أنفاسُ “حبـيـبـو” .. في الحزامِ السودانيّ: سُطور في تذكّرِ نادر خضر

 


 

 

أقربُ إلى القلب :
jamalim@yahoo,com

(1)
قبل تسعة أعوام ، رَحلَ عندليبٌ أم درمانيّ، وخبا نجمٌ باكراً، إسمه نادِر خَضِـر. .
لربّما لم أكن من جيل الفنان الرّاحل نادر، ولا أنا ذلك المُتابع اللّصيق بفنِ التطريبِ والغناءِ عند ذلك الجيل، نحن الذين تفتحنا مع جيلٍ مُختلفٍ، وفي زمانٍ مختلفٍ، بل وبتربية مختلفة . خرج فنُ التطريبِ والغناء السّودانيّ، في سنوات الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، منتقلاً من مرحلة "الطنابرة" والغناءٍ بأصواتِ حناجر وبتصفيق موقّع، ثم مرحلة "الحقيبة"، وفق مصطلح نحته الإعلامي السفير الرّاحل صلاح أحمد: وهو غناء بمصاحبة آلات إيقاع صاخب كالطبل و"الرق" . . عبوراً إلى مرحلة الغناء الوتري، ومن روّاده الكاشف وعثمان حسين ووردي وعبدالحميد يوسف وابراهيم عوض والتاج، وسلسلة طويلة من نجوم الطرب في سودان أواسط القرن العشرين . .

(2)
لم تكن المسيرة تمضي بانسياب سلسٍ، من مرحلة إلى أخرى، كما قد تبدو لك الصورة. أحدّثك هنا عن سنوات عشناها في يفاعتنا ، وكيف كانت نشأتنا في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، في المنطقة الجنوبية من مدينة أم درمان، وأعيننا ترصد أخريات معاملة أهل المدينة للمطربين، لا تعدّهم إلا "صياعاً" ، لا ينالون من عامة الناس إلا قدراً قليلاً من الاحترام . لم يثبت في الاختبار، إلا من أثبت حسن موهبة ، وأداءاً متميّزاً، أكسبه صيتا كبيراً، يؤبَه له، فنال المهابة والاعتبار. بين هؤلاء الروّاد خليل أفندي فرح وعبد الكريم كرومة ومحمد أحمد سرور . ثم جاء "أولاد شمبات": عوض وابراهيم شمبات، و"أولاد الموردة": عطا ومحمود عبدالكريم، فكانوا كبارا محترمين، ذوي كاريزما ، بلغة ساسة اليوم. ثمّة شعراء يتبعهم مطربون، وليس الغاوون وحدهم. جاء العبادي وسـيّد والمسّاح وود البنا والعمرابي ومطران والجاغريو وود الرضي وعتيق وعبيد عبدالرحمن وعبدالرحمن الريح. . القائمة تطول فالبناء الشامخ وقف عليه كبار مثل هؤلاء. أما صناجة شعر الحقيبة، فيأتي ذكره متفرّدا : أبوصلاح . . !
اللافت أنك لو استمعت لفرقة "عقد الجلاد"، سيدهشك أن تجد جذوراً لتجربتهم المعاصرة في تجارب سابقات، عند أولاد شمبات وأولاد الموردة. ليس ذلك فحسب، بل قد تجد جذوراً في تجارب عند الجزائريين والتوانسة والمغاربة، كما سـأبيّن لك لاحقا هنا. .

(3)
لم تكن العاصمة كما تبين لك اليوم بامتداداتها وتفرعانها المعقدة. ثمّة مدن ثلاث ، بعيد استقلال البلاد أسموها "العاصمة المثلثة". ليس مثلثا افتراضيا ، بل هو مثلث حقيقي أضلاعه الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، لا يتعدى سكانها جميعاً، بضعة آلاف من البشر. "كلاكلات" اليوم و"أم بدات" و"الثورات" وسواها وما وراء الحلفايا ، كانت أحياءً في رحم التشكّل. لعلّك لو نظرتَ للثنائيات والمجموعات الغنائية أواسط أعوام القرن العشرين، ستجدها تطابق أسماء الأحياء التي نشأت فيها. هنالك "أولاد شمبات"، فتلك هي الخرطوم بحري، ثم "أولاد الموردة "، فهم من جنوبي أم درمان ، وميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة، وأولاد البنا ، وكرومة، وسرور ، فهم جميعاً من شمالي أم رمان . .

