“الحركات الإسلامية” وامتحان أردوغان … لم ينجح أحد

 


 

 


tigani60@hotmail.com


صدمة مزلزلة من العيار الثقيل فاجأ بها الزعيم التركي الصاعد نجمه بقوة رجب طيب أردوغان المعجبين ب»نموذجه السياسي» من جماعات «الحركة الإسلامية التقليدية» إبان زياراته لعواصم الربيع العربي الثلاث بشمالي إفريقيا الاسبوع الماضي، فالرجل الذي استقبلته جماعة الإخوان المسلمين المصرية بلافتات الترحيب الحارة المرحبة «بالزعيم العثماني الذي سيعيد مجد الخلافة الإسلامية» التي شهدت تركيا أفولها قبل نحو قرن ونهضت الجماعة بعد بضع سنوات فقط، مكرسة نفسها لاستعادتها، وسرعان ما قلبت الجماعة للرجل ظهر المجن حتى قبل أن يغادر القاهرة وودعته بغير ما استقبلته به من حفاوة، ومضت أكثر من ذلك حين اتهمه متحدث باسمها بأنه يتدخل في شؤون مصر الداخلية، ويريد فرض هيمنة تركية على المنطقة.
ما الذي حدث وأدى لهذا الإنقلاب المفاجئ في الموقف الإخواني وهم الذين من فرط إعجابهم به وبتجربة حزبه السياسية الباذخة ونجاحها المذهل في حكم تركيا بقاعدة ديمقراطية شعبية لا جدال فيها أكسبته ثلاثة انتخابات متتالية، قد وطنوا أنفسهم على اقتفاء أثره وسيرته حتى أنهم أطلقوا على حزبهم السياسي «الحرية والتنمية» تيمناً به، وهو تنازل غير معهود فالذهنية المصرية أن يتواضع الأستاذ ليتعلم من تلميذه، فحركة الإخوان المصرية تعتبر نفسها أم الحركات الإسلامية ومعلمتها ومرجعيتها لا تقبل في ذلك شريكاً.
ما حدث أن أردوغان «الإسلامي» بالتعريف التقليدي والتصنيف السياسي النمطي السائد، زعزع مسلمات استقرت في وجدان «الحركات الإسلامية» الساعية للسلطة السياسية وفق تصورات لـ»دولة إسلامية» وفق معايير تناسب تطلعاتها، ليس ذلك فحسب بل تجعل من مفاهيمها للسلطة السياسية في النظام السياسي الإسلامي الذي تريد إقامته بما يكرس قبضتها السلطوية هي المرجعية الوحيدة المعتمدة في منح شهادة «إسلامية نظام الحكم».
فماذا قال أردوغان وأثار هذه الزلزلة؟، قبيل وصوله إلى القاهرة وفي حوار مع الإعلامية المعروفة منى الشاذلي لبرنامجها المشهور «العاشرة مساء»، دعا أردوغان دول الربيع العربي التي ما تزال تتلمس طريقها إلى إقرار نظم سياسية جديدة تحقق مقتضى قيم الحرية والعدالة والمساواة التي نهض من أجلها ثوار هذه الشعوب إلى تبني دستور يقوم على المبادئ التي من شأنها أن ترسي قواعد دولة مدنية حديثة تتيح للجميع أن يدين بالدين الذي يريد، ومضى يشرح ماذا يعني بذلك قائلاً إنه يجب أولاً الاتفاق على تعريف لمفهموم «العلمانية» لأن هذا المصطلح يكتسب تعريفات مختلفة ومفاهيم متباينة في المجتمعات المختلفة وفي الأزمان المتعاقبة أيضاً، وإن الدستور التركي يعرف الدولة العلمانية بأنها تقف على مسافة متساوية من جميع الأديان التي يعتنقها مواطنوها، وتتعامل مع أفراد الشعب بحقوق متساوية، وأن الدولة العلمانية وفق هذا المفهوم ليست ضد الدين ولا تنشر اللا دينية.
وأكد أن الدولة العلمانية لا تعنى دولة اللادين، متمنيا وجود دولة مدنية تقوم على احترام جميع الأديان والشرائح في المجتمع في مصر. وموضحاً أن العلمانية الحديثة لا تتعارض مع الدين بل يجب عليها أن تتعايش معه.
