرامج السياسية كما انها مناط الترجيح بين الأحزاب المتنافسة.
وها هو حزب العدالة والتنمية التركي يقترب من الفوز بدورة برلمانية ثالثة في الانتخابات العامة التي ستجري في الثاني عشر من يونيو الجاري، وما ذلك إلا لأنه نجح منذ فوزه الأول في انتخابات عام 2002م، في النهوض اقتصادياً بتركيا، وهي التي كانت على شفا الإفلاس مع مطلع القرن الجديد، لتلحق في غضون سنوات قليلة بركب مجموعة العشرين التي تضم أكثر الاقتصادات العالمية، وهو أمر بالطبع لم يتحقق صدفة ولا خبط عشواء لكنه نتيجة منطقية لرؤية استراتيجية ثاقبة، وقيادة مثابرة وأداء فعال.
ولئن كانت هناك من فائدة لخروج العائدات النفطية من حسابات دوائر صناعة القرار، فهو الأمل في أن تفيق من سكرة الأموال النفطية السهلة وتثوب إلى رشد تحريك الفرص الحقيقية لإنهاض الاقتصاد السوداني من كبوته المتطاولة، وهو أمر لا يمكن أن يتم بإجراءات جزئية وترقيعية هنا وهناك، المطلوب أكثر من مجرد البحث عن سبل لسد عجز الموازنة الوشيك في موارد النقد الاجنبي، أو في ايراداتها، بل الدخول في حقبة جديدة لاطلاق طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة، وفي تحريك عجلة الإنتاج، وادارة الاقتصاد بعقلية اقتناص الفرص وتعظيمها، لا الانكفاء على الاستمرار في نهج ادارة الأزمات.فالعائدات النفطية مهما بلغت لن تكون بديلاً للقطاعات الإنتاجية، التي لا ترتبط بها حياة أغلبية السكان فحسب، بل يتوفر السودان على فرص تفضيلية فيها كفيلة بأن تجعله في مقدمة الاقتصادات العالمية، فالدول التي تعوزها موارد السودان الطبيعية، ومع ذلك تبوأت تلك المكانة العالمية لم يكن ذلك أبداً بفضل معجزات سحرية، بل بفضل قادة عظام ذوي بصيرة ورؤية وعزيمة، استثمروا ارادة النهوض بشعوبهم إلى أقصى درجة لم يمنعهم بؤس الامكانات المادية.
والخشية ألا يتجاوز سقف طموحات صناع القرار البحث عن بدائل للموارد النفطية المقطوعة للاستمرار في النهج ذاته الذي حول ادارة الاقتصاد إلى مجرد عملية لتوفير الأموال للصرف السياسي، وليس للصرف الانتاجي، ولا يكفي اطلاق تصريحات عن الحاجة لبرنامج اقتصادي جديد، بل يجب أن تتم أولاً عملية تصحيح حاسمة للتشوهات التي شابت الأداء الاقتصادي للدولة على مدى العقدين الماضيين، ويجب أن يكون هناك اصلاح حقيقي، ولعل الواقع يقول ان الحاجة الماسة هي لتغيير حقيقي في بنية وهيكلية الاقتصاد السوداني الراهنة وليس مجرد عملية اصلاح جزئي.
وأول خطوات التصحيح الحاسمة في هذا الخصوص هي استعادة دور ومرجعية وحيادية مؤسسات الدولة، ولا يمكن لحكومة حريصة على كيان الدولة، ثم تترك عقدها ينفرط على هذا النحو لتدار سداح مداح من خارج مؤسساتها، بلا أولويات ولا رقابة ولا محاسبة، والحديث عن مكافحة الفساد الذي يرفعه قادة الحكم لا يمكن أن يتم بغير إنهاء فعلي للبيئة الصديقة للفساد التي مكنها عجز مؤسسات الحكم الرقابية والعدلية عن القيام بدورها ان لم يكن بعضها مشارك في لعبة تغييب دورها عن عمد خدمة لمصالح ضيقة، وما من فساد أكبر من إفساد نظام ادارة الدولة، وهي نظم معروفة لم يكن السودان يفتقر إليها بل كان يمتلك تقاليد راسخة في الخدمة المدنية وكل لها شأن في النزاهة والمسؤولية في ادارة الشأن العام، لم يبق منها شئ للأسف تحت زحف وسيادة مفاهيم دولة الحزب على حساب دولة الوطن، ولذلك تحول المشروع الوطني الكبير إلى مجرد مشاريع شخصية لذوي النفوس الصغيرة.
ولا يمكن الحديث عن برنامج جديد للاصلاح الاقتصادي الحقيقي بدون معالجة جذرية لمسألة ادارة الاقتصاد الفعلي للبلاد من خارج المؤسسات الرسمية المعنية بذلك. فوزارة المالية والاقتصاد الوطني المنوط بها الولاية على المال العام، والولاية على ادارة الاقتصاد الوطني تجد نفسها في اغلب الاحيان في ظل نفوذ مراكز القوى «الادارة الباطنية» للاقتصاد الوطني قد تحولت الى متفرج. ومجرد ادارة خزانة لما ينفذ اليها من مال عام، لقد تميزت السنوات الماضية بانتشار ظاهرة كانتونات المؤسسات الحكومية المستقلة في تصرفها في الاموال العامة وفي تحديد اولويات الصرف البذخي بلا حسيب ولا رقيب على نحو لا نجد له نظيرا حتى في عصر جمهوريات الموز.