(4)
تلك هي أم درمان. . عاصمة غناء الحقيبة..
في حي "الموردة"، محلٌ للحلاقة يديره شخصان هما عطا ومحمود، في ركن سوق "الموردة". ومثلما شكّل عطا ومحمود، ثنائية راسخة في مهنة الحلاقة، كذلك أنشأاها ثنائية فنية باهرة في التطريب. هم "أولاد الموردة" بالجمع ، إذ متابعيهم ومرافقيهم من "الشيالين"، يشكّلون فريقاً واحداً متجانساً. تحضرني الساعة "ناس الغيوان" ، و "جيل جيلالة" وسواهما من مجموعات غنائية نشأت في المغرب ، سنوات السبعينات من القرن الماضي.
ألا ترى بعينيك الذكيتين ، وجوهاً للمقاربة هنا، بين المجموعات المغاربية وهذه الجموعات الغنائية التي تجذّرت أصولها جميعاً ، في عمق ايقاعات وطبول الطرق الصوفية على امتداد الحزام السوداني. . ؟
تتشابه الأمزجة الفنية والموسيقية بامتداد ذلك الحزام. .
ثم أسأل نفسي : ترى هل للفنان الرّاحل "نادر خضر" صلة بهذا الإرث الباذخ في حزام السودان المُمتـد مِن سواحل أفريقيا الشرقية إلى سواحلها الغربية ، شماله صحارى وجنوبه غابات. . ؟

(5)
عن الرّاحل نادر خضر ، سترى جلياً جذوره الأ م درمانية . .
في تلك المدينة ، تلذّذنا زماناً بالتجوّل في حواري وأزقة سوق الموردة ، وسوق خضراواته ، ومحلاته النجارية، ودكاكين الحلاقين، والمطاعم الشعبية ، خاصّة مشويّات أسماك "السُّـبكي". في "موردة" تلكم الأيام ، شاهدتُ مطرباً من أبناء الموردة إسمه "بلبل السودان" في أخريات أيامه ، وقد تدهورت صحته ولم يعد ذلك المطرب الفتى الأنيق الذي إسمه ابراهيم عبدالجليل. كان بعض معجبيه يعلق صورته المشهورة بربطة عنق الفراشة "الببيون"، يفخرون بالفتى المُغنّي الذي اقتحم بصوته الجميل أسماع قاهرة المُعزّ. شقيقه "التـوم" كان مطرباً ذا صوت شجيٍّ، وإن كان أقلّ حظاً من توأمه ، لكنه تصوّف في سنواته الأخيرة ، ثم هجر الغناء، فلا تراه إلا والمسبحة بين أصابعه، يداوم على الصلاة في مسجد "الأدارسـة"، ليس بعيداً عن مسكنه في حي "الموردة" العتيق. .
وأسأل نفسي ثانية ، سؤالا يستفسر عن مقاربة تراها العين الذكية ، بين انقطاع "التوم عبدالجليل" إلى مسجد "الأدارسة" في حي "الموردة"، وبين انقطاع شاعر "عشرة الأيام" عوض أحمد خليفة ، يخرج عابراً الزقاق الذي يقوده إلى مسجد "الأدارسـة"، ليؤم المُصلّين في ذلك المسجد. . ؟ وهل تجد غرابة في أن ينظم شاعر الحقيبة القادم من بيوت آبائه أرباب الطريقة الصوفية في "أم ضوّاً بان" قصيداً في متجرّدة" سودانية ، تضاهي الأصل العربي القديم المشهور الذي نظمه الشاعر الجاهلي..؟
وهل لكلِّ هذا من صلاتٍ بمزاجٍ تجذّر في ذلك الحزام السوداني الذي أحدّثك عنه تبين لك التجليات الصوفية في تمازجها وتشابكها البديع ، فنخـرج نسيجاً متسقاً وبديعاً من التصوّف والشِّعر والرقص والغِناء . . ؟

