أمين معلوف.. التخييل والكتابة فوق الكتابة (1/2)

 


 

غسان عثمان
15 November, 2022

 

ghassanworld@gmail.com

أن ينتهي الجدل حول علاقة الرواية بالتاريخ، الإجابة في ظننا مُعلقة، ذلك فإن أكثر الآراء تنصرف ناحية صعوبة فك الاشتباك بين ما هو تاريخي وما هو سردي تخييلي، ولعل التنظيرات المُؤسسة لهذا الفهم تعود إلى مفهوم الرواية التاريخية الذي قُعّد في كتابات أولى في الأدب الإنجليزي وقوفاً عند وليم شكسبير في أعماله التي تناولت فترات تاريخية، وغيره أمثال فكتور هوجو في فرنسا وتولستوي في روسيا، بل حتى ماركيز له نصيب في الاتكاء على اليومي والتاريخي في بعض أعماله، وفي الأدب العربي كذلك الأمثلة كثيرة، ولم يكن للتخييل، والتخييل الذاتي بالأساس من مساحة كما هو الحال الآن في بعض الأعمال التي تستند إلى التاريخ ولحظاته، ولو أردنا تلخيص جملة الجدل في هذه المسألة فإن البعض أن الرواية التاريخية هي العمل على إعادة بناء النص طمعاً في تناول ما تم إغفاله أو سقط من يد المؤرخ، أو حتى كان من غير المفكر فيه، وهذا الفريق يستعد بكامل عدته الإبداعية لكتابة تاريخ التاريخ، أو تأريخ ما لم يؤرخ له، إنه يستلهم لحظات تاريخية يعمل على تركيبها من جديد، وهذا التركيب المقترح يهرب باستمرار من فخ الوقوع في التدوين وهو شغل المؤرخ، وحقيقة من الصعب الوصول إلى نقطة مريحة لفك العلاقة بين ما هو إبداعي وما هو تاريخي، ولذا فإننا نعتقد بسلامة الذهاب ناحية دراسة كل عمل على حدا، وذلك ما سيعجل بالوصول إلى نتائج تراكمية تسمح في وقت ما أن نحل هذه المسألة. وقد لا نذهب بعيداً إن قلنا بأن أعمال الروائي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف هي التي انقذت الرواية من شرك التأريخ والأرشفة لتحول السرد إلى كتابة جديدة، وهذا بسبب براعة وجدة معلوف التي أكثر ما تتبدى في عمله (ليون الإفريقي)، وهذا ما نكتبه هنا لصالح هذه القضية.
إن الأديب والكاتب والصحفي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف المولود في 25 فبراير 1949م يحتل مكاناً بارزاً في سماء الكتابة الأدبية عالمياً وعربياً، إذ تتخذ أعماله من الذاكرة الحرجة أصولها ومعالم سردها، فمعلوف يحترف إعادة كتابة التاريخ روائياً، وهو إذ يفعل ذلك لا يقوم بعمليات الرصد والإشارة كما هي في تركيبها التاريخي، بل يعمد بشكل دقيق إلى إعادة الاعتبار للتاريخانية وهي حالة كتابة فوق تاريخية، تستند في الأساس على تاريخ الظاهرة الاجتماعية والفاعلين فيها، ومعلوف الذي عمل بالصحافة حتى العام 1975م، أصدر أول أعماله "الحروب الصليبية كما رآها العرب عام 1983م"، وأعماله ترجمت إلى لغات عديدة، والرجل مهموم بقضية الهوية ولمن يقرأ كتابه (الهويات القاتلة) يقع على ترجمة جديدة لمفهوم الأنا والآخر، بل لم ينس معلوف، ولم يستطع التخلص من عروبته رغم هجرته الباكرة إلى فرنسا واندماجه في المجتمع الأدبي هناك، حتى بات كاتباً فرنسياً بامتياز، وفي ذلك حاز في عام 2010م على جائزة أمير أوسترياس عن مجمل أعماله.
(ليون الإفريقي) : صراع الهوية والإنسان الكوني:
إن أعمال أمين معلوف تشير إلى هذه الخصيصة، صراع الهوية وأنسنة الفاعل الاجتماعي، نجد ذلك في روايته (ليون الإفريقي، 1986م) والصادرة عن دار النشر الباريسية (Éditions Jean-Claude Lattès) عن وهي تركيب سردي ماتع يتتبع الظاهرة العربية بشكل حثيث، ويضع يده على التحولات التي جرت في البنية الاجتماعية والروحية، وانعكاس ذلك على مجمل أوضاع العرب وثقافتهم، هويتهم ووجودهم الحضاري، إن حسن الوزّان بطل هذه الرواية وساردها العليم يقدم لنا بانوراما تاريخية تتكيء نعم على أحداث حقيقية تقع ما بين الأعوام 1489م – 1527م، وهذا الفترة هي التي بدأت بسقوط الأندلس وحتى نهاية رحلة البطل المعلوفي (ليون)، فشهادة الراوي/البطل تقدم لنا أحوال عدة ومواقف وانعطافات مركزية في الظاهرة، حسن بن محمد الوزّان ويوحنا – ليون دومديتشي