وما لم يتم انهاء هذه الظاهرة واسترداد ولاية وزارة المالية والاقتصاد الوطني الكاملة وعلى نحو حاسم لولايتها على المال العام، وعلى ادارة الاقتصاد الوطني وتحديد الاولويات وفق استراتيجية تراعي مصالح الدولة. وليست مصالح الجماعات المتنفذة، فسيطول ليل الأزمة الاقتصادية وستؤدي بأسرع مما يتصوره الكثيرون الى ما لا تحمد عقباه.
ومن أهم التشوهات التي تحتاج الى حلول عاجلة وناجزة هي اولويات الصرف الحكومي. فمن أكبر الدلائل على افتقار الحس السياسي والاقتصادي السليم هذا الترهل الذي لا يوجد له مثيل في طول العالم وعرضه في حجم الحكومة الاتحادية والحكومات الولائية وتلك الصفوف الطويلة من الألقاب السياسية. ألقاب مملكة في غير موضعها، وهو أمر انتجته بالطبع عقلية توظيف العطالة السياسية على حساب توظيف الأجيال المنتجة، لقد آن الاوان ليس فقط لإجراء جراحة كبرى على حجم أجهزة الحكم المرهلة، بل كذلك في تغيير نهج تولي الوظيفة العامة، فما من فساد أكبر من تولية الامور لغير أهلها من ذوي الدربة والدراية والنفوس الكبيرة، وما من شئ يضعف الدول ويقعد بها من تدني الكفاءة وتواضع قدرات من تعج بهم دوائر الحكم. فالسودان بلد غني بالكفاءات من كل لون فلماذا يرتهن لعاطلين من المواهب لا يقدمهم إلا الولاء الحزبي او الولاء الشخصي..؟!!
علي ان ثالثة الأثافي هي ذلك الاختلال الكبير في اولويات الصرف الحكومي، فموارد الحكومة بكل المقاييس ليست شحيحة ولا قليلة، ولكنها تفتقر الى التوظيف السليم، فليس معقولا ان تستمر الاجهزة النظامية في الاستحواذ علي اغلب ايرادات الدولة في حين تشتكي مؤسساتها الصحية والتعليمية والبحثية والانتاجية فقرها لطوب الارض، لقد اثبت ربيع الثورات العربية سقوط نظرية ان قوة الانظمة رهين بقوة اجهزتها النظامية، لقد تآكلت تلك الاجهزة الواحدة تلو الاخرى تحت غضب الشارع، ولم تنجد حاكما، ولم تحفظ نظاما، لقد تبخرت ببساطة وتبخرت معها كل تلك الاموال الضخمة التي صرفت عليها ليوم كريهة وسداد ثغر، فلا هي ثبتت ليوم كريهة ولا سدت ثغرا.. يثبت التاريخ ألا دوام إلا لشرعية مستمدة من الشعب. ولذلك فالمنطق والمصلحة السياسية تقتضي ان تنفق اموال الدولة لصالح الشعب، تنهض بتعليم ابنائه، وبصحتهم، أس نهوض الدول وبقائها.
ما اكثر ما يمكن ان يقال في شأن الاوضاع الاقتصادية المنذرة بخطر وخيم، وحالة الهرج والمرج السياسي التي تسود البلاد لم تترك فرصة لمعتبر في تدبُر المآلات الخطيرة للتدهور الاقتصادي، ولئن كان من الممكن ان تفلح الفهلوة وبعض الشطارة في ادارة الصراعات السياسية، فمن المؤكد ان ادارة الاقتصاد امر مختلف تماما لا تفلح معه حالة الإنكار ولا التصريحات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا انصاف المواقف، ولا التمنيات، فالاقتصاد علم بدائل يقوم على معطيات موضوعية وحسابات دقيقة، وما يحتاجه السودان اكبر من انتظار تجريب المجرب، المطلوب بصراحة لمواجهة الخطر الآتي.. مراجعة شاملة، وتحول جذري في نهج وسياسات وادارة الاقتصاد الوطني.
وهذا يعني ان قد آن الاوان لأن تلتفت قيادة الدولة بجدية اكثر للشأن الاقتصادي وتوليه الاهتمام والعناية القصوى التي يستحقها لأن ذلك لم يعد ترفا ، بل أمراً بالغ الجدية والمطلوب تغيير حقيقي في نهج، وسياسات، وادارة الاقتصاد الوطني بكفاءة ونزاهة وشفافية وعدالة وفق رؤية ثاقبة خلاقة وجريئة تتجاوز ادارة الأزمة الى تحريك وتفجير طاقات الاقتصاد السوداني الضخمة الكامنة.

Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]

 

آراء