(6)
كنا نرى عدداً من المطربين مقيمين في نواحي الأحياء القريبة من سكنانا في حوش جدنا ابراهيم الشقليني في حي أبي كدوك. بعضهم في حيّ "الموردة" و حي الضباط ، وآخرين في حي العرضة والعباسية، من أحياء مدينة أم درمان القديمة. . بعد ثنائي "أولاد الموردة" عطا ومحمود، جاء عبدالدافع عثمان، وقد سمَا صوته القويّ برعاية خاله الشاعر مبارك المغربي. هنالك ابراهيم "ود المقرن" في شرقي منطقة بانت ، وبجواره الشاعر قمرالدين المبارك. هنالك رمضان زايد، وبرغم إقامته الممتدة في الخرطوم بحري، وقد أجزل الغناء لها ولبناتها، فإنَّ ولائه لأم درمان لا تشوبه شائبة. لم يكن مقام "صنّاجة الحقيبة" المفوّه، الشاعر صالح عبدالسيد "أبو صلاح" في "الموردة"، مصادفة محضة، ولا كانت سُـكنى عائشة موسى المشهورة بعائشة الفلاتية كذلك ، ولا سُكنى شرحبيل أحمد وقتذاك في قلب العباسية، أقداراً عفوية. .
ثمّ يأتي الفتى نادر خضر، ينشأ في حيّ بانت الأم درماني، فهل يكون بعيداً عن ثراء ذلك الإرث. . ؟

(7)
إنّي وقد جهدتُ لسببٍ يتصل بمزاجٍ تولّد عندي لمحبّة الفن والأدب، لمتابعٌ لحركة الغناء يبدع فيها مطربون، كسبوا احتراماً ومهابة، وبرزوا بعد ذلك الجيل الذي جئت على ذِكْر بعض رموزه هنا، فلن تعجب أن يكون من أبناء تلك المربعات والأحياء الأم درمانية العريقة ، نجومٌ جاءوا بعد ذلك وأقاموا في أم درمان، مثل عبدالكريم الكابلي شاعر ومغني "الزينة" التي أعجبته حين سكن حي"الموردة" .
في غرب شارع الأربعين وفي مقابل مسجد "مرفعين الفـقـرا" ، يقيم زيدان وعمر الشاعر، ولا يذكر الإسمين البارزين، إلا ويلحق بهما التجاني "ولد دار السلام" ، ثالوثاً حلقوا بنا يروائع في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، فطربنا وتراقصتْ مشاعرنا استطرابا، وامتلأ الوجدان عند أكثر العشاق، حزنا على ما تهدّم من قصور الشّوق ، وتحسّراً - ونحن معهم - على من لم تخُـنْـه مشاعرنا . "أخووونك" ، لحن صاغه الموسيقار العبقري "عمر الشاعر"، من شعرٍ نظم كلماته الشاعر رقيق الحرف، الرّاحل "محمد جعفر عثمان". ولتسامحني قواعد اللغة العربية، إنْ كررتُ لك حرف "الواو"، لأنّ أذنيّ قبل قلمي، قد استحضرتا صوت زيدان يمدّ صوته بنطقها تمديدا شجيا. .
غير أننا لن نغتمّ "في الليلة ديييك"، وقد فاحت روائح الـفُـلّ والياسمين، والمحبــوبة وسـط تلـك الأزاهير، فيدندن عمر الشاعر بأجمل دندنة خرجتْ من أنامله سحراً صراحاً، في لحن "فـراش القاش" . .

