أي مستقبل للتعليم العالي في السودان بعد الحرب؟

 


 

 

جاءت حرب الخامس عشر من أبريل 2023 لتضيف إلى مشاكل الدولة السودانية المأزومة منذ استقلالها بعدا جديدا في الأزمات وفي طبيعتها. ولئن كانت هذه الحرب هي واحدة من الحروب التي انتظمت البلاد من قُبيل استقلالها، فقد اختلفت عما سبقها في أنها مثلت الحرب الأكثر تهديدا لوجود الدولة ولِبُناها الماسكة، وليس التعليم العالي إلا واحدا من بُنى الدولة ووسائل تطورها وقبل ذلك استدامتها. العامل الأكثر أهمية في جعل هذه الحرب تهديدا وجوديا للدولة السودانية ما بعد الاستقلال غير كونها تدور في عاصمة البلاد والتي - ولأسباب مختلفة من اختلالات التنمية ومن اختلال توزيع الموارد – ظلت وعلى نسق متصاعد تمثل العمود الفقري للدولة باستئثارها بالخدمات الأفضل في التعليم والصحة والخدمات المدنية على سوئها مقارنة بالعالم من حولنا، العامل الأكثر أهمية أقول هو الطبيعة البربرية والتدميرية لهذه الحرب، فمن القتل على الهوية وطرد المواطنين من بيوتهم واحتلال منازلهم ونشر صور المقاتلين المحتلين لهذه المنازل من غرف النوم وساحات المستشفيات وقاعات الجامعات إلى أسواق النخاسة واختطاف الفتيات المسبيات من الخرطوم كغنائم حرب، إلى فقدان الحرب لمبررها أو شعارها الأخلاقي، تصبح هذه الحرب حرب التدمير الأكبر في تاريخ الدولة السودانية الحديثة. فبالمقارنة مع الحروب السابقة في السودان والتي كانت لكل منها سرديتها وتفسيرها الخاص لمشروعية حرب الدولة، تفقد هذه الحرب شعارها الذي تدافع عنه، بدأت بالقول إنها للدفاع عن الديمقراطية (!) ثم تلي ذلك القول بأنها ضد الكيزان أو الإسلاميين ثم أخيرا قيل إنها ضد دولة 56، في إشارة إلى الدولة السودانية القائمة من بعد استقلال السودان.
تركز هذه المقالة على ما يواجه التعليم العالي في السودان من بعد هذه الحرب بل وفي خضم استمرارها، ولعله من المفيد هنا القول بأن واحدة من أسباب الحروب في السودان (ليس السبب الرئيس بكل تأكيد)، هو تهميش العلماء والباحثين والمفكرين وعزلهم عن مواضع اتخاذ القرار، لا أتحدث هنا فقط عن المتخصصين من التكنوقراط رغم أهمية دورهم، ولكن التهميش وعدم الاستعانة بالباحثين في مجالات العلوم السياسية والتخطيط الاستراتيجي كان له الأثر الأكثر فداحة، وبعض ذلك يرجع للجامعات ومراكز البحوث نفسها، إذ لا تتوفر في هذه الجامعات مراكز الأبحاث والتخطيط الاستراتيجي، وإن وجدت فهي لا تخلو من الضعف البائن والهزال المعرفي. وغير الجامعات نلحظ كذلك فقر البلاد وعوزها في مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية. من المهم القول إن اختلاط الحابل بالنابل في السودان وتسلط العقل البدوي أو الرعوي في تعبير الدكتور النور حمد، أدى لأن يُنصِّب كائنا من وجد في نفسه بعض الشجاعة خبيرا ومحللا استراتيجيا، وقد كشفت الحرب الأخيرة بالطبع مدى ضعفنا في هذا المجال. من المهم كذلك الاعتراف بضعف منتوجنا الفكري والأكاديمي في المجالات كلها، وعلى الأخص مجالات البحوث الإنسانية، وبعض أسباب ذلك هو ضعف لا يخفى لدى الكثير من المشتغلين على هذه العلوم في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية لأسباب عديدة ومختلفة منها انقطاع الاتصال بالعالم الخارجي، ومحدودية الأفكار والكسل الذهني الذي لن يضير الأستاذ الجامعي شيئا في ظل الشروط الميسرة للترقي وشروط النشر المتساهلة في المجلات السودانية والعديد من العربية، وكل هؤلاء الأساتذة أو غالبهم على الأقل، ينشرون بحوثهم باللغة العربية في انقطاع عن النظريات الكبرى في العالم في علم الاجتماع والعلوم المصاحبة. من البديهي كذلك الإشارة والتشديد على أن واحدا من أسباب الحروب في السودان هو تفشي الجهل والأمية وانسداد الأفق أمام قطاعات مقدرة من المجتمعات والشباب، وبالطبع يلعب التعليم السليم والمبني على الدراسات والحاجة الفعلية للدولة والمجتمع دورا مهما هنا في ردم هذه الهوة، ولكنه دور ظل مفقودا في السودان لأسباب مختلفة، وما سهولة استقطاب المقاتلين في هذه الحرب بالشعارات القبلية وإقصاء الآخر المختلف إلا واحدا من مظاهر هذه المسألة. وهي مسألة (أي الجهل وغياب التعليم أو سوئه إن وجد) كانت سببا في استمرارية الحروب ( وإن لم تكن سببا في اندلاعها بالضرورة- فهناك الأسباب البيئية وهناك الأسباب الإقليمية وتداخل القبائل في شريط السهل الافريقي، يمكن الرجوع إلى الكتاب القيم للدكتور محمود ممداني عن دارفور للمزيد من التفصيل)، كانت سببا في استمرارها أقول في الحواضن الاجتماعية للمجتمعات المتصدية للحرب في الخرطوم هذه المرة، ولكنها كانت تقوم بذلك في مناطقها بعيدا نسبيا عن مكامن الاستنارة المجتمعية النسبية في مدن السودان التي تلاشت فيها القبلية بصورتها الفجة إلى حد كبير.
حتى مارس من العام 2022 كان يوجد في السودان 34 جامعة حكومية (3 منها يشار إليها بذات الطبيعة الخاصة، وهي إفريقيا والرباط وكرري)، أضافة إلى نحو 101 من مؤسسات التعليم العالي الخاصة من جامعات وكليات. والتاريخ المشار إليه يعكس فقط الفترة التي كنت متابعا لمثل هذه المعلومات فيها، ولكن عددا من الكليات الخاصة قد تم ترفيعها إلى جامعات بعد ذلك، وكليات جديدة منحت تصديق ممارسة العمل في التعليم العالي مما يعني أن العدد أصبح أكبر من الرقم المشار إليه هنا.

التحديات التي تواجه التعليم العالي قبل الحرب ومن بعدها:
قبل الحرب عاشت مؤسسات التعليم العالي وواجهت واقعا متأزما فاقمت منه الأحوال السياسية في البلاد وما تلى ذلك من جائحة الكورونا، وسيستمر هذا التأثير ويتفاقم بعد الحرب بصورة أكثر وضوحا. سنحاول فيما يلي تفصيل بعض هذه التحديات ومناقشتها.
