khalidtigani@gmail.com
بتساؤل قصير وكلمات قليلة معبرة اختصر زائر ألماني لجناح السودان في معرض برلين الزراعي الاسبوع الماضي, مأزق الحكم الوطني ومسؤولية النخب الحاكمة بعد نحو ستة عقود من الاستقلال ليس فقط بسبب بقاء السودان خارج دائرة نهوض اقتصادي وتنموي تستحقه البلاد عن جدارة وهو ما نجحت في تحقيقه دول أقل حظاً بكثير من ناحية وفرة الموارد, بل كذلك لأن صورة السودان تراكمت في وعي الرأي العام العالمي خلال العقود القليلة الماضية بلداً موبوءً بالحروب والفقر والبؤس والمجاعات.
وقف الزائر الألماني متأملاً عدداً من شاشات العرض تبث مشاهد لخيرات السودان وموارده الطبيعية الغنية المتعددة المصادر, مياه وفيرة لا تكاد تنضب تجري بها الانهار وتختزنها بواطن الأرض, أراض خصبة شاسعة وسهول واسعة منبسطة لا تحتاج لمن يعبدها تكاد تستصرخ من يفلحها, وثروة حيوانية كثيرة التعداد قل نظيرها في البلدان الآخرى, موارد طبيعة آخرى لا تكاد تحصى, ذهب ومعادن وغيرها, سأل الزائر: أين تلك البلاد, فقيل له السودان, ولم يزد على إطلاق تساؤل حارق حائر "إذن ما هي مشكلتكم"؟!!.
في الواقع لم يخترع الألماني الزائر هذا السؤال الحائر الذي يقض مضجع كل السودانيين, ويثير استغراب كل من عرف خيرات بلدهم من شعوب الأرض قاطبة, ربما كان الشاعر الفحل الراحل صلاح أحمد إبراهيم أول من لفت إلى الوعي بتلك المفارقة الصادمة منذ وقت طويل في قصيدته القصيرة التي نظمها على منوال النظم الياباني المعروف ب "الهايكو", في ديوانه "غضبة الهبباي" الصادر منتصف ستينيات القرن الماضي:
النيل هنا
وخيرات الأرض هنالك
ومع ذلك
ومع ذلك.
لعل تساؤل الألماني الحائر ربما كان التعبير الاكثر دقة في إدراك القيمة الحقيقية لأهمية ظهور السودان في معرض برلين الزراعي, الأسبوع الأخضر الدولي, الذي ظل ينعقد سنوياً لنحو ثمانين عاماً. وشارك فيه للمرة الأولى السودان, البلد الذي ظل يروج له منذ عدة عقود بحسبانه أحد ركائز الأمن الغذائي العالمي, ولكن تصاريف السياسة وتقلباتها وغياب مشروع وطني تنموي نهضوي شامل جدي وسط صراعات لا تنتهي على السلطة وتضعضع استقراره وأمنه, وأخيراً تقسيمه, انتهت به لأن تنطبع عنه صورة ذهنية بالغة السلبية في أوساط الرأي العام العالمي, لم يخترعها الإعلام ولكن غياب رشد الحكم عن لجم أسباب الحروب الاهلية والصراعات المعاد إنتاجها على السلطة والثروة والمآسي الإنسانية التي لا تزال تخلفها هي التي تمد وسائل الإعلام بتلك الذخيرة الحية من صور البؤس والتعاسة وهي التي تسهم في نهاية الأمر في تشكيل هذه الحالة من الأسى والحسرة على شعب لا يستحق كل هذه المعاناة.