(8)
كلّ هذا اللغو والاستطراد، فلا أقول لك شيئا عن الراحل "حبيبو" ، وحبيبنا أجمعين. . ؟
أما كان ذلك الفتى طرفاً في ومِن ، كُلِّ هذا الإرث المُعـتق الحاضر الذي صاغته أقدارُ أم درمان ؟ أما صارت هذه المدينة التي - إن شئنا أن نستعير تعابير عزّزتها ألسنة ثورة ديسمبر - "حاضـنـة" لكلّ غناء السودان الجميل . . ؟
أمَا بدأتْ تلك المدينة الحبيبة، تبشّر بغناءِ "ربوع السودان" باكراً، فولدتْ في شواطئها الإذاعة القومية والتلفزيون والمسرح القومي، ودار الغناء الشعبي، فأيّ حاضنة سواها عرف أهلُ أم درمان، لكلّ فنون إبداعها ؟

(9)
لمعَ نجم "حبـيـبـو" عند جيراننا إلى الشرق منّا : إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، فقد برع في استنطاق أشياءٍ أبعدَ من تعابير اللغة ، أشياءٍ تراءَتْ للناظر في الملامح ، في الملبس ، في المأكل ، في الرّقصِ وفي الإيماءِ . ذلكُم هوَ مزاج "الحزام السوداني". مزاج واحد ينتظم ذلك "الحزام " ، المُمتـد من سواحل القارة الأفريقية الشرقية، إلى غربها المُطلّ على المحيط الأطلسي . ذلك حزام جغرافي التفتَ لدلالاته الثقافية وأفصح عنها عميقاً، صديقي السفير الرّاحل عبدالهادي الصديق دار صليح، فأبدع. ثمّة خيط لا تراه، بل تحسّهُ عاطفة غلاّبة. لا تتلمّسه ولكن تتنفسهُ فحسب. إنه السّلم الخماسي وما تفرّع عنه من ألسنة التطريب الموسيقي، الذي يربط ذلك المزاج السوداني، فيطرب لإيقاعاته، أهلنا في إثيوبيا وجيبوتي والصومال، وحتى أهلنا في جنوبي الجزائر وليبيا ونونس و نواق الشطّ ومراكش.
لم يكن الفنان المطرب الرّاحل نادر خضر، عربياً قحّاً ، ولا أفريقياً قحاًّ، بل هو "سودانيٌّ"، بالمعنى الذي حدّث عنهُ عبد الهادي دار صليح، وأفصح عنه شاعر تمبكتو عمر عبدالماجد، وصديقنا الأديب الرّاحل عثمان أحمد حسن . جالَ عثمان في تلكم النّواحي، فحدّث عن حضور الفن السوداني في ذلك الحزام، وقال عنه أنّهُ يمثل قوتنا الناعمة التي ينبغي إيقاظها وإذكاء نارها فتبرز قوتها بجلاء في هوية مالكيها . هي سلاحنا الناعم الذي يحمي تميّز ثقافاتنا، ويعزّز تفرّد هويتنا . لا تثريب ولا ضير، إن تعدّدت ألسنة سكان ذلك الحزام، بين "عربوفون" و"آنجلوفون" و"فرانكوفون". . !
آه يا "حبـيبـو". . هل أنصتَّ لحسراتنا وقد تجمّعتْ لوداعك في مايو من عام 2012. .؟
يا لخسارتنا الفادحة، إذ كانت الأقدار أسبق إليك من خطى مزاج حزامك السوداني ، الذي تمنّاك إضافة صادقة لذلك البنيان الذي أرسـاه فنان أفريقيا الرّاحل وردي. أفلَ ذلك التطلّع في رحيلك باكراً، أيّها الرّاحل الجميل . .

(10)
أطربتنا بمزاجك "السوداني"، خيرَ إطراب ، فالتبسَ على سامعي إطرابك ، هل تكون أنت من أصل إثيوبي . . ؟ هل والدك من هناك. . ؟ هل والدتك. . ؟ هرطقَ المُهرطقون ، فما تذكّر منهم أحدٌ أنك ابن مزاج "الحزام السوداني". إنـك جهرتَ أسماعنا قبل عيوننا، بغنائك البديع ، ومن الأكيد أن سيطرب له كلّ من سكن أنحاء ذلك الإقليم ، من سواحل أفريقيا الشرقية إلى سواحلها الغربية وما بينهما. نطقتْ حنجرتـك أيّها الرّاحل الجميل، بأصدق تعبيرٍ عن هويتنا في السّودان الجديد، الخارج من عباءة ومزاج ذلك الحزام الذي اجتمعت فيه أواصرنا، وّجرتْ دماً في شراييننا، وتترجمتْ أنفاساً في رئاتنا، فصدرت موسيقى وغناءا وشعراً وتشكيلا.