ثورة التعليم العالي في السودان والتوسع الكبير في المؤسسات وأعداد الطلاب:
يمكن اعتبار ما عرف بثورة التعليم العالي في السودان الحدث الأبرز والأكثر تأثيرا على مسيرة التعليم العالي في السودان. وبعيدا عن العدائية المفرطة لنظام الإنقاذ في السودان وفترة حكم الإسلاميين فيه، ينبغي الاعتراف بأن المسار الذي كان يسير عليه التعليم العالي في السودان وقتها كان قد فارق سكة التحديث ودخل في طور الانحدار مثله مثل غالب أو كل مؤسسات الدولة السودانية وقتها، فعلى سبيل المثال فمن جملة الطلاب الممتحنين للجامعات كان يتم استيعاب عدد محدود من المجموع الكلي، دون توفير أي مواعين لاستيعاب العدد الأكبر المتبقي من إتاحة التعليم الفني على سبيل المثال. وبحسب بلال والعماس (2014)، فإن الأعداد المقبولة بكل الجامعات الحكومية والأهلية للشريحة العمرية 18-24 سنة لم تكن تزيد عن 7%، بينما تقارب هذه النسبة %70 للشريحة العمرية نفسها في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن متوسطها للعالم العربي يصل إلى 15 % (وهذه النسب كانت في العام 2014 تاريخ المرجع المشار إليه). غير أن المعالجة التي تم اتباعها لم تكن بالحصيفة هي ذاتها إن افترضنا حسن النوايا، فقد كانت مبررات الحكومة وقتها للتوسع في التعليم العالي في السودان تتمثل فيما خرج به مؤتمر التعليم العالي الذي عقدته الحكومة بعد استيلائها على الحكم بعدة أشهر، والمتمثلة بحسب المؤتمر في قلة استيعاب المؤسسات التعليمية (6% كما ذكر في المؤتمر)، وعُدّ ذلك سببا للصفوية في الاختيار وقفل الباب أمام الشباب ومطامحه وآماله ومن ورائها آمال المجتمع العريضة (!)، وكذلك تمركُز المؤسسات التعليمية العليا في العاصمة مما حرم الأقاليم من إشعاعاتها الاجتماعية والثقافية والتنموية وحال دون أداء دورها في بسط الثقافة الشعبية (!)، وكذلك الزيادة المستمرة في أعداد الطلاب الدارسين بالخارج مما أضاف أعباء مالية على البلاد، و ضعف موارد التعليم العالي وتزايد أعبائه على الخزانة العامة مما أقعده عن الاهتمام ببنياته وهياكله الاستيعابية، وأخيرا ضعف الرابطة بين التعليم العالي وقيم المجتمع مادة ولغة رغم محاولات الإصلاح التي جرت في قطاع التعليم العام. ودون الدخول في التعليق على هذه الحجج التي لا تخلو من الوجاهة ولكنها كذلك لا تخلو من الانشائية المصاحبة لتبرير ما سيتم الإقدام عليه بعدها، يمكن القول ببساطة إن التوجه الأيديولوجي للنظام قد طغى على طرق المعالجة العلمية لهذه الاختلالات الحقيقية. وقد ترافق مع التوسع الكبير في فتح الجامعات الجديدة تشريد وفصل عدد كبير من الأساتذة السودانيين بدواعي الاختلاف السياسي ومعارضة النظام الانقلابي وقتها.
بعدها كانت هناك عدة محاولات للإصلاح ولكنها كانت تصطدم دوما بالقرار السياسي غير المراعي للأولويات الأكاديمية والعلمية، وعلى ذلك فقد استمرت الزيادة في مؤسسات التعليم العالي بوتيرة متصاعدة وإن خفّت حدتها في الجامعات الحكومية، ولكنها لم تخف بل تسارعت في مؤسسات التعليم الخاص. لقد قدر لي أن أكون لصيقا في فترة الحكومة الانتقالية ببعض الملفات في التعليم العالي فيما خص التعليم الحكومي والتعليم غير الحكومي، وواحدة من الفوائد المهمة التي خرجت بها من هذه التجربة هي إعادة النظر في المسألة بطريقة أكثر عقلانية ومنهجية، إذ لا يكفي الإكتفاء برمي كل اللوم والخطايا على النظام السابق كمسوغ لفشلنا في الإصلاح، كما لا ينبغي اعتماد الشعارات الكبيرة والرنانة كحلول للواقع المعقد في التعليم العالي الذي زاد من تعقيده تعقيدات الواقع السياسي والمجتمعي على الأرض. أذكر هنا كمثال تجربة جامعة شرق كردفان، وسأحاول أن أفرد مقالا منفصلا لهذه التجربة كمثال للعوار في التعليم العالي وكيفية التعامل والسعي لحله. أنشئت جامع شرق كردفان في العام 2016 بقرار من الرئيس الأسبق عمر البشير عند زيارته للمنطقة استجابة لطلب الأهالي هناك، بالطبع لا يمكن تصور أن الطلب كان عشوائيا أو مفاجئا أو أن الأمر جاء بمحض المصادفة، ولكن المسألة كانت خاضعة للتجاذبات السياسية والترضيات المناطقية وتوزيع الولايات. على كل أنشئت الجامعة دون معينات كافية وبعدد معتبر من الكليات وصل أو فاق العشر. انتهى الأمر بطلاب كلية الطب والتمريض إلى توزيعهم على العديد من الجامعات السودانية بنظام الاستضافة، وذلك بعد فترات طويلة من الاعتصامات أمام بوابة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمطالبات المتكررة. قبل ذلك ومن قبل الثورة كانت الوزارة قد وزعت طلاب الفرقة الأولى المقبولين بكلية الطب والتمريض للدراسة بجامعة الجزيرة على سبيل الاستضافة، وعليه ورغم دخولهم الجامعة في العامة 2016 فهم لم يتجاوزا السنة الثالثة حتى العام 2022. ينبغي هنا الإشادة بالسلوك الحضاري لطلاب الكلية وتهذيبهم ونصاعة طرحهم لقضيتهم، وذلك في تناقض مع طلاب جامعات أخرى اعتصموا أمام الوزارة مدفوعين بسند سياسي جهوي ومناطقي. تمثل مسألة طلاب جامعة شرق كردفان فصلا واضحا في عوار التنمية واختلالاتها في السودان، كما تقف شاهدا على كيف يمكن أن تضيع الحقوق المشروعة دون سند سياسي، وفي الحقيقة فإن الحقوق تضيع أيضا في حالة توفر السند السياسي ولكن بسبب انتهازية السياسيين هذه المرة. واحدة من الملاحظات المهمة بالنسبة لي كانت ما قاله أحد الطلاب النابهين ردا على استفزاز وجه له بضعف نسبته التي أدخلته لهذه الجامعة، إذ كان رده بأن مدرسته الثانوية كلها في منطقته لم يكن بها غير اثنين من الأساتذة. طالب آخر رد بأنه وأهله تقدموا للالتحاق بهذه الجامعة ثقة في ولاية وزارة التعليم العالي والمسئولين فيها من الأساتذة والعلماء، الذين ما ظن هو وأهله أنهم قد يغامرون بفتح جامعة دون أي معينات، وبالطبع فإن هذه الثقة الآخذة في التآكل هي بعض ما ورثته الدولة الوطنية من التعليم الإنجليزي قبل استقلال البلاد. يطرح ذلك بالطبع تساؤلات عديدة عن دور الحكومة ولكن قبل ذلك عن دور أبناء المنطقة وممثليها في مستويات السلطة المختلفة. ولكنه بالمقابل ينبغي أن يغير نظرتنا إلى سياسات التمييز الإيجابي في القبول وضرورة توزيع الفرص بعدالة. إن المسألة أكثر تعقيدا على الأكيد مما أعرض له هنا، ولكن ما يذكر هنا يذكر فقط لعلاقته بمثار الحديث هنا عن تعقيدات الإصلاح في مجال التعليم العالي في السودان.
