عندما يعيد الواقع المأزوم, لا التاريخ, نفسه
خالد التيجاني النور
9 September, 2011
9 September, 2011
tigani60@hotmail.com
ذهب جدل علماء الإجتماع البشري وكبار مفكري المؤرخين مذاهب شتى في الجدل حول نظرية "إعادة التاريخ لنفسه" أو تكرار أحداث التاريخ على تعاقب الحقب الإنسانية, وتباينت تفسيراتهم لهذه الظاهرة, إلا أنهم اتفقوا جميعاً على أمر واحد أن الحكمة تهدي اللاحقين للتعلم من دروس الماضي والاستفادة منها للعمل من أجل مستقبل أفضل, والفشل في تدبر السوابق من أجل استخلاص العبر والعمل بمقتضى ذلك تحسباً للعواقب يكشف عن خلل خطير في إدارة شأن الدول لا تلبث أن تدفع الأمم ثمناً باهظاً للغفلة عن عظات التاريخ, ولئن ذهب مارك توين إلى القول بأن "التاريخ لا يعيد نفسه, ولكن بعضه يقتفي أثر بعض", فإن برنارد شو يعتقد أنه "إذا كان التاريخ لا يعيد نفسه, وأن غير المتوقع يحدث دائماً, فإن ذلك يكشف إلى أي مدى يبلغ عجز الإنسان الذي لا يستطيع التعلم من التجربة".
هذا عن التاريخ, الذي يعتقد بعض مفكريه أن دائرة تكراره تحدث مرة بعد كل ثلاث حقب أو مراحل, أي بعد أن يكون مضى زمان طويل قد يكون كافياً لينسى من لا يتعظون من عبر حوادث الدهر, فما بالنا نعيد إنتاج أزمتنا الوطنية ودروس تجاربنا لا تزال حاضرة وماثلة أمام أعيننا لم تبارح بعد محطة الواقع المأزوم المشهود ولم تختبئ بعد في تلافيف ذاكرة خربة حتى يلفها النسيان وتحتاج لاجتهاد وكد لتذكرها والاعتبار بها, ويبدو أن حالنا أصبح في عداد من نعى عليهم القرءان الكريم عدم الاتعاظ ليس بعبر التاريخ والماضي البعيد, بل عدم التعلم حتى من سقطات الحاضر والواقع المعاش, ويقول عز من قائل "ألا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون", ودعك مما يقوله المؤرخون فما من كتاب مثل كتاب الله العزيز حض على تدارك أسباب هلاك من سبق من الأمم, وقد احتشدت آياته بسيرتها وعظات تجاربها.
والغرق في تفاصيل ما يحدث في النيل الأزرق, وفي ما لا تزال تداعياته تجري في جبال النوبة, لا يغني عند النظر للرؤية الكاملة في قراءة مشهد الحالة الوطنية فيما نحن مقبلون عليه, وبغض النظر عن الأسباب والمبررات التي سيقت لتفسير الوقائع المجردة ومجريات الأحداث والتطورات العسكرية التي قادت إليها, فإن النتيجة العملية والواقعية لذلك هو أن ما تبقى من دولة السودان, بعد التقسيم وفصل الجنوب, وقع في فخ الحرب الأهلية مجدداً بأسرع مما كان يظن حتى أكثر الناس تشاؤماً, وهو على أية حال لم يكن مستبعداً أصلاً وقد حذر المحللون من حدوثه, ولم يكن الأمر مجرد تكهنات سياسية فقد كانت أكثر المواقف تحسباً لهذه الحالة الراهنة ما توقعه الرئيس عمر البشير حين أعلن في تصريح عميق الدلالة قبل أشهر من نهاية الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل من أن أسوأ السيناريوهات المحتملة أن ينفصل الجنوب, ولا يتحقق السلام وتعود البلاد إلى المربع الأول, مربع الحرب, وما أدراك ما الحرب.