(11)
وقفتُ مرّة مع الرّاحل نادر خضر، وقد جاء ليشارك في حفل خاص في نادي الدبلوماسيين السودانيين في "لخرطوم إتنين". أشرت إليه في دردشة عابرة، عن كيف قد التبست هويته على معجبيه، بحكم تميّز أدائه واختلاف أسلوبه عن أساليب معظم مجايليه من شباب المطربين ، إذ حسب بعضهم – وفي براءة الجهل- أنّ أصوله إثيوبية .
ضحك "حبـيـبـو"، وقال لي : "لعـلّـك لا تعلم أنّ من استقدمني لهذا الحفل عند ناديكم هذا ، هو خالٌ لي إسمه محمود شحاتة. .
لم يكن "حبـيـبو" إثيوبياً - وإن لم يكن ذلك الانتماء ممّا لا يقبله السودانيون - غير أني قلتُ له لقد عرفتُ خاله محمود شحاتة، إدارياً من الجيل المُعتق في وزارة الخارجية ، وأن شقيقه الأصغر صديقي صلاح الدين أحمد شحاتة، متزوّج من ابنة عمةٍ لي. تقاسمنا ضحكة دافئة ، كما طربنا معه بقية ذلك الأمسية طرباً مزاجياً سودانياً، حتى الحادية عشرة ساعة "التنويم الانقـاذي" القسري لأهل السودان. .

(12)
بعد أشهر قليلة ، وقع الحادث المشؤوم الذي أودَى بحياة "حبـيـبـو"، وهو في طريق عودته مع رفاقٍ له إلى الخرطوم، بعد ارتباط فنّي أخذهُ إلعطبرة فى شمال السودان، ولارتباطاته العديدة، كان لزاما أنْ يكون في العاصمة.
يا للفاجعة. . كان القدر ينتظر من تهيّأ ليكون رسولاً وعندليباً صادحاً بمزاج ذلك الحزام السّوداني، ولكن لا راذّ لأقدار الله. . !
في بيت العزاءِ، رأيتُ أنسبائي محمود وصلاح "متحـزّمين" يتصبّبان عرقاً في ذلك النهار الكثيف الحرارة ، يتلقّيان العزاءَ وسط المئات التي تقاطرتْ جموعها لوداع "حبـيـبو" نادر. كان رحيلاً فجائياً، بدا لأكثر الناس ، حدثاً لا يُصدق. لقد احتشدتْ أم درمان بحزانى قدموا في ذلك النهار القائظ، من جميع أحيائها القريبة والبعيدة ، والسيارات كبيرها وصغيرها، من الخرطوم والخرطوم بحري ، قد سدّت منافذ الطرق على الرّاجلين حول مقابر "حمد النيل". بالقرب مِنّي وقف صديقي الأستاذ حسن فضل المولى ، مدير قناة النيل الأزرق وقتذاك، وحوله مصوّرو قناته التلفزية ، يسجّلون شهادا المكلومين في الرّاحل "حبيـبـو". كان لساني أعجز من أن يقول كلمات عزاءٍ تليق ، لكني- ونزولاً على طلب صديقي فضل المولى- ردّدتُ كلاماً عن انكسار قيثارة أم درمانية نادرة المثال، رحلتْ في شرخ شبابها. .