يمكن أن نخلص هنا إلى أن ثورة التعليم العالي وإن كانت ضرورية في وقتها لمعالجة وضع التعليم العالي في البلاد، وإن اختلفنا في طريقة المعالجة، إلا أن إصلاح الحال في حالنا الراهن لن يكون بالضرورة بالتنكر لكل ما فعلته الإنقاذ أو الاكتفاء برمي اللوم على النظام السابق ثم محاولات المعالجة بنفس طريقته ولكن في اتجاه معاكس يستبطن العداء المجرد. إذ ليس من المعقول أن تكون السعة الاستيعابية قبل التغييرات التي سميت بثورة التعليم العالي لفرع جامعة أجنبية في الخرطوم أكبر من السعة الاستيعابية للجامعات السودانية وقتها مجتمعة. وعلى كل حال فهناك عدد من الدراسات الرصينة في انتقاد ثورة التعليم العالي واقتراح الحلول لتلافي القصور فيها، بعضها أو العديد منها مبذول على شبكة الانترنت.
سياسة التعريب:
تبنت الحكومة في بدايات عهد الإنقاذ سياسة تعريب المناهج في الجامعات السودانية كواحدة من توصيات مؤتمر التعليم العالي الأشرنا إليه عاليه، واعتُبرت سياسة التعريب فيما بعد واحدة من منجزات ثوة التعليم العالي. لقد كانت هذه السياسة (التعريب)، دون شك واحدة من أهم أسباب تدهور التعليم العالي في السودان وأدت بتدريج متسارع إلى انقطاع الجامعات السودانية طلابا وأساتذة عن العالم. وعلى كل حال فقد كان مستوى اللغة الإنجليزية قد بدأ بالتدهور قبل ذلك في المدارس الثانوية والوسطى لأسباب مختلفة. لقد كان الأوفق أن تستمر اللغة الإنجليزية لغة للتدريس في كل المراحل جنبا إلى جنب مع اللغة العربية. وبالنظر إلى المزايدات السياسية والتحشيد الجهوي والقبلي في بلد كالسودان، فقد استغلت الحركات المتمردة ضد الدولة (وكذلك الكثير من المتعلمين المعارضين لفكرة العروبة في السودان أو لنظام الإنقاذ لأسباب مختلفة ومن منطلقات مختلفة)، استغلوا هذه المسألة كذريعة للتحشيد وادعاءات التهميش ومحاولات فرض العروبة على المجتمعات المحلية، مما أدى في النهاية إلى مزيد من التشرذم الاجتماعي في الجامعات بين الطلاب.
ما يهمنا هنا هو الجانب الأكاديمي، فمع فرض التعريب انقطعت صلة الطلاب الجامعيين السودانيين بالكتب والدوريات المرموقة عدا توفيرها بالاجتهاد الشخصي، فكان من المألوف عطفا على ذلك أن تنتشر الكتب المصورة والمقرصنة الإنجليزية وتتوفر، ولكن التدريس داخل القاعة كان باللغة العربية، وفي أفضل الأحوال بلغة هي مزيج من العربية والانجليزية في بعض الكليات. كان تأثير التعريب في مجالات العلوم الإنسانية أكثر وضوحا، ففي المجالات الطبية كان من الصعوبة الاعتماد على الكتب المعربة القليلة في مجملها وغير المواكبة في مجال يتغير بسرعة كبيرة. أما في المجالات الإنسانية فقد أدى اعتماد التعريب إلى انقطاع الطلاب عن النقاشات والسجالات التي شهدها العالم في فترة التغيير الكبير في التسعينات وما بعدها في مجال نظريات العلوم السياسية وعلم الاجتماع وغير ذلك. لقد كان من سوء طالع السودانيين أن تترافق ثورة التعليم العالي والتعريب الذي رافقها مع ثورة الاتصالات والمعلومات في العالم، إن السنوات الثلاثون التي بقيت فيها الإنقاذ كانت هي السنوات التي انطلق فيها العالم الأكاديمي متخطيا منجزاته لأكثر من مائتي عام سبقت (وهذه رؤية شخصية لا يتوفر لها مرجع)، بينما تقهقرنا نحن، ويتطلب الأمر منا الآن مجهودا كبيرا للحاق بالعالم أو على الأقل محاولة ذلك. جدير بالذكر هنا أن الاتجاه إلى التعريب لم يرافقه تطور في إلمام لطلاب باللغة العربية التي تدهور مستوى الطلاب- بل والأساتذة- فيها هي ذاتها تدهورا كبيرا. لم يصاحب سياسة التعريب في السودان مع الأسف أي مجهود للترجمة من اللغات الأجنبية، لغات العلم في هذا العصر، وعلى الأخص اللغة الانجليزية، فابتعدت الجامعات السودانية عن مصادر المعرفة مرتين: مرة بالكتب العربية الضعيفة والركيكة، ومرة ثانية بالابتعاد عن الحصول على المعرفة من مظانّها الحقيقية ومواكبة العلم في المجالات المختلفة. في بداية الاتجاه للتعريب استجلبت الحكومة وقتها عدداً كبيراً من الكتب العربية في المجالات المختلفة، من سوريا ومن العراق بالتحديد، الدولتان العربيتان اللتان تبنتا تعريب العلوم أكثر من غيرهما. في المجال الطبي على سبيل المثال انتهى الأمر إلى ما نراه الآن من التدريس بلغة هجين تتفاوت هجنتها بين العربية والانجليزية بحسب مستوى الأستاذ نفسه في اللغة أحياناً وحسب مستوى الطلاب في غالب الأحيان. أما في المجالات الانسانية فقد قُبرت اللغة الانجليزية إلا لدى قلة قليلة من الطلاب النابهين وفي تخصصات اللغة نفسها.
الممارسة السياسية في الجامعات السودانية:
في مسألة الأحوال والصراعات السياسية، مثّل الطلاب الجامعيون في السودان دائما وقودا للثورات الشعبية واستُغِلوا من قبل الأحزاب والتنظيمات في تحقيق مطامع وأهداف هذه المجموعات، دون فرق أو اختلاف في ذلك بين الأحزاب التقليدية أو العقائدية بل وحتى الحركات المسلحة المحاربة للدولة. وعلى وجه العموم فلم تكن هناك محاولات جادة لفصل التعليم عن السياسة أو قل عن استغلال الطلاب في السياسة في الجامعات الحكومية، أما في مؤسسات التعليم العالي الخاصة فقد كان من الشروط الأساسية لاستمرار الطالب بتلك المؤسسات أن يوافق الطالب، كتابيا أو ضمنيا، على عدم ممارسة النشاط السياسي داخل الجامعة، وهي مسألة كان لها انعكاس محمود على استقرار هذه المؤسسات إلى حد كبير.
يتحجج الرافضون لتحجيم النشاط السياسي في الجامعات الحكومية بأن ذلك سيوقف النمو السياسي ويحجم الوعي عموما لدى هؤلاء الطلاب، ويستدلون على ذلك بالتاريخ السياسي للرموز السودانية في المدارس الثانوية وفي الجامعات بعد ذلك. في اعتقادي أن ذلك كان سيكون سببا كافيا لمنع النشاط السياسي في الجامعات بالنظر إلى ما توفر لدينا من السياسيين! من المؤسف القول إن خبرة هؤلاء السياسيين هي ما أوصلتنا إلى ما نحن فيه الآن، بل وحتى في ظل أزمتنا السياسية الراهنة المصاحبة للحرب المستعرة نجد أن السياسيين الظاهرين فيها هم خريجو مدرسة الممارسة السياسية في الجامعات السودانية، بئس الطالب والمطلوب، فما فتئت السياسة عندنا تدار بأسلوب أركان النقاش والهزيمة الكلامية للطرف الآخر. لقد حدثت أزمات وحروب متعددة في دول الإقليم وفي الدول البعيدة عنا، ولكن اللجوء إلى عواصم دول الجوار والعواصم البعيدة والطلب منها التدخل، بل وإدخالها في تفاصيل الأزمة السياسية السودانية لم نشاهده من قبل.
