الخرطوم في مرمى التدخل الدولي

 


 

 


khalidtigani@gmail.com

هل تكفي الإجراءات التي أبلغتها الحكومة السودانية والسماح المشروط لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بالعمل في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق (وفق موجهات خاصة), لمنع تدخل دولي وشيك في البلاد تحت راية أغراض إنسانية بانت نذره واضحة من خلال تشديد الإدارة الأمريكية لهجتها وتلويحها الصريح بالتدخل.
ما من شك أن مسارعة الحكومة إلى المبادرة بإتخاذ خطوة بإتجاه تخفيف موقفها بشأن دور دولي في عمليات الإغاثة الإنسانية بعد أيام قليلة من تواتر التصريحات المهددة من قبل مسؤولين أمريكيين تشير إلى أنها بدأت تستشعر خطورة جدية من توجه واشنطن لتنفيذ تدخل فعلي, خاصة وأنه سبق التصريحات المعلنة أن الإدارة الأمريكية أرسلت ما يشبه التحذير إلى الخرطوم عبر إنذار صريح أبلغته مباشرة إلى شخصية قريبة من دوائر الحكم في السودان.
ولكن السؤال إلى مدى ستسهم الإجراءات التي أعلنتها الخرطوم في نزع فتيل الأزمة؟. من الصعب تصور أن تكون الخطوة السودانية كافية لإثناء واشنطن عن المضي قدماً في ما اعتزمته, فهذه الإجراءات وإن بدت ظاهرياً تراجعاً عن موقف الخرطوم الرافض لعمليات إنسانية في الولايتين بعيداً عن إشرافها المباشر, إلا أنها في الواقع لم تنتقل إلى مربع جديد تماماً إذ لا تزال تطالب وفق (الموجهات الخاصة) أن يتم تنفيذ عمليات الإغاثة عبر مفوضية العون الإنساني, وهو أمر لا يلبي المطالب الأمريكية وستعتبر ذلك من نوع المناورات والمماطلات التي ظلت تتهم الخرطوم بانتهاجها, وبالتالي فمن غير المتوقع أن تأخذ الخطوة السودانية باعتبارها إجراءات جدية كافية تجعلها تصرف النظر عن المضي قدماً في إتجاه التدخل المباشر.
تقع الحكومة السودانية في خطأ كبير إن ظنت أن بوسعها تلافي حدوث تدخل دولي بإتخاذ بضعة إجراءات تكتيكية على خلفية تطورات الأوضاع في ولايتي جنوب كردفان, والنيل الأزرق, إذ ليس مهماً الدفوعات التي ترفعها في مواجهة المطالب بالتدخل بقدر أهمية وجاهة المبررات في نظر القوى الفاعلة في الساحة الدولية. ومن المفترض أن التجربة الذاتية لنظام الحكم الحالي كافية لإدراك قواعد لعبة التدخل الدولي, فقد ظلت الخرطوم تمارس حالة إنكار إزاء أزمة تطورات أزمة دارفور, فقد مارست التهوين من شأن ما جرى, وعندما حاولت التعاطي مع الضغوط الدولية بمناورات شراء الوقت لم يسعفها ذلك في دفع عواقبه الوخيمة.
فالتدخل العسكري الدولي المباشر حدث من أوسع أبوابه فالعملية التي كان مقدراً لها أن تكون إفريقية خالصة من باب أن ضرر التدخل الإقليمي أخف وطأة من التدخل الدولي تحولت بامتياز إلى عملية دولية كاملة تحت عهدة الأمم المتحدة وإن ارتدت مسوحاً إقليمية لم تغير من جوهر طبيعتها, فقرار دور وتفويض قوات اليونميس بات بيد مجلس الأمن الدولي, ولا أحد يعرف على وجه التحديد حدود التفويض وأجل بقاء هذه القوات الأممية التي تعد واحدة من أكبر عمليات حفظ السلام التي تقودها المنظمة الدولية, ورأينا كيف أن الخرطوم حاولت مقاومة قرار تمديد أجل مهمة يوناميس دون أن تفلح وقد ذهبت اعتراضاتها إدراج الرياح, كما أن مطالبها بتخفيض حجم القوات أيضاً لا يجد آذاناً ضاغية في مجلس الأمن.
هذا فضلاً عن تداعيات أزمة التعاطي مع الدور الدولي في أزمة دارفور الذي قاد إلى ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية التي طالت الرئيس البشير شخصياً, وثبت أن التقليل من تأثيرها يتضح كل يوم أنه لم يكن أمراً حصيفاً.
على أن مازق الحكومة السودانية الأكبر في محاولاتها صد موجة التدخل الدولي العاتية أنها نفسها اصبحت طرفاً في هذه اللعبة, فالخرطوم اعترفت صراحة بدورها في إسقاط نظام العقيد القذافي بل وتباهت بذلك, ومن المعلوم أن التدخل في ليبيا لم يكن أمراً فردياً لكن ثمة قرار دولي بالتدخل العسكري, وكون أن الحكومة لعبت هذا الدور تحت عباءة دول أخرى إلا أن ذلك ليس كافياً لتبرئة نفسها من الانخراط في التحالف الدولي المتدخل في ليبيا, ولا يمكن تفسير ذلك إلا أنها اعتراف من الخرطوم بشرعية هذه الممارسة في السياسة الدولية.