كانت أيام السودان في برلين التي شهدتها العاصمة الألمانية على امتداد النصف الثاني من الشهر المنصرم من خلال المشاركة في ثلاثة من الفعليات الاقتصادية المهمة المعرض الزراعي, والمنتدى العالمي للزراعة والغذاء, والملتقى الاقتصادي الثلاثي الألماني السوداني والجنوب سوداني, أكثر من مجرد ظهور عابر في محافل دولة أوروبية ذات وزن سياسي واقتصادي معلوم على الصعيد الدولي, أو مما تقتضيه اجتهاد الدبلوماسية السودانية الساعية لاستعادة مبادرة "دبلوماسية التنمية", وسط عنت ولأي شديدين ومقاومة بيروقراطية حكومية لم يتفق لها إدراك حساسية الوعي بالحاجة الماسة والعمل الدؤوب لإحداث نقلة نوعية حاسمة في مسار البلاد سياسياً واقتصادياً.
يتساءل كثيرون ممن تابعوا في وسائل الإعلام السودانية الزخم الذي رافق أخبار تلك المشاركات عن حقيقة مردودها, وما بدت صورة زاهية مبالغ فيها عند البعض, وهل تعكس فعلاً اختراقاً سياسياً واقتصادياً؟. من المهم بالطبع عند تقييم مثل هذا الحدث إلى رؤية عميقة شاملة وكلية لحساب العائد من كل جوانبه, تبتعد قدر الإمكان عن السطحية والمظهرية وتعجل إحراز نقاط إنجاز لا يزال ينتظره الكثير من العمل الدوؤب والإصلاح الجذري والإرادة السياسية القوية والمؤسسية الفعالة وأهم من ذلك القيادة الواعية لتحقيقه.
وينبغي عند التقييم التفريق بين أمرين, وهذه مسالة أساسية, بين الفرص المتاحة التي تمت استبانتها من خلال تفاعل المشاركة, وبين التحديات الكبيرة وحتى العوائق التي تنتصب في مواجهة تحويل تلك الفرص السانحة إلى عمل حقيقي يحرك إمكانيات السودان الاقتصادية الضخمة الكامنة, فالوقوف عند محطة الدهشة عند الذين اكتشفوا حجم الفرص الواسعة المتاحة التي تنتظر السودان, ثم الاكتفاء بترديدها وكأن ذلك إنجاز في حد ذاته, يعني إنه سيتعين علينا ان ننتظر طويلاً قبل ان نستطيع مغادرة حالة "عبد القادر وزجاجة السمن" قصة صاحب أحلام اليقظة الشهيرة التي ترويها كتب المطالعة الابتدائية.
كانت أيام السودان في برلين مناسبة للإحساس بحجم الصورة السلبية المستقرة في الذهنية العامة في أوساط عامة الناس في الخارج, وليس عند السياسيين ممن نستسهل إلقاء تهمة التشويه المتعمد لصورة السودان في وجوههم, وهي كما اسلفنا تعبير عن حالة لم تستحدث ولم تأت من عدم, بالطبع لا يمكن الزعم أن تلك المشاركة لم تمح بالتأكيد هذه الصورة السلبية, ولكن من المؤكد أنها أسهمت بشكل فعال في عرض صورة مقابلة من الممكن لها أن تلعب دوراً في تعديل موجب للوضع, وهو ما يعني أهمية الاهتمام بتكثيف الحضور الفاعل في مثل هذه المحافل, لا سيما على الصعيد غير الرسمي, خاصة الحضور الثقافي والاقتصادي الخاص. فالشكوى من التشويه لن تعالجه مهما علا صوتها, كما ان التجاهل بالغياب عن الحضور الفاعل لن تغير من الوقائع, والحل الوحيد المتاح بديل الحضور الفاعل بوعي وبمشاركة مدروسة, ومهنية رفيعة في عرض القدرات والإمكانيات المتاحة.
صحيح لم تكن فعاليات برلين هي الأولى من جنسها, وقد شهدت دول أوروبية مشاركات مماثلة وقد تلحقها آخرى, إلا أنها من المؤكد ذات ثقل ودلالات خاصة في حسابات مستقبل فرص السودان الاقتصادية والسياسية وعلاقاته على الصعيدين الأوروبي والدولي, وهي أهمية لا نعتسفها جزافاً, ولكن توحي بها اعتبارات موضوعية تفرضها مكانة ألمانيا, ووزنها السياسي والاقتصادي في الساحة الدولية.