ترافق الانخراط السياسي للطلاب أو لفئة قليلة منهم، مع تصاعد العنف الطلابي في الجامعات السودانية إلى درجة القتل في بعض الأحيان. وترافق ذلك بالطبع مع إغلاق متكرر للجامعات وتعطيل للدراسة، ولم أقع في الحقيقة على دراسة لإحصاء ذلك أو لحساب التأثيرات المختلفة للعنف الطلابي أو لإغلاق الجامعات، كان ذلك التأثير اقتصاديا أو نفسيا على الطلاب أو حتى بحساب التأثير الاقتصادي على الدولة في جامعات تدعمها الدولة.
وفي الحقيقة وكما هو الحال في واقع الحياة السودانية فإن المنخرطين في العمل السياسي الحركي هم قلة قليلة من الطلاب لا تتعدى الثلاثة أو الأربعة في المئة، بل وربما تقل عن الواحد في المائة (تقدير شخصي)، ولكنها كما في الواقع خارج الجامعة فهي الأعلى ضجيجا وتستعين بامتداداتها خارج الجامعة عند أي منعطف. لقد شهدنا أسوأ الأمثلة على ذلك في فترة حكم المؤتمر الوطني في استعانة طلابه بقوة الدولة من شرطة وأجهزة أمنية، وفي مقابل ذلك فقد استعان طلاب الحركات المسلحة بالذات في فترة صراعهم مع طلاب المؤتمر الوطني بتنظيماتهم المسلحة، وتصاعدت هذه المسألة في فتراتها الأخيرة إلى حد أن شابتها تهم الاصطفاف العنصري.
لقد كانت التنظيمات الطلابية في أغلب حالاتها عبارة عن واجهات للجماعات والأحزاب السياسية في السودان، والتي بالمقابل كانت تتكفل بدعمها وتمويلها، أما الجمعيات الطلابية غير المرتبطة بهذه التنظيمات أو الجماعات، مثل الجماعات الثقافية على سبيل المثال، فسرعان ما كانت تختفي لأسباب عديدة ليس أقلها أهمية انعدام التمويل. وإذ مثّلت الاتحادات الطلابية اللسان المعبر عن الأحزاب خارج الجامعة، فقد كانت انتخابات هذه الاتحادات تحظى باهتمام ومتابعة من قبل المجتمع بأكمله، خاصة في فترات الحكم الدكتاتوري المتطاول في السودان، وكان الفوز بالاتحاد يمثل للأحزاب والتنظيمات والجماعات المعارضة للحكومة، وللحكومة في ذات الوقت، حدثا مهما ترصد له الميزانيات والإعلام والتجهيزات، بل وتتدخل فيه الحكومة أو النظام الحاكم بأجهزتها لضمان أن تأتي النتيجة لصالح من يمثلونها من الطلاب، نزاهة أو بالتزوير كما في الكثير من الحالات. بالطبع يعكس ذلك مظهرا من مظاهر اختلال الممارسة السياسية بل وممارسة الحكم في السودان، فالدولة أو الحكومة التي من المفترض أن لديها اهتمامات أكبر من ذلك في التنمية وفي الحوكمة وفي تطوير المؤسسات وفي النهضة على وجه العموم في بلد كالسودان بمعدلات الفقر المرتفعة فيه ومعدلات الأمية العالية ومحدودية الوصول إلى خدمات المياه والكهرباء، وغير ذلك من مؤشرات التنمية وحقوق الانسان، نجد هذه الدولة مهتمة بفوز طلابها وحصولهم على مقاعد اتحاد الطلاب. واحد من أسباب ذلك في رأيي أن الحاكمين أنفسهم والممسكين بمفاصل الدولة هم خريجو مدرسة التهريج السياسي هذه نفسها وخريجو مدرسة أركان النقاش في الجامعات، تخرجوا منها وتسلّطوا على الدولة ولكن عقلياتهم ظلت هي هي، وفهمهم للسياسة ظل في مربع إقصاء الآخر المختلف وفرض الرؤية الأحادية وأحلام تغيير العالم. يرى الكرسني في كتابه "العنف الطلابي- دراسة حالة: الجامعات السودانية، 2006"، أن الحركة الطلابية السودانية تتميز بخاصية جماعة الضغط لا جماعة المصلحة، مما يجعلها بحسب رأيه ذات تكيف سياسي عال، وأن غياب التقاليد الراسخة في التداول السلمي أدى لأن تصبح الأقلية من الطلاب المنتمية سياسيا إلى قوى رديفة لهذه التنظيمات في الجامعات تحركها لأهدافها وتدفع بها للعنف خدمة لمصالحها. ويرى كذلك أن سلبيات سياسة زيادة أعداد الطلاب المقبولين زادت من وتيرة العنف والإحباط واليأس لدى الطلاب وتهيئتهم لتقبل العنف كوسيلة للتغيير، كما يرى أن التعامل الإعلامي مع أخبار العنف الطلابي ساعد على نشرها وتمددها ومن ثم قبولها كوسيلة لإحداث التغيير. نتفق مع الكرسني بالكلية في ذلك وفي أن الحركة الطلابية السودانية تميزت بكونها جماعة ضغط لا جماعة مصلحة، وهو ما لم يستطع الطلاب الخروج من إساره حتى بعد سقوط نظام الإنقاذ القابض في ابريل من العام 2019، فبسقوط الإنقاذ فقد الجناح الطلابي للحركة الإسلامية الدعم الحكومي وحماية الدولة الذي تمتع به قبل ذلك، وفي الحقيقة فقد مارس الإسلاميون في الفترة الأولى من الثورة نوعا من الانزواء ومراقبة المشهد، ربما فرض عليهم ذلك وقتها حالة العداء الشديد للنظام السابق وتوقعهم للأسوأ، ولكن التنظيمات والأحزاب السودانية المعارضة بالمقابل لم تكن لها كما اتضح بعد ذلك أي خطط محددة أو نظريات للفترة ما بعد الإنقاذ، فتبنى قطاع كبير من المنتمين إليها سياسة رمي اللوم في كل ما حدث ويحدث على النظام البائد دون تقديم الحلول، أو تقديم حلول لم تستطع إثبات منفعتها. انطبق ذلك على الحركة الطلابية في الجامعات، وبالاختفاء الواضح للطلاب الإسلاميين بعد محاولات محدودة للعنف الطلابي، وجدت تنظيمات الطلاب من الاتجاهات الأخرى نفسها في ذات موقف أحزابها، ويعكس ذلك بالطبع كونها امتدادا أو ذراعا طلابيا لهذه التنظيمات. ظهرت وقتها ما عرفت بتجمعات الطلاب، كامتداد للتجمعات المهنية التي تكتلت وكونت تجمع المهنيين السودانيين الذي كان له دور واضح في قيادة الثورة ضد نظام البشير. لم تكن تجمعات الطلاب في الإطار العام ذات انتماءات سياسية صارخة أو واضحة، فهي كمقابل لتجمع المهنيين ضمت أطيافا مختلفة من الطلاب غير ذوي الانتماءات السياسية الواضحة أو الصارخة وكان الأغلب منهم بلا انتماءات سياسية أصيلة. ولكن تجمعات الطلاب سارت على ذات النهج المتكرر في السياسة السودانية، بإعلائها لفكرة أقصاء الآخر المختلف بالكلية عوض محاولة الوصول إلى بعض المشتركات معه أو مع بعض أجنحته على الأقل. الأكثر تأثيرا من ذلك كان تعامل تجمعات الطلاب مع إدارات الجامعات الجديدة باعتبارها السلطة التي يجب معارضتها في كل الأحوال، وذلك نمط شائع في أدبيات السياسة السودانية، المعارضة الدائمة للسلطة أيا كانت وافتراض سوء النية في السلطات تحت أي ظرف. إضافة إلى ذلك تم استغلال هذه التجمعات الطلابية من قبل التنظيمات السياسية للأساتذة في الجامعات، بل إنه في بعض الحالات تم استغلال الطلاب وتجمعاتهم في تصفية الخلافات الشخصية لهؤلاء الأساتذة ضد من تولوا المناصب الإدارية دون أن يكون خلف ذلك أي خلاف سياسي أو أيديولوجي.