ولم تكتف الخرطوم بممارسة لعبة التدخل في ليبيا, فقد سارعت أيضاً لتقلب ظهر المجن لسوريا أحد أقرب حلفائها في الساحة العربية لتنخرط في تدخل خارجي, صحيح انه تحت غطاء عربي, لكن من الواضح أنه لم يكن أكثر من خطوة بإتجاه تدويل كامل بعدما أعلنت الجامعة تحويل ملف مبادرتها الجديدة المقتفية أثر التجربة اليمنية إلى مجلس الامن لتبنيها.
والسؤال هل تستطيع الحكومة السودانية أن تتوقع أن تكون بمنجاة من غوائل التدخل الدولي المباشر, ليس فقط بمساهمتها في شرعنة التدخل عبر دورها في ليبيا وسوريا, ولكن أيضاً بحكم وقوعها جزئياً الآن تحت طائلته في دارفور, فضلاً عن أن واقع التدخل الدولي لدعم ثورات الربيع العربي جعل حدوثه أمراً مستساغاً في المنطقة ولم تعد الشعوب العربية تتخذ الموقف نفسه الرافض للتدخلات كما كان شأنها إبان حربي الخليج الأولى والثانية, ومن شان ذلك أن يجعل الخرطوم في موقف ضعيف لن تستطيع معه حشد أي دعم رسمي أو شعبي يعزز موقفها الرافض لحدوث تدخل في السودان.
صحيح أن الخرطوم نجحت في التعايش والتطبيع مع الوجود الدولي وتدخلاته غير المسبوقة في السودان غير أن ذلك يأتي بالطبع على حساب موقفها الأخلاقي من شعاراتها الداعية لاستقلال القرار, وخصماً على إدعاءات المحافظة على السيادة الوطنية, غير أنه ما كل مرة تسلم الجرة, فإن كان ذلك ممكناً في السابق بغير تكلفة باهظة تكلف الحكم سيطرته على السلطة فقد كان لأسباب وقتية ارتبطت بمعادلات ورغبة المجتمع الدولي في تمرير عملية السلام وضمان تقسيم السودان, وتحقيق استقلال الجنوب بدون عوائق, أما الآن فقد تغيرت قواعد اللعبة ولم تعد تلك المعادلة التي حققت حماية وقتية للحكم في الخرطوم سارية.
ويبدو أن الحكومة في الخرطوم لم تضع في اعتبارها ذلك التحول الاستراتيجي في معادلات الدور الأمريكي على وجه الخصوص وهي تتعاطى مع ذيول استحقاقات ما بعد التقسيم, فاللجوء إلى استخدام القوة العسكرية للتعاطي مع بروز أزمة (الجنوب الجديد) افتقرت للاستفادة من عظة أن الحسم العسكري أثبت أنه ليس الحل المناسب ولا الناجع لمعالجة الأزمات المستفحلة في البلاد, فالقوات المسلحة لم تكن مهزومة عسكرية في الجنوب ولكن مع ذلك تم التخلي عنه في طاولة المفاوضات رجاء أن يكون الانفصال ثمناً كافياً لاستدامة السلام والاستقرار, وهو ما اتضح أنه خطأ جسيم ولم توضع أية حسابات استراتيجية في الاعتبار عند إقرار اتفاقية السلام الشامل لتقود إلى تحقيق السيناريو الاسوأ بأسرع مما كان متوقعاً, فقد تم التقسيم وتم إعادة إنتاج الحرب, لتنتقل شمالاً وتنتج أزمة الجنوب الجديد, ولتستدعي بوادر تدخل دولي في غضون اشهر قليلة في مفارقة لحقيقة أن قضية الجنوب الأولى لم تؤد إلى تدخل دولي على الرغم من استمرارها لخمسين عاماً.
ولعل الخرطوم تدرك متأخرة من أن قرار المسارعة إلى عسكرة أزمة ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لم تضع في حساباتها تبعاتها وتداعياتها المحتملة في استدعاء تدخل دولي جديد حالما تتوفر الظروف الملائمة لذلك, وهو ما في طريقه للتحقق عبر بوابة الأزمة الإنسانية, وقد اسهم في توفير غطاء له موقف الخرطوم غير المدروس بعناية لما قد يجلبه ذلك من مبررات ومسوغات للقوى الراغبة في التدخل خاصة في ظل استمرار التوتر في العلاقات بين الشمال والجنوب, وتزايد الاحتمالات المنذرة بعودة حرب شاملة بين البلدين.
ويبدو أن الحكومة السودانية فهمت على نحو خاطئ الموقف الأمريكي الرافض لدعم تحالف القوى الثورية السودانية, حيث اعتبرت تصريحات المبعوث برنستون ليمان معارضة واشنطن لاستخدام القوة العسكرية للإطاحة بالحكم في الخرطوم بمثابة توجهاً جديداً للإدارة الأمريكية في سبيل التقارب معها, ولكن من الواضح أن التطورات اللاحقة تؤكد ما ذهبنا إليه في مقال سابق من أن واشنطن تعارض تشجيع تحالف متمردي الجنوب الجديد ودارفور استخدام السلاح لحاجة في نفسها خشية أـن يفسد ذلك عليها سيناريو تخطط له لإعادة ترتيب الأوضاع في السودان.
وتخطئ الخرطوم إن فهمت أن التلويح الأمريكي بالتدخل الإنساني في الجنوب الجديد هو من قبيل فرض ضغوط عليها لا غير, ولكن من المهم هنا الإشارة إلى ان السياسة الأمريكية لا تمارس فرض الضغوط من أجل الضغط فحسب, بل من أجل ان يؤدي ذلك إلى تحقيق أجندة معينة تسعى إليها.

 

آراء