فألمانيا ضمن اكبر خمس اقتصادات عالمية, بناتج قومي إجمالي يقترب من أربعة تريليونات دولار, وتجارتها الخارجية تقارب الثلاثة تريليونات دولار, وهي إن لم تكن من ناحية الثقل السياسي الدولي في وزن الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن, إلا أنها بلا منازع قائدة الاتحاد الأوروبي وقاطرته وقوته الدافعة الأكثر حضوراً, وهي بهذا المعنى من الممكن أن توفر رئة لتنفس السياسة الخارجية السودانية, وكذلك الداخلية للمفارقة, المرتهنة على مدى أكثر من عقدين للولايات المتحدة الأمريكية, ولم تجن الخرطوم التي لم تستبق شيئاً وقد بذلت لواشنطن كل شئ, كل شئ تقريباً بلا مقابل, سوى المزيد من الإرتهان وانتظار مقابل لم يتحقق منه شيئاً أبداً, بالطبع ليس المقصود هنا أن ألمانيا ستمثل بديلاً, ولكنها من الممكن أن تصبح رئة إضافية تتيح تنفس بعض الهواء لو وجدت شيئاً مما ظلت الخرطوم تمنحه للإدارات الأمريكية المتعاقبة بلا جزاءً ولا شكوراً.
والسؤال لماذا تبدي ألمانيا كل هذا الاهتمام بالسودان لدرجة أن تمد له يدها لإخراجه من طوق عزلة دولية سياسية واقتصادية خانقة, لا سيما من تلقاء الغرب؟. وكيف تجاوزت برلين بسرعة الضربة الموجعة بحرق جزء من مكاتب سفارتها في الخرطوم في اكتوبر الماضي إبان أحداث الاحتجاجات على الرسوم المسيئة, قبل بضعة أيام فقط من انعقاد الملتقى الألماني السوداني الذي كان مقررا حينها؟. ثم تعود لتقرر عقد هذا الملتقى وتوافق على مشاركة السودان في المعرض الزراعي, وقمة الغذاء على الرغم من الضغوط الكثيفة التي مورست عليها من ناشطين سياسيين؟.
قال وزير الخارجية الألماني غيدو فيستر فيلي في كلمته في افتتاح النلتقى الثلاثي إن سرعة رد الخرطوم على إعادة الاعتبار لبلاده على حريق سفارتها كان سبباً في تجاوز برلين السريع لتلك المحطة, صحيح أن الحكومة السودانية اعتذرت عن ذلك الشغب, وعوضت ألمانيا قطعة أرض واسعة في ضاحية كافوري لبناء مقر جديد لسفارتها. ولكن من المؤكد أن ذلك لا يقدم تفسيرا كافياً لسرعة تجاوز حكومة المستشارة إنجيلا ميركل لحدث من هذا القبيل كان من شأنه في حالة تسمم الأجواء السياسية إلى رد فعل أبعد من ذلك قد يصل إلى حد القطيعة بين البلدين, ولكن ما حدث هو العكس تماماً ليس فقط تجاوز ذلك الحدث, ولكن مضت برلين لأبعد من ذلك بفتح آفاق غير مسبوقة أمام الخرطوم ومساعدتها في تسويق نفسها في الساحة الأوروبية التي كانت مغلقة أمامها لأكثر من عقدين.