للممارسة السياسية في الجامعات السودانية بل وفي الثانويات قبل ذلك منذ فترة الاستعمار البريطاني، لهذه الممارسة تاريخ طويل وأدبيات مصاحبة ليس هنا مجال عرضها، ولكن السمة البارزة لهذه الممارسة كانت في الاستغلال الممنهج من قبل الأحزاب والتنظيمات السياسية، دون أن يكون لهذه الامتدادات الطلابية أي حرص على الحقوق الطلابية إلا بما يخدم الأهداف الكبرى للحزب المعني في الاستقطاب وفي تحقيق المكاسب. لقد لوّثت هذه الممارسات أفكار الطلاب وأنتجت جيلا يظن أن نهاية العالم خلف الباب، وادخلت في عقولهم أوهام الاستهداف من الآخر، ما تطور في النهاية إلى قناعات راسخة باستهداف الخارج للسودان في موارده وفي عقيدته وغير ذلك. بالطبع ليست السياسة الدولية مثالية أو ذات قيم عليا، ولكن الركون إلى الإنكفاء على الذات والانقطاع عن المنجز الإنساني في العلوم الإنسانية والتمترس خلف مقولات الخمسينات وشعارات الستينات وما بعدها من قبل أن يصبح العالم بما هو عليه الآن من انفجار ثورة التواصل والمعلومات، كل ذلك هو ما أورثنا ما نحن فيه الآن. وللتدليل على ذلك، يمكنك بكل البساطة الدخول إلى صفحات العديد من الناشطين السياسيين في الجامعات السودانية في التسعينات وما بعدها على موقع الفيسبوك على سبيل المثال، ورغم أنهم صاروا رجالا كبارا الآن، وبعضهم تبوأ مناصب رفيعة سياسية كانت أو تنفيذية، فستجدهم أسرى لذات الحكايات القديمة ولذات اشواق إقصاء الآخر وقيام دولة الرفاه التي يتوسلها بعضهم بإقصاء السودانيين من اليسار وبعضهم بإقصاء السودانيين من اليمين، ولا أحد يأبه لما صارت إليه البلاد. يعتقد كاتب هذا المقال إن واحدا من أسباب انحطاط الممارسة الحزبية في السودان هو ابتعاد المثقفين وأصحاب الأفكار عن الأحزاب فتسلقها من لا فكر لهم بل ولا أخلاق.
ليس الغرض من هذا الجزء من هذه الكتابة استعراض وتأريخ العنف الطلابي في الجامعات السودانية، ولئن ركزنا فقط على التاريخ القريب والأحداث المعاصرة فمرد ذلك لتوضيح الفكرة، ولمزيد من التعمق في هذا الأمر يمكن الرجوع إلى كتاب الدكتور الكرسني المشار إليه وبعض المقالات والدراسات المتفرقة.
الجامعات كمنابر للاصطفاف الجهوي:
في الفترات الأخيرة من حكم الإنقاذ تكاثرت بوضوح ظاهرة الروابط القائمة على الارتباط الجهوي أو الإثني. لم تكن هذه الروابط والجمعيات وليدة فترة الإنقاذ، فقد كانت أقدم من ذلك ولكنها في فترة الإنقاذ وخاصة المتأخرة منها وبعد الخلافات بين الإسلاميين أنفسهم اتخذت بعدا جهويا أكثر من ذي قبل، واستمر الأمر إلى ما بعد الثورة. أفرز الاستقطاب الجهوي وتصاعده بعد الثورة واقعا جديدا في الجامعات السودانية وإن لم يتم الانتباه له أو دراسته بتعمق، فمع توقيع الحركات المسلحة لاتفاقيات سلام مع الحكومة السودانية دون أن تسقط هذه الحركات خطابها الاستقطابي المبني على الشكوى المستمرة من المظلومية والتهميش، تصاعد الاصطفاف الجهوي كمعادل لما رآه الكثيرون من الطلاب من مناطق أخرى لا مساواة بل وظلم وقع عليهم بتفضيل طلاب أقاليم الحركات في المصروفات الدراسية وفي قوانين القبول للجامعات. كان من بعض بنود الاتفاقيات التي طبق بعضها استعصى تطبيق بعضها الآخر، تخصيص نسبة معينة لطلاب دارفور في كل الجامعات الاتحادية ونسبة أكبر في جامعات الولاية، وكذلك تخصيص نسبة معينة من المقاعد في كليات بعينها يتم القبول فيها بنسبة أقل من نسبة القبول العامة دون دفع مقابلها برسوم القبول الخاص كما سيجري على بقية الطلاب السودانيين. لم تكن مسألة التمييز الإيجابي بدعة في قوانين التعليم العالي في السودان، وفي الحقيقية فإن لها من الإيجابيات الكثير لو كانت طبقت بعدالة ونزاهة، ولكن البدعة هنا كانت في طريقة فرضها وتمويلها وفي التجاوزات التي صاحبتها في الاختيار والترشيح. كان التمييز الإيجابي متبعا من قبل مع الطلاب من جنوب السودان وما عرف بالمناطق الأقل نموا وقتها، وعلى كل حال تحتاج هذه التجربة نفسها للدراسة والتقييم، فمع نجاعة الفكرة وأهميتها إن طبقت بطريقة سليمة، فقد كان يتم التلاعب بها ويستفيد منها طلاب من تلك المناطق ولكنهم ربما لم يروها في حياتهم أو غادروها في عمر مبكر، مما ينسف الفكرة برمتها من الأساس.
مثّل الاصطفاف الجهوي المتصاعد والمتأثر بخطاب المظلومية (والمظلومية المضادة التي لم يتبنها حزب أو جماعة بصورة رسمية ولكنها تنامت بعد ذلك حتى تمظهرت في أفكار انفصالية مضادة)، مثل موردا جديدا للعنف الطلابي متجاوزا للأطروحات السياسية هذه المرة وإن لم يتجاوز التحشيد من قبل الجماعات والتنظيمات خارج الجامعة، فاستمر الاستغلال السياسي للحركة الطلابية.