وحول مفهوم العلمانية يقول أردوغان أنها ليست مفهوماً رياضياً كأن تقول حاصل ضرب 2 في 2 يساوي 4، فتعريفات المفاهيم الاجتماعية تختلف فيما بينها، فالعلمانية في المجتمع الانجلوسكسوني لها مفهومها المختلف عنه في أوروبا، كما أن المفهم التركي لها مختلف، وقد دفعنا ثمنا باهظا من أجل ذلك المفهوم في تركيا.
وأضاف: في دستور 1982 تم تعريف العلمانية بأن معناها وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان، أما الأشخاص فلا يكونون علمانيين، يستطيعون أن يكونوا متدينين أو ضد الدين أو من أديان أخرى، فهذا شيء طبيعي. واستطرد رجب طيب أردوغان: مثلا في مصر هناك مسلمون وهناك غير مسلمين كالأقباط ومن ينتمي إلى ديانات أخرى، وفي تركيا 99% مسلمون إلى جانب أديان أخرى، إلا أن الدولة على مسافة متساوية في تعاملها مع كل هذه الفئات والشعوب.
وأضاف: يجب على المسلم أن يعيش دينه بكل حرية وكذلك المسيحي واليهودي وغيرهما، وأن تضمن الدولة هذا، وعندما ننظر إلى حضارتنا السابقة في التاريخ الإسلامي ترون الأمثلة كثيرة. وقال: أنا أؤمن بأن المصريين سوف يقيمون هذا الموضوع بكل جدية في هذه الفترة الانتقالية وما بعدها خصوصا ما يتعلق بالديمقراطية ومسيرتها، وسوف يكتشفون أن الدولة العلمانية لا تنشر اللا دينية ولكنها تحترم كل الأديان وأن يعيش كل فرد دينه ويجب ألا يقلقوا من هذا الأمر.
ونصح إردوغان الذين يعدون الدستور المصري الجديد بالحرص على ضمان وقوف الدولة على مسافة متساوية من جميع الأديان والفئات وعدم حرمان الناس من أن يعيشوا دينهم واعطاؤهم ضمانا لذلك، فإذا بدأت الدولة بهذا الشكل فإن المجتمع كله سيجد الأمان، المسلمون والمسيحيون وغيرهما من أديان أخرى واللا دينيون، فحتى الذي لا يؤمن بالدين يجب على الدولة أن تحترمه.. إذا تم وضع تلك الضمانات فهذه هي الدولة العلمانية.
وشدد قائلا: الدولة تكون علمانية ولكن الأشخاص ليسوا علمانيين «رجب طيب أردوغان ليس علمانيا وإنما مسلم ولكنه رئيس وزراء دولة علمانية ويفعل ما توجبه هذه الدولة». وحول اعتقاد البعض بأن الدولة العلمانية دولة كافرة، أجاب أردوغان: بعد تصريحي هذا أظن أنهم سوف يفهمون بشكل مختلف وسوف يناقشون ما أقوله. أقول للشعب المصري لا تقلق ويجب أن تأخذوا هذه الفكرة من هذه الزاوية، وأتمنى أن تستفيد الدولة العلمانية في مصر من الأخطاء التركية ونتناقش ونتبادل الأفكار والتجارب. وأضاف أؤمن أن مصر ببنيتها البحثية العلمية تستطيع انجاز هذا الموضوع بكل سهولة.
تلك إذن هي الأفكار والمفاهيم التي طرحها أردوغان حول طبيعة الدولة ونظامها السياسي، وهي بالطبع تستند على تجربته العملية في تركيا التي ظلت تتبنى نموذجاً علمانياً بدأ متطرفاً يعادي الدين حين أرسى أتاتورك دعائم الجمهورية التركية على أنقاض الخلافة العثمانية، ولكن أثبتت الوقائع السياسية أنه قابل للتطور في المفاهيم والتطبيق حين انتهي في غضون خمسة وسبعين عاماً فقط إلى القبول بحكم ديمقراطي لم يجد حتى غلاة دعاة العلمانية الأتاتوركية بداً من الرضوح لحكم الشعب والقبول بوصول حزب العدالة والتنمية بخلفيته الإسلامية المعلومة إلى السلطة والاستمرار فيها لثلاث دورات انتخابية حتى في ظل