فتش عن المصالح تلك هي الإجابة الوحيدة في تفسير الموقف الألماني, والحكمة التقليدية في باب العلاقة بين الدول, لا توجد صداقة ولا عداوة دائمة, بل توجد مصالح دائمة. وفي عالم تشتد فيه الأزمات الاقتصادية لا تجد حكومة مسؤولة وعاقلة تحقر من المصالح الاقتصادية مهما صغرت شيئاً, صحيح أن هناك توازنات وتحالفات تحكم حسابات الدول الكبرى وتدرك أهمية مراعاة خطوطها الحمر, إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن الدول تتقيد بقواعد تلك اللعبة ولو على حساب مصالحها الوطنية, وفي ذلك براح, صحيح ان ألمانيا جزء من التحالف الغربي المناوئ للحكم الحالي في الخرطوم, لكن ذلك لا يمنعها بالضرورة من السعي لتحقيق ما تراها محققاً لمصالحها الوطنية. من المؤكد ان يدها لن تكون طليقة إلى الآخر, ولكنها ستعمل علفى ملء مساحة التحرك المتاحة أمامها.
لم تكن ألمانيا, كما هو حال سائر دول الاتحاد الأوروبي, تحتفظ بمصالح اقتصادية ذات شأن مع السودان في ظل حكم الإنقاذ الذي هيمنت عليه الشراكة مع الصين, غير أن الشراكة القوية بين بكين والخرطوم, التي جعلتها في مرتبة ثالث أكبر شريك تجاري للتنين الصيني في إفريقيا, التي طغى عليها عامل النفط المهيمن بدأت في التراجع منذ ان لاحت بوادر تقسيم السودان مع نهاية الفترة الانتقالية لعملية السلام الشامل, ثم ذهاب أغلب احتياطيات النفط إلى جولة الجنوب الجديدة, فضلاً عن خروج النفط نفسه من الحسابات الصينية في الوقت الراهن بعد توقف إنتاجه وتصديره على خلفية استمرار الصراع على تركة التقسيم وتبعاته بين السودانيين.
فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تطوراً مهماً على صعيد العلاقات الاقتصادية بين الخرطوم وبرلين, فقد قفزت ألمانيا خلال السنوات الثلاث الماضية إلى مرتبة الشريك التجاري الأكبر للسودان على الساحة الأوروبية, حيث سجلت حجم صادراتها إلى السودان في العام 2010 أكثر من نصف مليار دولار, نحو خمسائة ثلاثة وأربعين مليون دولار, وحققت في العام الذي يليه أربعمائة واحد وأربعين مليون دولار, وسجلت حتى الربع الثالث للعام الماضي مائتين وثمانية مليون دولار, وهو ما جعلها تتفوق على شركاء السودان التقليديين في اوروبا, المملكة المتحدة وأيطاليا وفرنسا, وتفوقت حتى على اليابان. وأصبحت ألمانيا خلال السنوات الثلاث الماضية خامس أكبر شريك تجاري للسودان بعد الصين والهند والسعودية والإمارات. بيد ان الميزة التفضيلية لألمانيا على هذه الدول أن صادراتها للسودان ذات طابع نوعي من حيث القيمة التكنولوجية في حين أن معظم وارداته من الدول الآخرى سلع تجارية.
من المؤكد أن حرص ألمانيا على مد حبل التواصل الاقتصادي مع السودان, مع الأخذ في الاعتبارات كل متعلقات الموقف الغربي السياسي المحاصر للحكم في الخرطوم, تشير إلى أنها تدرك أن هناك مساحة فراغ في العلاقات الاقتصادية بين الغرب والسودان, وهو بلد مهما كانت العثرات والأزمات التي يعيشها في الوقت الراهن, فإنه مع ذلك يحظى بقدرات اقتصادية كامنة مهمة تحتاج إلى استقرار سياسي وأمني لتحريكها, والأوضاع المأزومة الحالية لا يمكن لها الاستمرار إلى ما لا نهاية, وفي بلد متقدم سياسياً واقتصادياً مثل ألمانيا يعرف خياراته الاستراتيجية المستقبلية ويحددها بدقة, فمن الواضح ان برلين تحاول استغلال الفراغ الحالي, في ظل العداء المستحكم بين الخرطوم وواشنطن ولندن وباريس وغياب أفق تطبيع قريب معها, لتعزيز فرصها المستقبلية لتسجيل حضور متقدم في الساحة السودانية لصالح أجندتة مصالحها الاقتصادية, خاصة وأن التعاطي الألماني مع الخرطوم هو جزء من رؤية أوسع ضمن لتعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية جنوب الصحراء, ومن الصعب تجاهل السودان في اي استراتيجية كهذه.