التوسع غير المبرر في التعليم العالي:
ترافق مع الزيادة الكبيرة في عدد الجامعات والكليات زيادة كبيرة هي الأخرى في عدد الطلاب والطالبات المقبولين. لم تكن هذه الزيادات مرتبطة بالحوجة الفعلية لسوق العمل الداخلي أو ذات علاقة باحتياجات أسواق العمل المجاورة أو سوق العمل العالمي على وجه العموم واتجاهات العمالة فيه والعمل. كانت زيادة الأعداد واحدة من الأهداف السياسية لثورة التعليم العالي ومما عُدّ من منجزات ثورة الإنقاذ على وجه العموم، وفي واحد من تصريحاته قال الرئيس الأسبق عمر البشير إن خريجي ثورة التعليم العالي هم الأفضل في العالم (نوفمبر 2018)، لا يمكن بالطبع أخذ ذلك على محمل الجد أو إهدار الوقت في تفنيده، ذلك على الرغم من أن الرئيس وقتها كان جادا في ذلك وفق مقاييسه ورؤيته للعالم التي تخلو بالطبع من معايير الجودة والمقاييس العلمية. حرصت وزارة التعليم العالي في عهد الإنقاذ على إظهار الزيادة السنوية في عدد الطلاب المقبولين كإنجاز سياسي، ولكن ذلك لا ينبغي أن يرفع اللوم عن الجامعات نفسها، بالطبع كان على رأس هذه الجامعات الموالون للنظام الحاكم، ولكن سياسة زيادة الأعداد كان يتبناها الكثير من الأساتذة حتى ممن هم ضد الإنقاذ، واستمر ذلك حتى بعد ذهاب الإنقاذ. في جامعة الزعيم الأزهري على سبيل المثال وفي عهد الحكومة الانتقالية اقترحت إدارة الجامعة تخفيض عدد الطلاب بنسب متفاوتة في الكليات المختلفة، فاعترض جميع عمداء الكليات والكثير من أساتذتها عدا كلية واحدة أو كليتين. يوضح ذلك بطريقة أو بأخرى العقلية التي تدير مسألة التعليم العالي في السودان وأن الأمر ليس مرتبطا فقط بالنظام السابق، بل وحتى عند صدور قرار إلغاء مطلوبات الجامعة كان العدد الأكبر من الأساتذة منقسما في الرأي. كان يمكن عَدّ ذلك مؤشرا إيجابيا لو كانت المسوغات والأسباب لهذه المواقف أكاديمية أو علمية، ولكنها في الغالب كانت دوافعها شخصية. الوزارة نفسها في الفترة الانتقالية كانت لا تحبذ تقليص الأعداد لأسباب غير أكاديمية، إذ تعرضت الوزارة للضغوط من قبل الحاضنة السياسية للحكومة إرضاء للتيار الشعبوي غير العقلاني في الشارع السوداني. إنه لمن الصعب تصور أن تتقدم البلاد طالما ظل العقل السياسي مرتهنا للمطالب الشعبوية غير المنطقية. كذلك، فقد ظلت واحدة من الطرائق الموروثة لتوزيع الدعم على الجامعات الرجوع إلى عدد الكليات وعدد الطلاب في الجامعة المعنية، مما يعني أن أي تقليص للكليات أو للطلاب سيتبعه تلقائيا تقليصا في الميزانية الممنوحة للجامعة، وهذه المسألة استمرت حتى بعد سقوط الإنقاذ.
المجتمع نفسه متناقض في هذه المسألة، فمع الصراخ والضجيج العالي والشكوى من انهيار التعليم في عهد الإنقاذ يرفض ذات المجتمع تقليص أعداد الطلاب المقبولين أو تقليص أعداد الجامعات أو الكليات، بل إنه في بعض المجتمعات تُعد الجامعات مكاسب تنموية وجهوية غض النظر عن مستويات تلك الجامعات. وفي شأن رد فعل المجتمع يمكننا الرجوع بالذاكرة إلى نتيجة القبول قبل الأخيرة للجامعات، إذ تمت معالجة نتيجة الشهادة السودانية بطريقة مختلفة عما كان سائدا قبلها فارتفعت نسب الطلاب ذوي المعدلات العالية ارتفاعا كبيرا، ترتب على ذلك أن النسبة المطلوبة للقبول بكلية معينة صارت 96% على سبيل المثال بينما كانت 90% في العام الفائت على سبيل المثال كذلك. مباشرة تبنى المجتمع نظرية المؤامرة وسوء التصرف والتدبير من القائمين على الأمر في الوزارة، واستضافت الإذاعات والتلفزيونات الطلاب وأولياء أمورهم الذين لم يفهموا كيف أن أبناءهم الحائزين على 94% مثلا لن يدخلوا الكلية التي دخلها أقرانهم في العام الفائت بنسبة أقل من ذلك؟ بل صار من شبه الحقيقة اقتناع هؤلاء الناس بأن ذلك حدث لأن حكومة الثورة قد ضاعفت أعداد طلاب القبول الخاص على حساب أعداد طلاب القبول العام! كل ذلك الهراء لا معنى له في الحقيقة، فعدد المقاعد لم يتغير في كليات الرغبة الأولى، فإذا كانت هذه الكليات قد قبلت خمسة آلاف من الطلاب في العام الفائت، فإنها ستقبل ذات الرقم في العام التالي ولكن بنسب قبول أعلى. بمعنى آخر فإن ذات الطالب المحرز للنسبة المئوية 94% لهذا العام كانت نسبته لتكون 88% مثلا في العام الفائت، وهي بالطبع لن تتيح له دخول الكلية المعنية. لم يخرج أحد لقول ذلك وارتفع سقف المزايدات والاتهامات التي وجدت فيها التنظيمات السياسية بل ومنظمات المجتمع المدني ملعبا جديدا لإثبات فشل الحكومة وانحرافها عن أهداف الثورة التي كان يظن كل فصيل أنه الوصي عليها وأنه وحده القمين بتنفيذ شعاراتها بأقصاء أعدائه هو بالذات!
لم يكن التوسع الكبير في عدد المقاعد المتاحة للقبول منجزا إيجابيا في كل الأحوال، وهو ليس منجزا بأي حال من الأحوال في ظل التوسع العددي دون توسع في المعينات اللازمة من البنيات التحتية باختلافها من القاعات والمقاعد والمعامل والمرافق وكذلك الهيئة التدريسية. من جهة أخرى لم يعن هذا التوسع في المقاعد المتاحة للقبول توسعا أو زيادة في عدد المقبولين بالضرورة، وفي مقالنا السابق المنشور في سودانايل الالكترونية (لماذا ليس هناك أمل في صلاح قريب للتعليم العالي في السودان! 11 يونيو 2022)، كنا قد تعرضنا لهذه المسألة، وأوردنا مثالا على ذلك أن العديد من الكليات بلغت نسبة المقاعد الشاغرة فيها بعد إعلان نتيجة القبول للدور الأول أرقاما وصلت إلى 97 % من المقاعد المتوفرة أو المتاحة للمنافسة! وأن كليات ذات أهمية في بلد كالسودان مثل كليات الزراعة لا تمتلئ مقاعدها كذلك من الدور الأول بل ولا تتعدى النسب المؤهلة للالتحاق بها 50% عدا في جامعة الخرطوم إذ تصل إلى 65%! وليست كليات التربية رغم أهميتها البائنة بأفضل من ذلك كثيرا في هذه التفصيلة. بالطبع لذلك أسبابه العديدة ولكن ليس هذا مجال النقاش هنا. ولكن ما يهمنا هنا أن ذلك يشير بوضوح إلى أن التوسع في إتاحة المقاعد للقبول لم يصاحبه بالضرورة توسع في القبول والتحاق الطلاب بكليات معينة، كما يشير إلى أن سياسة فتح كليات جديدة في الجامعات أو الاستمرار في الكليات القائمة لم يصاحبه دراسة للحاجة الحقيقية لهذه التخصصات أو لاتجاهات الطلاب في التخصص.