استمرار النظام العلماني. وما كان أردوغان يحتاج إلى إطلاق هذه المفاهيم لمقاربة جديدة للتعاطي مع إشكالية النظام السياسي لدعاة إقامة نظام إسلامي من أجل أجندة داخلية أو من باب المغازلة للقوى العلمانية التقليدية في تركيا فهو خارج لتوه مسجلاً انتصاراً انتخابياً كاسحاً مكنه حتى من اختراق أقوى معاقل «العلمانية الأتاتوركية» حين نجح في إخضاع المؤسسة العسكرية التركية ذات النفوذ التاريخي المرجعي الراسخ للمؤسسة المدنية السياسية.
ربما كانت جريرة أردوغان التي أثارت عليه غضب الاخوان، بعد طول إعجاب، ان ألقى حجراً ثقيلاً في بركة ساكنة من الجمود والكسل الفكري زعزع القناعات المستقرة عند بعض «الحركيين الإسلاميين» الذين أعفوا عقولهم من الاجتهاد والنظر العميق والتمرد على المألوف من مسلمات لمقولات فضفاضة أثبت الزمان أنها لم تبطل باطلاً، ولم تحق حقاً. ما قاله أردوغان مجرد اجتهاد حفزته تجربة عملية ناجحة، بشهادة حتى منتقديه اليوم، لا يلزم أحداً ولكنه محاولة جريئة للإجابة على الأسئلة العميق والشائكة التي ظلت تشغل بال المسلمين حول الشكل الذي يجب أن يتخذه النظام السياسي الإسلامي، وما الذي يمتلك السلطة السياسية، وكيف يصل إليها، وهي أسئلة ليست وليدة اليوم، بل طرحت والرسول عليه أفضل الصلاة والسلام في فراش الموت واختلفوا حولها في سقيفة بني ساعدة حتى قبل أن يوارى الثرى، وظلت عالقة حتى يومنا هذا بدليل أن المسلمين لم يهتدوا حتى بعد خمسة عشر قرناً إلى ما يمكن أن يوصف بأنه نظام سياسي إسلامي نموذجي يحقق مقاصد الدين وقيمه الأخلاقية الرفيعة، ولو كانت مسألة امتلاك السلطة السياسية والنجاح في امتحان إعمار الأرض بسيطة على النحو الذي يستسهله رافعو شعار «الإسلام هو الحل» بلا نظر عميق ولا برنامج عملي، ولا حتى ممارسة سليمة، لما ظل هذا الجدل قائماً طوال هذه القرون بلا نتيجة حاسمة.
والحقيقة المهمة هي أن المشكلة ليست في الإسلام، ولكن في عجز المسلمين عن الارتقاء إلى التعقل والتفكر في المفاهيم التحررية للإسلام الذي جاء ليحرر الإنسان من الخضوع والاستعباد لبشر مثله، وارتقى في مدارج التحرر أن المولى عجز وجل أعطى عباده حتى حق الكفر، ولكن انتكس المسلمون حين قبلوا أن يعودا عبيداً غيبوا عقولهم وجمدوا أفهامهم ليخضعوا لاستبداد الطامحين في امتلاك السلطة السياسية واحتكار مغانمها، والمفارقة أنهم يفعلون ذلك باسم الدين، هل هي صدفة أن المسلمين حين يلتفتون اليوم ليجدوا نموذجاً إسلامياً في الحرية والعدل يتباهون به ويتخذونه مثلاً فلا يجدون إلا القليل يتعزون بأيام الخلافة الراشدة وخلافة عمر عبد العزيز ثم لا شيء، خمسة عشر قرناً طغت عليها الأنظمة الاستبدادية تتمسح بالدين وتتزيا بشعاراته، ثم لا تكن ممارستها إلا خصماً عليه، وما جدوى أن ترفع الأنظمة المتسلطة الإسلام شعاراً فارغاً من المضمون وتمشي على تعاليمه مسحاً بممارسات لا تحقق من مقاصد الدين ولا قيمه شيئاً، بل تخلف مسخاً مشوهاً يحسب على الدين نفسه وليس على بؤس فهمهم وسوء ممارستهم.