ولذلك ليست بذي نفع ولا تجدي كثيراً التصريحات الرسمية المتواترة التي تحاول إثبات ما لا يحتاج إلى إثبات أصلاً لتبرير المواجهات العسكرية التي اندلعت في ولاية النيل الأزرق وقبلها في جبال النوية, إذ لا حاجة أصلاً للتحجج بالتنقيب في نيات ما كانت تنطوي عليه سرائر الحركة الشعبية لإيجاد ذرائع سياسية لما حدث, فالحركة الشعبية لم تعلن أبداً أنها تخلت عن مشروعها السياسي لتغيير خريطة الدولة المركزية السودانية حتى وهي تظفر بجنوب السودان خالصاً, ولئن فهم البعض هنا وروجوا لما زعموا من أن فصل الجنوب سيكتب السطر الأخير في مأساة عدم الاستقرار التي عاشتها البلاد منذ ما قبل حقبة الاستقلال, وسينهي الحروب الأهلية بجرة قلم, وسينعم ما تبقى من السودان بصفاء العرق والدين خالصاً من شركاء متشاكسون, لئن أغرقوا أنفسهم والبلاد والعباد في هذا الوهم اللذيذ الذي لا يدرك شيئاً في سياسة الأمم, ولم يفتح الله عليهم بشئ في باب نظريات الأمن القومي للدول فتلك هي خطئتهم التي لا تغتفر, وليس بأي حال خطأ ولا ذنب الحركة الشعبية التي ليس من مسؤوليتها بث الوعي السياسي عند خصومها, والواقع أن بعض قادة الحركة الشعبية الشماليين أعلنوا صراحة وجهاراً منذ وقت طويل, قبل أكثر عام على الأقل من التقسيم, أن جنوباً جديداً بمفهومه الجغرافي ومدلولاته وأجندته السياسية المعلومة في المشهد الوطني السودان, سينشأ بعد حصول الحركة الشعبية الأم على كيكة الجنوب وحدها, وهو ما يعني صراحة أن الحركة الشعبية عندما أصرت إبان جولات مفاوضات السلام الماراثونية على جعل مستقبل المناطق الثلاث في صلب أجندة عملية السلام كانت تدرك أنها إنما كانت تثبت "مسمار جحا" في خاصرة الشمال مما يعطيها الحق ليس للتطفل عليه فحسب, بل أن تجعل منها حصان طروادة الذي تتخذه وسيلة لتنفيذ مشروعها في خلق سودان جديد كاملاً, وقد حصلت عليه منقوصاً بموجب اتفاقية السلام.
حدوث السيناريو الأسوأ, تقسيم السودان وعودة الحرب الأهلية, بهذه العجلة المتسارعة تكشف عن عمق الهوة في التفكير الاستراتيجي والفرق في براعة التفاوض والقدرات عند طرفي مفاوضات السلام, والواقع أن الأمر أبعد من أن يقتصر على تكتيكات التفاوض ودور المفاوضين بشخصياتهم بل بمدى وضوح الرؤية المستقبلية والمواقف الاستراتيجية والحسابات السياسية عند الحزبين المتفاوضين, المؤتمر الوطني والحركة الشعبية, وهو ما يتبين عند قراءة كتاب "هجوم من أجل السلام في السودان" البالغ الأهمية للوزيرة النرويجية السابقة هيلدا جونسون التي كانت قريبة بما يكفي من قادة الطرفين لإيراد تفاصيل دقيقة وأسرار مثيرة عن خلفيات ومجريات عملية التفاوض والمواقف والتنازلات التي قدمت حتى اكتملت رحلة قطار نيفاشا, ولعل أهم ما تكشف عنه روايتها, وهي رواية أوردتها على ألسنة أبطالها وأثبتت مراجعها في كتابها ومضت ثمانية أشهر علىى صدورها لم يصحح أحد ما ذكرته مما يجعل لروايتها صدقية, أن هدف المؤتمر الوطني الأساسي من التفاوض كان العمل من أجل إقامة تحالف سياسي مع الحركة الشعبية يضمن له الاستمرار في الإمساك بالسلطة في الشمال, مقابل سيطرة الحركة الشعبية على الجنوب, في صفقة تحقق صيغة تحفظ وحدة فضفاضة للبلاد, والتقطت الحركة الشعبية ذلك لتستخدمه في تمرير أجندتها تحت غطاء قبولها بهذه الصفقة, ولذلك بدا أن التنازلات التي قدمها المؤتمر الوطني بما فيها برتوكول الترتيبات الأمنية والعسكرية, وإدراج المناطق الثلاث كان رهان الغرض منه إغراء الحركة الشعبية بإبقاء الجنوب في سودان موحد وفق هذه التركيبة السياسية المغامرة, ولكن الحركة الشعبية مارست الابتزاز السياسي على طريقة شرلوك هولمز, المرابي الطماع, ابتلعت الجنوب ريثما يتيسر لها أن تبتلع المزيد إنطلاقاً من المناطق الثلاث.