واقع الجامعات السودانية من حيث البنية التحتية:
من قبل اندلاع الحرب الأخيرة عانت الجامعات السودانية من توفر معينات البنى التحتية، وعلى ذلك يمكن تصور ما سوف تواجهه هذه الجامعات في المناطق المتأثرة بالحرب من صعوبات في ظل ما شاهدناه من بعض ما تسرب للناس من الصور والفيديوهات القصيرة من الدمار الذي أصابها والسرقات والنهب الذي طالها وحريق المكتبات وغير ذلك. فقد أظهرت بعض المقاطع الدمار الذي أصاب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في مقرها بالخرطوم، ومقاطع أخرى أظهرت جنود قوات الدعم السريع وهم داخل المجمع الطبي لجامعة الخرطوم ومقطعا آخر لهم وهم في بعض مباني جامعة النيلين، وبالطبع كان هناك الصور التي انتشرت عن حريق واحدة من أغنى المكتبات السودانية، مكتبة مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بالجامعة الأهلية بأمدرمان، لم يخطر ببال القوات التي أحرقت المكتبة واللصوص الذين نهبوا الجامعة الرمزية المتمثلة في اسم الراحل محمد عمر بشير بالطبع، ولكن ذلك ما حدث.
من قبل ذلك كانت البنى التحتية في الجامعات السودانية تتفاوت وتختلف. في بعض الجامعات، قامت الجامعة في الأساس على مبان كانت يوماً ما مدرسة ثانوية أو حتى متوسطة. وبعد تحول هذه المدارس إلى جامعات فلا تزال العديد من فصول المدارس القديمة في أماكنها وبهيئة تشبه إلى حد كبير هيئتها الأولى عند إنشائها في خمسينات القرن الماضي أو ستيناته عدا بعض التحسينات الطفيفة ثم تسميتها بالقاعة رقم كذا عوضاً عن الفصل كذا. كذلك، تقوم بعض مباني الكليات في بعض الجامعات على مدارس أو جزء من مدارس لم يتم تمليكها للجامعات بصورة نهائية، وبعض الجامعات تقوم باستئجار مبان للتوسع فيها. وباستثناء عدد محدود للغاية من الجامعات العريقة والقديمة في السودان، فإن كل الجامعات المتبقية لم تقم على أساس سليم لجهة البنية التحتية.
ليس الغرض من هذه المقالة استعراض تفاصيل انهيار البنى التحتية أو انعدامها ولا حتى حصرها، فذلك يتطلب دراسة متأنية تعتمد على الإحصاءات العلمية. إن التفاصيل في هذه الجزئية مليئة بما يصعب تصديقه في بعض الأحيان وبما يكشف عن العقلية التي تحكمت في مسار التعليم العالي في أحايين أخر. لم تعد البنية التحتية في عالم اليوم تعني محض المباني والمرافق، وهذه على الرغم أنها من الأساسيات فإن غالب أو كل الجامعات السودانية تعاني الأمَرّيْن فيها. يشمل ذلك المباني نفسها وتهيئتها من التهوية ووسائل العرض والتدريس، كما يشمل المرافق المصاحبة من المرافق الصحية والخدمية على وجه العموم. قلت لم تعد البنية التحتية تعني محض ذلك إذ صارت تشمل في عالم التعليم اليوم خدمات الانترنت والمكتبات الالكترونية والمراجع الحديثة والتعليم الالكتروني.
في مجال خدمات الانترنت عانت الجامعات السودانية على وجه العموم قصوراً كبيراً يتفاوت من جامعة إلى أخرى ولعل الوضع الصحي المترتب على جائحة الكورونا مؤخراً كشف الكثير من حالنا المعلوم بالضرورة. وفي هذا الإطار فلا تزال العديد من الجامعات غير قادرة على توفير الوصول إلى خدمات الانترنت إلى أساتذتها ناهيك عن توفير هذه الخدمة للطلاب. وحتى في الجامعات التي نجحت نسبياً في ذلك فلا تزال تواجه مشاكل أخرى مرتبطة بالخدمة، من السعات المتاحة وسرعة الشبكة وغير ذلك من الصعوبات المرتبطة بالدولة عموما، وأخيراً الارتفاع الكبير في أسعار الخدمات عند مقارنتها بالدخل المحدود والمنخفض للعاملين في التعليم العالي والطلاب بالطبع.
أما في مجال التعليم الالكتروني فإن ما كشفته الجائحة ليس ضعف بنيتنا التحتية في هذا المجال فقط، بل وكذلك ضعف التخطيط لدينا وسيطرة العقليات الممانعة للتغيير حتى لدى الطلاب أنفسهم ناهيك عن الأساتذة. لا توجد بالسودان جامعة واحدة نجحت في تطبيق التعليم الالكتروني بطريقة منهجية سليمة، فإذا استثنينا بعض المحاولات الفردية والمعزولة لبعض المهتمين من أعضاء هيئة التدريس ببعض الجامعات السودانية فسنجد أن محاولات جامعاتنا لم تتعد التعليم عن بعد وليس التعليم الالكتروني المتزامن. ولهذه المسألة أسباب متعددة لا مجال لمناقشتها هنا. لم يعد التعليم الالكتروني في التعليم العالي في عالم اليوم ترفا أو مظهرا قشريا من مظاهر العولمة. لقد أصبح التعليم الالكتروني من أساسيات العملية التعليمية في عالم اليوم، إن لم يكن للمحاضرات الراتبة فأقله للسمنارات والمؤتمرات التي يشارك فيها مشاركون من خارج البلد المعني. ورغم أن هذا النمط من الاستفادة من التكنولوجيا في التعليم كان قد بدأ منذ وقت مبكر فيما عرف بالتعليم عن بعد، مرورا بالمراحل التي استخدمت فيها أشرطة الفيديو والأقراص الصلبة في تسجيل المحاضرات، وكذلك الاستفادة من خدمات التلفزيونات والاذاعات في ذلك، إلا أن الطفرة الكبرى في هذا النمط من التعليم كانت في فترة الكورونا وما بعدها، حيث تطورت البرامج الموجودة واستحدثت برامج جديدة.