ومن المهم الإشارة هنا إلى المنتدى العالمي للزراعة والغذاء الذي شهد دورته الخامسة هذا العام الذي انعقد ضمن فعاليات "الأسبوع الدولي الأخضر" ببرلين, والذي بادرت بتأسيسه ألمانيا مع بروز أزمة الغذاء العالمي في العام 2009, بغرض تحقيق الأمن الغذائي العالمي والذي تبني استراتيجية تدعو لاستثمار أكثر من ثمانين مليار دولار سنوياً في الدول النامية حتى العام 2050 بغرض توفير الاكتفاء لإطعام أكثر من تسعة بلايين إنسان بحلول منتصف القرن الحالي, وفي بلد مثل السودان ترشحه موارده الطبيعية الوفيرة الكامنة للعب دور فعال في تحقيق الامن الغذائي العالمي فمن الطبيعي إذن أن يجد اهتماماً وحرصاً عليه في أية أجندة استراتيجية لأية دولة في هذا الخصوص.
ومع أن السودان يحتفظ بعلاقات شراكة اقتصادية أساسية مع شرق آسيا, ويحاول مد جسور كذلك مع البرازيل, ولئن صح أن هذه العلاقات تمثل بديلاً معقولاً في غياب خيارات آخرى في ظل العلاقة المتردية مع الغرب, إلا انها لن تكون كافية لتمكينه من العبور في أي مشروع نهضوي جاد, إذ أن حتى هذه الدول مثل الصين, واليابان والهند والبرازيل ما كان لها أن تحقق تقدماً في مسارها الاقتصادي بغير الاستعانة بالتكنولوجية الغربية المتقدمة, والحديث عند بعض المسؤولين السودانيين عن إمكانية الاستغناء بالشراكات الحالية مع الشرق عن السعي الجاد لخلق شراكات جديدة في أوروبا يكشف عن خلل كبير في إدراك ديناميات الصعود الاقتصادي للدول الناهضة, ففضلاً عن إسهام الرصيد التكنولوجي الغربي في نهوضها, فإن أسواق الاستهلاك في الدول الغربية لا تزال هي الاسواق الرئيسية لمنتجات الدول الصاعدة, ولذلك لا غنى عن التكنولوجيا والأسواق الغربية لأية دولة تملك استراتيجية ليس للخروج من الأزمات الاقتصادية فحسب, بل كذلك لتحقيق نهوض وتنمية مستدامة. ويبدو ان برلين تراهن على مدى إدراك الخرطوم بوعي لهذه المعطيات والشروط الموضوعية للدخول في نادي الدول الناهضة, وتحاول بعث رسالة مفادها أنه من الممكن لألمانيا أن تكون المدخل لهذا الدور إن رشح السودان نفسه جدياً له, وبالطبع سيحقق ذلك إن تم لبرلين مصالحها الاستراتيجية.