(13)
ألجمتْ ألسنتنا أجمعين صدمة الرّحيل الفجائية . بدتْ الصورة من حولنا ممّا قد لا يخطر ببال أحد، سيتعسّر خياله قطعاً، أن يتصوّر احتشاد ساحة مقابر "حمدالنيل" بشبابٍ في سن الراحل ، ورجالٍ أكبر سناً ، عجزوا عن منع أنفسهم عن الإجهاش بالبكاء. ثمّة فتيات يلطمن خدودهنّ وقد تعفّرت بغبار أرجلِ المعزين، غير آبهاتٍ حتى بتقليد يمنعهن من الدخول إلى ساحة المقابر. لا مكان لخطرفات حندرية هنا. إنها لحظة رحيل الفنان الجميل نادر خضر.
في ذلك النهار، كان سرادق عزاء رحيل "حبيـبـو"، ممتدا من حيّ بانت شرق ومن المربعات بمدينة "أبي سعد" ، وحتى حي "بانت غرب" ومقابر "حمدالنيل". لكنه كان في أصدق صورة ، سرادقاً ممتدا من سواحل قارتنا الشرقية عند جيبوتي، وحتى أطراف القارة السّمراء الغربية، عند مراكش. نظرتُ إلى ساحة مقابر الشيخ العركي "حمدالنيل" ، فكدتُ أنْ أسمع ضربات طبول الذّكر في جمعة "حمدالنيل"، وأيضا ايقاعات طبول ووتريات "ناس الغيوان"، و"جيل جيلالة" في نواحي المغرب ، وطبول أماديح التوانسة وإرازمها، تنادي "شيخ منصور يا بابا" في مسارح تونس، وليس بعيداً عن "باب سعدون" ، ثم ايقاعات الموسيقى الإثيوبية والصومالية والإريترية، بصخبِ موسيقاها البديع. . كانت أصداء مزاج الحزام السوداني في تنوّع ترائها، حاضرة معنا في طقس رحيل مُغنّي السودان الجميل نادر خضر"حبـيـبو". .

(14)
برغم تميّز أدائه في كلّ أغنياته ، وأيضا في ترديده أغنياتٍ غيره من المطربين، فقد بلغ درجات سامية في أدائه البارع ، لكني وقفت عند حسن أدائه لمقاطع من أغنية للرّاحل عثمان حسين . أدهشني نادر خضر وأنا أستمع إلى ذلك التسجيل في إحدى حلقات برنامج "أغاني وأغاني" ، إذ تسمّرتُ أمام شاشة حاسوبي، وانا أشهد الإدهاش في وجوه كلِّ مَن شاركوا "حبـيبـو" في تلكم الحلقة، وأوّلهم شيخها صاحب الكاريزما الحاضرة : السر قدور. كثيرون تغنوا بأغنيات الراحل العبقريّ عثمان حسـين، غير أن لا أحد بلغ الشـأوَ الذي بلغه نادر في رائعة الرّاحل عثمان حسـين : "المصيـر"، والتي تُعدّ من لئاليء بازرعة الأخيرة ، لكأن الشاعر أراد لها أن تكون خاتمة لكلّ أشعاره في الحبيبة التي تركته وحيداً بقية عمره . رحم الله بازرعة وعـثمـان ونـادر, ,

(15)
رحل "حبـيبـو" وحيداً بلا حبيبة إلى مثواه الأخير . أراد له الله مشواراً تخلد فيه ذكراه بما ترك لنا من ابداع على قصره، أجد له جذوراً ممتدة في مزاج ذلك الحزام السوداني التاريخي ، الذي يؤطّر مساحات لهوية سودانية مستقلة، في رحمٍ مِن بذرتين عربية وأفريقية. نظرتُ حولي والحسرة تقعدني ، فلا أكاد أمسك بخيط ينتظم عقداً حبّاته مالتْ إلى انفراط. بعد عبقري الموسيقى محمد وردي فنان أفريقيا العظيم، يغادر "حبـيـبـو" إلى باحة سرمدية، غير إيماننا أن الحزام السوداني، لكفيل بإلهام مبدعين يعيدون البريق لسودانية مزاج "الحزام السوداني" وإرثه الباذخ. .

الخرطوم- 16/6/2021

 

آراء