وقد يجد المرء عذراً لأبو الحسن الندوي أنه كان شاباً غضاً متحمساً حين ألف كتابه «ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين»، فما نحتاج أن ندرسه فعلاً ماذا خسر الإسلام بانحطاط المسلمين وتخلفهم وتقاصر وعيهم عن الارتقاء لفهم مقاصد الدين السامية، وليست تلك القشور والمظاهر التي ألبسوها له فقعدت بالإسلام، وجعلت المسلمين مفعولاً بهم، يعيشون عالة على عصرهم، يشكون الذل في كل عصر.
لقد كشفت اجتهادات أردوغان، والذي لم يقدم نموذجا سياسيا جديراً بالإعجاب فحسب بل أطلق العنان لجدل فكري حول طبيعة الدولة ومرجعيتها في فضاء خارج الأطر التقليدية الضيقة في قوالب «الحركات الإسلامية»، فقد كشفت عن جمود تفكيرها الذي ينم عن طبيعة ماضوية، على الرغم من إدعائها الحداثة، ولو أن هذه «الحركات الإسلامية» عكفت على اجتهادات جدية تخرج المسلمين من ركود وتخلف أكثر من عشرة قرون لربما كانت قدمت شيئاً ذا فائدة، ولكنها ركنت إلى إطلاق شعارات فضفاضة وتنظيمات سرية محكمة تتحين الفرصة للوثوب إلى السلطة حتى إذا وصلتها لم تحر جواباً على أسئلة نهضة الأمة الحقيقية، ثم تقدم تجربة لا تفتقر إلى النموذج الأخلاقي الإسلامي فحسب، بل تؤدي إلى تقسيم الأوطان وشرذمتها وإثارة النعرات العنصرية والقبلية، ودوننا نموذج «الحركة الإسلامية السودانية» المثخن بالجراح والمثالب الذي حكم لأكثر من عقدين، والذي لم يفشل في الحفاظ على وحدة الأمة، بل عجز حتى عن الحفاظ على وحدة قادتها بسبب صراع بائس على امتلاك السلطة السياسية، وهو صراع جرى بين كبارها ونخبتها المنتقاة، فإذا عجز أفضل قادتها عن تقديم القدوة في النموذج الذي تدعيه، فمن يحققه؟، هل يستوردون ملائكة لإقامته؟.
ويكشف الهجوم على أردوغان عن جانب من انتهازية وإزدواجية المعايير التي تعامل به منتقدوه الجدد من «الحركيين الإسلاميين»، فهو لم يتحدث إلا عن ما يمارسه حزبه فعلاً في الحياة السياسية التركية وقبوله بقواعد اللعبة فيها القائمة على دستور علماني، ولم يكن يصف حزب العدالة والتنمية بأنه حزب إسلامي بل يتماهى في برنامجه مع متطلبات الدستور التركي، ومع ذلك لم تكن هذه الجماعات تنتقد تلك الممارسة، وتقبل منه خلفيته الإسلامية وتعتبرها كافية لتصبح تجربته نموذجاً إسلامياً تسابقت للاقتداء به، ولكن ما أن نطق بما يمارسه فعلاً معرباً عن قناعات فكرية جديدة حتى ثارت ثائرتهم، والمفارقة أن «الإخوان» المصريين قبلوا بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية، في محاولة واضحة لتقليل مخاوف خصومهم المتصاعدة، ولكنهم لم يحتملوا اجتهاداً أكثر جراءة وصراحة.
وتلك هي مأساة ومأزق الذين ينشغلون بالقشور، فقد كان الزعيم الصيني الكبير دينغ زيهاو بينغ الذي قاد مسيرة الإصلاح والانفتاح وخرج بها من ظلمات ثورة ماو تسي تونغ الثقافية التي اتخذها ستاراً لتصفية خصومه وتعزيز سلطته، يرد على الذين يتهمونه بالخروج على أيدلوجية الحزب «ليس مهماً لون القط أسود أم أبيض، ولكن المهم قدرته على اصطياد الفئران»، ولم يمض إلا عقدين لم تخرج الصين فيها من تخلفها فحسب، بل صعد نجمها لتزاحم أكبر اقتصاد عالمي، بل وتصبح أكبر دائنيه.
حقاً ليس مهماً لون القط، وليس مهماً وصف النظام السياسي علماني أم إسلامي، بل المهم قدرته على تحقيق الحرية والعدل والمساواة وحكم الشعب واستجابته لشروط النهضة.

 

آراء