يشير مجمل قراءة مخرجات مشاركات السودان في فعاليات برلين الاقتصادية إلى أن هناك سبلاً متاحة لإمكانية الخروج من ربقة الحصار الغربي, كما أن هناك فرصاً اقتصادية لا حدود لها تفتح آفاقاً جديدة وواسعة أمام الاقتصاد السوداني, ليس فقط على مستوى العلاقة مع ألمانيا بكل ما تمثله من ثقل سياسي واقتصادي, بل أبعد من ذلك بإنعكاسه إيجابياً بدفعه للكثير من الدول الآخرى على إعادة حسابات علاقاتها مع السودان, ولكن مهلاً ثمة فارق كبير بين وجود هذه الفرص وإمكانياتها المتاحة, وبين تحقيقها على أرض الواقع, لقد كانت تلك مناسبة ضرورية لبث الوعي وإدراك حجم الفرص الكبيرة, لكنه أيضاً كشف عن حجم التحديات المنتظرة, فالانتقال إلى الضفة الآخرى لن يتم تلقائياً, وثمة شروط موضوعية ومعطيات لا بد توفرها, بل يجب على الحكم في الخرطوم تحقيقها إن إراد فعلاً اهتبال هذه السانحة الذهبية. فليس هناك شئ مجانأ, ويرتكب خطاً فادحاً من في الحكم الذين يظنون أنه بوسعهم الاستفادة من ثمرات هذا الاختراق الدبلوماسي بدون أن يتحركوا من مربعهم الحالي قيد أنملة. فالأمر ببساطة لا يتعلق بمسألة اقتصادية ذات طابع فني, بل هي قضية سياسية بامتياز تتعلق بأولويات الحكم الراشد والاستقرار والأمن.
وزير الخارجية الألماني غيدو فيسترفيلي كان واضحاً في كلمته امام الملتقى الثلاثي وهو يعدد انشغالات بلاده في شأن علاقاتها المستقبلية مع السودان, فالتعاون الاقتصادي لا يتحقق بغير تعبيد الطريق أمامه بوضع سياسي محل تراضي يحقق الأمن والاستقرار, وكما هو منتظر فقد كانت أزمات دارفور, وجنوب كردفان والنيل الأزرق, ومتعلقات تقسيم السودان, وقضية أبيي, والعلاقة المتوترة بين دولتي السودان, حاضرة بقوة في أجندته, واعتبر أن استضافة بلاده لمنتدى "يوم الأعمال الألماني السوداني" إسهام منها من أجل التنمية الاقتصادية بغرض تحقيق السلام والاستقرار في دولتي السودان, ولكنه اعتبر الحكم الرشيد وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية شروطاً أساسية لا غنى عنها من أجل ضمان مستقبل مزدهر للشعبين. وأنه من "دون التنمية الاقتصادية لن يكون هناك أمن، ودون الأمن لن يكون هناك تنمية اقتصادية".
لا يحتاج الأمر إلى كثير مماحكات أو مغالطات للاعتراف بان السودان يحتاج إلى تغيير إصلاح سياسي اقتصادي جذري, وهذه مطلوبات تقتضيها ضرورة إخراج البلاد من مأزقها الحالي, قبل ان تكون شروطاً يريد أي طرف خارجي إملاءها حتى لا يعتبر البعض ذلك ذريعة لعدم الوفاء باستحقاقات التغيير المطلوب بشدة, وحالة الاضطراب وعدم الاستقرار وانفراط الأمن بفعل الحروب الأهلية المتعددة لا تجعل سبيلاً لإنقاذ اقتصاد البلاد المتدهور بمعزل عن الإصلاح السياسي, ولا يتوقع أحد حلولا اقتصادية تتطلب تدفق استثمارات خارجية, ومبادلات تجارية في وقت تكون فيه البلاد غارقة فيه في صراعات لا أحد يعرف لها نهاية. لقد قامت الدبلوماسية السودانية بمهمتها على أفضل ما يكون لفتح أفاق جديدة أمام البلاد في ظل أجواء غير مواتية على الإطلاق, بيد أن تحقيق منافع ومصالح منها ليس وارداً بغير الانتقال إلى مربع جديد, وحتى ذلك الحين تبقى الكرة في ملعب الحكم في الخرطوم, وليس في العواصم الأخرى.
عن صحيفة إيلاف السودانية
الأربعاء 6 فبراير 2013