المُعمد مسيحياً بيد أحد البابوات، والذي انتهى به المطاف بعد رحلة عجائبية إلى أن يسمى (ليون الإفريقي) نسبة إلى إفريقية وهو الاسم القديم لتونس، والمفارقة تقع أن ابنه الذي ولد له في روما عاد بهوية معاكسة وشديدة التباين لمسيرة الرجل، فبات يعرف ب(ابن الرومي) تعبيراً عن صراع الهويات الذي خاضه الوزاّن، الوزان الذي يعرف نفسه في الرواية : "ولكنني لست من إفريقية ولا من أوروبة، ولا من بلاد العرب، وأُعرف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزّياني، ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا أي مدينة، ولا أي قبيلة، فأنا بن السبيل، وطني هو القافلة وحياتي هي أقل الرحلات توقعاً" – الرواية صفحة (9)، هذه الهوية المركبة هي روح هذا العمل، هي هوية قاتلة ومحيية في الوقت ذاته، إذ يتعاظم وجود الواحد منها على أنقاض الثانية دون هدمها، ولعل هذا الصراع المكتوم أو المتصالح معه في ثنايا الرواية هو مطلق جاهزيتها في السرد، حسن كان كل شيء، بل لم يكن شيئاً ما، يوماً ما، حسن المسلم والمسيحي واللاديني، هو مثال عظيم لكونية الإنسان، هذه الكونية التي إن رغبت في فض اشتباكها وقعت أسيرة الواقع وصيرورته، لقد تمدد في الكون، كونه وزمانه الثقافي الذي عاش فيه، يقول: " ولسوف تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعِبرية واللاتينية والعامية الإيطالية لأن جميع اللغات وكل الصلوات ملك يدي، ولكني لا انتمي إلى أي منها، فأنا لله وللتراب، وإليهما راجع في يوم قريب"- الرواية صفحة (9).
إن الهوية المركبة جعلت من الوزّان روح عصره، وبيان زمانه، يعصر كل ما يقع عليه وجدانه، يماري، يحتال، يخاتل ويمارس وجوده الواقعي بامتياز، فمنذ ميلاده جرت معركة الهوية، ألم يولد لإمراة تقبع تحت ظل الامتياز الاجتماعي (سيدة حُرة) محكوم عليها بالخضوع لأشراط الطبقة، وبين (أمة) ذكية غنجة مرنة تعرف كيف تغوي زوجها، لتتحقق معادلة الطبقة والعرق، إنها (وردة) المسبية ورغم ذلك ملكت امتيازها الخاص بأن جعلت الأب المسنود بالطبقة أيضاً يتنازل لأجلها، بل كانت النقيض المُر للأم الحرة بنت العم، لقد عبرت عن عبوديتها وهي طليقة قالت: " نحن نساء غرناطة حريتنا عبودية مستترة، وعبوديتنا حرية بارعة" الرواية ص(15). وقالت أيضاً في معنى تنازع العرق والطبقة " كنت حُرة وكانت جارية، ولم يكن الصراع متكافئاً. كان بوسعها أن تستخدم على هواها جميع أسلحة الغواية، وأن تخرج من دون حجاب، وأن تغني وترقص، وتصب الخمر، وتغمز بعينها وتتعرى، في حين كان لزاماً عليّ بحكم وضعي ألا أتخلى عن وقاري، وألا أُظهِر كذلك أي اهتمامات بملذات أبيك، وكان يدعوني (بنت العم).
إن الصراع بين (وردة وسلمى) في أصله صراع عميق الجذور في الهوية العربية، فلو قلبنا دفتر أحوال الدولة العباسية في ثلثها الأول ما فاتنا الوقوع على مباراة الحشمة والتبذل في قصور الخلفاء وذوي الشأن، كان هذا من تجليات الانفتاح الثقافي الذي وجدته الدولة العباسية وارثة الإمبراطورية الفارسية، ومتخذة أدابها بديلاً عن تراث مفكك لا يحمل طقوس الملكية والبرتوكولات الطبقية، هو التراث العربي المجرد، إنه عالم الأعرابي (صانع اللغة) كما يسميه المفكر المغربي محمد عابد الجابري، ورغم أن هذا الصراع لم استمر طويلاً بل نجد أن ثمة تضامن جرى بين السيدتين وبينهما (سارة) اليهودية المبرقشة صاحبت الخبرات الروحية وسمسار الطالع، هذه السيدة لعبت دور الوسيط الأمين بين (سلمى وزوجها)، والتضامن المقصود هذه المرة حدث بموجب وضعية المرأة حُرة كانت أم عبدة، قانون المواضعة وغياب التكافؤ، فالنساء في سلم القيم العربية يقبعون مع الطيبات والملذات أي هن عنصر استهلاكي محض، لكن ما اشتغل عليه معلوف أنه بيّن لنا ذكورية فجة حدت بالأب أن يعقد سيركاً فحولياً يجمع فيه السيدتين ليعرض بضاعته من الأبناء في ثلاجة بشرية دلالة على الفحولة وانتظار المستقبل بالعِزة والمكانة. نواصل..

 

آراء