ليس فيما أوردنا آنفاً شيئاً من البكاء على اللبن المسكوب لكنه تذكير ضروري بأن النهج الذرائعي في تعاطي المؤتمر الوطني مع الأجندة الوطنية استبانت كارثيته بأسرع مما كان يتوقعه حتى أشد خصومه السياسيين, فقد تسببت أوهام الذي كانوا يظنون أن التخلص من الجنوب ستكون نزهة سيحقق الأمن والاستقرار للشمال في إعادة إنتاج الأزمة الحاضرة بمأزقها, ولم تنتظر حتى تكتمل دورة التاريخ وتغيب عبرته ليعيد نفسه, والحقيقة أن الإنجرار إلى عسكرة الأزمة السودانية واستعادة أجواء الحرب وارتهان البلاد ومواردها الشحيحة لآلة الحرب وتكرار مناظر النازحين البائسين الفارين من لعلعة الرصاص في نشرات أخبار الفضائيات العالمية هو عين ما كانت تحلم به الحركة الشعبية التي تريد أن يحتفظ العالم له بصورة البلد الذي لا تنتج حكومته إلا الحروب والكوارث الوطنية, ولم يكن لها أية مصلحة أن ينعم ما تبقى السودان بتحسين صورته بحسبانه صانع سلام وأنه في سبيل ذلك لم يتوان حتى بتقسيم البلاد, وتبددت سريعاً صورة نظام الحكم الذي قبل بسلام وبديمقراطية تصوير فصل الجنوب بأنه نتاج ممارسة ديمقراطية.
فالحركة الشعبية تدرك, ويعلمنا التاريخ وواقعنا المعاش, أن السلاح لم يكن في أي يوم ماضياً في حسم أي من أزماتنا الوطنية, ودونك قضية الجنوب وحربها الطويلة وتضحياتها الكبيرة, فقد حصلت بالتفاوض على ما لم تحصل به في ميادين القتال, بل سجل التاريخ سابقة غير معهودة في سيرة الأمم حين انسحبت القوات المسلحة, بعد كل تضحياتها الجسام, من أرض لم تخسرها في معركة عسكرية, وكان الدرس البليغ أن أية قوة عسكرية لا يسعفها فعل سياسي استراتيجي بعيد النظر يجعل أية تضحيات تقدم تضيع هباءً وتصبح بلا معنى.
وتعلمنا دروس واقعنا الراهن أن قضية دارفور, بعد كل الاستهانة بها لأول أمرها بفعل الآلة السياسية الرسمية التي حاولت الترويج بأنها لا تعدو أن تكون من فعل "شرذمة قليلون" من شذاذ الآفاق وقطاع الطرق , لم يحسمها السلاح بل فاقهما حتى غدت ما نعرفه اليوم من آثارها الغليظة, عشرات الآلوف من الجند الأجانب يذكروننا كل يوم اننا بلد لا يملك من سيادته شيئاً وإن تظاهر بغير ذلك واكتفت الإدارة السياسية للدولة بحرب دونكشوتية حول لون قبعات الجنود زرقاء اممية أو خضراء أفريقية وكأن ذلك يغير من الحقائق السياسية المرة, وأصبحت الحكومة تطارد شرذمة المتمردين من عاصمة تجدنبية إلى آخرى جرياً وراء تفاوض عبثي وتوقيع اتفاقيات سلام لا حصر لها, لم توقف حرباً ولم تحقق سلاماً. وهكذا جاءت حرب أبيي لتسلم البلاد إلى استجلاب المزيد من القوات الأجنبية, وها هي استعادة الحرب في جبال النوبة والنيل الأزرق تنذر بتدخلات دولية تلوح في الأفق.
فإذا كان ذلك كله لا يكفي واعظاً, من تجاربنا الحاضرة وليس تجارب غيرنا, فمتى يا ترى تتوقف عملية الهروب إلى الأمام بحثاً عن حسم عسكري مستحيل ليس عن عجز القوات المسلحة, ولكن لأن طبيعة الأزمة سياسية وليس عسكرية, وأن علاجها الناجع في إقامة نظام سياسي قادر على استيعاب تطلعات الأمة بكل مكوناتها في الحرية, والعدالة, وتكافوء الفرص, والمساواة, واحترام تنوعها وتعددها في إطار نظام ديمقراطي مكتمل الأركان يحقق مقتضيات هذه القيم يجتث جذور أزماتنا من أساسها ولا يجعل لناقم سبيلاً إلى التمرد, ولا يلتف عليها بأية مبررات أو دواع واهية, نظام يدير شان الأمة بمقتضى الحكمة, لا بمقتضى الهوى والإثرة.
لقد كان حدث تقسيم السودان زلزالاً سياسياً بكل ما تعنيه الكلمة, وكان الظن أنه سيكون كافياً ليرد للطبقة الحاكمة وللجماعة السياسية السودانية وعيها المفقود, وكانت فرصة تاريخية مع مأساويتها في الجلوس لمراجعات عميقة تضع يدها على تشخيص حقيقي لأزمتنا وتجري جراحة أكثر عمقاً تبتر اسباب فشلنا السياسي من جذوره, نتعظ فيها من تجربتنا المريرة التي كلفتنا تقسيم وطننا العزيز, ولكن للأسف الشديد لا يبدو أننا نسينا شيئاً أو تعلمنا شيئاً, لنعيد تجريب المجرب, ومعلوم مصير من يفعل ذلك ستحيق به الندامة ولات ساعة مندم.
نقلاً عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 7 سبتمبر 2011