أما في مسألة المراجع الجامعية فأنه من المؤسف للغاية ألا تتوفر المكتبات الجامعية السودانية على منتوج علمي أكاديمي معتبر لمؤلفين سودانيين، معتبر لجهة الجودة الأكاديمية ومعتبر لجهة عدد المؤلفات السودانية في هذا المجال باختلاف فروعه. يمكن في هذا الإطار حصر عدد محدود من المؤلفات السودانية المعتبرة، ولكنها قليلة العدد إلى حد كبير قد يصل إلى الندرة. بالمقابل يمكننا حصر عدد أكبر قليلاً من المؤلفات السودانية الموسومة بالأكاديمية ولكنها عند النظر إليها بعين التحكيم الأكاديمي لا تساوي حبر المطابع الذي أهرق فيها. المؤسف أكثر أن البديل لذلك في ظل تدهور اللغة الانجليزية هي كتب مكتوبة باللغة العربية لمؤلفين عرب ولكنها عند النظر الفاحص لا ترقى إلا لمستوى المذكرات أو التوضيحات لا الكتب المنهجية. من المعلوم أن هناك معياراً محدداً للعدد المطلوب من الكتب الورقية مقابل أعداد الطلاب في القسم أو الكلية المعنية، لا ينطبق هذا المعيار على أي من الجامعات السودانية. وتعتمد العديد من الجامعات على الكتب المقرصنة، أي المصورة في مطابع السوق العربي بالخرطوم في انتهاك واضح لحقوق الملكية الفكرية للمؤلفين من قبل مؤسسات كان يفترض بها أن تكون أول من يراعي ذلك. لم تعد المكتبات في جامعات اليوم تعتمد فقط على الكتب المطبوعة كما هو معلوم، فالكتاب الالكتروني صار من مستلزمات العصر. مرة أخرى تعتمد المكتبات الجامعية السودانية على الكتب المقرصنة وبدرجة أكبر في هذه الحالة. وفي حين أن الاشتراك في بوابات العلوم المعروفة ودور نشر المجلات والكتب العلمية أصبح مما لا غنى عنه بالضرورة منذ زمن بعيد بالنسبة للجامعات ومراكز البحوث، فإننا نجد أن اشتراك الجامعات السودانية في مثل هذه الخدمات ضعيف ومتواضع إن وجد. ذلك على الرغم من أن بعض هذه المواقع تتيح الاشتراك المجاني للجامعات في الدول الأكثر فقراً في العالم - والسودان منها بطبيعة الحال - مثل موقع هناري الموفر بواسطة منظمة الصحة العالمية ، والذي رغم أن بعض الجامعات السودانية مشتركة فيه إلا أن استخدامه محدود للغاية، والاستفادة منه قليلة لعامل اللغة في الغالب الأعم ، ولأسباب أخرى ليس أقلها عدم حوجة الأستاذ الجامعي أو الطالب لمثل هذه المواقع في ظل واقع التعليم العالي في السودان الذي لا يزال بعيداً عن العالم ويعيش في عزلته المجيدة غير عالمٍ ، بل وغير عابئٍ بما هو حاصل خارج قوقعته . وفي الحقيقة فما حاجة الطالب إلى التنقيب في الكتب والمراجع الثقيلة إذا كان أستاذ المقرر نفسه يكتفي بتنزيل المحاضرات من الانترنت أو يعيد ذات المحاضرة التي درسها قبل عشر من السنوات، وفي النهاية تتوفر هذه المحاضرة وأخواتها لدى أصحاب ماكينات التصوير في الجامعة المعنية، بل ولا يخرج الامتحان عن هذه الوريقات المبذولة فيما صار يعرف بالشيت sheets. وهذه المسألة الأخيرة، أي مسألة اعتماد الأساتذة والطلاب على الملخصات والاستغناء عن الكتب في المستوى الجامعي هي واحدة من المهددات الكبيرة لمجهودات الارتقاء بالمستوى الأكاديمي للطلاب بل وللمؤسسة على وجه العموم، ولا تكاد تخلو جامعة أو كلية سودانية من هذه الظاهرة. توفر هذه الملخصات زمن الطالب بدل البحث عن والقراءة في المراجع المعتمدة، وتؤدي بالمقابل إلى قتل ملكة البحث والمقارنة وتشغيل العقل لدى الطلاب.
أدى قبول الأعداد المتزايدة من الطلاب في كل عام وبأعداد أكبر من الطاقة الاستيعابية للجامعات إلى زيادة الضغط على الخدمات والمرافق الشحيحة من أصله. في جامعة الزعيم الأزهري على سبيل المثال تم قبول عدد 700 طالب بكلية التربية في القبول للعام 2019- 2020 (قامت الجامعة بتخفيضها إلى 300 في العام التالي). يمكن ببساطة تخيل ما يعنيه ذلك في كلية تسع أكبر قاعاتها لعدد لا يتجاوز الثمانين طالباً. والكلية المذكورة هنا للمثال فقط وليس على سبيل الحصر والتخصيص. فإذا أضيف إلى ذلك العدد المحدود من دورات المياه والمرافق الأخرى المعدة أصلاً لمقابلة عدد محدود من الطلاب والطالبات فيمكن تصور ما يعنيه قبول هذا العدد الكبير من الطلاب. من المهم هنا الإشارة إلى أنه ثمة معايير معروفة تحكم هذه المسائل، فثمة معايير تحكم وتحدد عدد الطلاب مقابل عدد دورات المياه، مقابل المساحات الخضراء، مقابل المساحات البيضاء، مقابل أعضاء هيئة التدريس بدرجاتهم المختلفة، بل وحتى مقابل خدمات الكافتيريا. هذه المعايير توجد نسختها السودانية المعتمدة لدى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بالسودان، ولكن وكما نرى بوضوح، فقد تم على الدوام تجاوز هذه المعايير لأسباب مختلفة، بعضها نابع من رؤية الدولة السياسية لعملية التوسع في التعليم العالي وكذا التوسع في قبول الطلاب، وبعضها وبدرجة أقل يعود لرغبة الجامعات ذاتها في زيادة أعداد الطلاب لزيادة الإيرادات المتأتية من رسوم القبول العام والخاص (أتحدث هنا بالطبع عن الجامعات الحكومية وعن كليات الرغبة الأولى). على كل حال تمثل الأعداد غير المنطقية المقبولة في الجامعات السودانية ضغطاً كبيراً على إمكانات هذه الجامعات الشحيحة أصلا ومن ثم ضغطاً على الطلاب أنفسهم بطرق مختلفة ليس أقلها الازدحام في داخليات السكن بالنسبة للطلاب الداخليين.

تمويل التعليم العالي:
تمثل مسألة التمويل في التعليم العالي في السودان واحدة من المسائل الشائكة والمعقدة. ولعل بعض مظاهر ذلك التعقيد أزمة المرتبات التي طالت العاملين بالتعليم العالي وانتهت بزيادة الأجور قبل فترة ليست بالبعيدة. مظهر آخر من مظاهر التعقيد في هذه المسألة ظهر بعد الحرب، حيث لم يصرف العاملون بالتعليم العالي مرتباتهم لعدة أشهر، وبعد ذلك صرف لهم مرتب شهر واحد ولم يتسلموا بعده أي مرتب غيره حتى تاريخ هذه الكتابة في منتصف أكتوبر. على وجه العموم هناك ثلاث صيغ أو طرائق للتمويل في التعليم العالي، أولاها أن تتولى الدولة كامل الصرف على المؤسسات التعليمية وتقوم الجامعات بالمقابل بتوريد كامل إيراداتها لحساب وزارة المالية شأنها شأن بقية الجهات الإيرادية بالدولة. الثاني أن تتخلى الدولة عن أي مسؤولية في الصرف على الجامعات وفي هذه الحالة تقوم الجامعات بتسيير نفسها اعتماداً على مواردها الذاتية من رسوم الطلاب ورسوم الاستشارات والبحوث العلمية وأي استثمارات أخرى قد تملكها أو تدخل فيها المؤسسة الجامعية. أما النظام الثالث والأخير فهو النظام الهجين، وهو السائد والمعمول به في السودان بالنسبة إلى الجامعات الحكومية، حيث تقوم الدولة ممثلة في وزارة المالية بتوفير مبالغ محددة لصالح مؤسسات التعليم العالي تحت مسمى بند الدعم، ومن هذا الدعم تقوم الجامعات بدفع استحقاقات الفصل الأول، أي المرتبات. أما الفصل الثاني، أي التنمية، فلا يدخل ضمن بند الدعم المحدود من أصله، والذي في أحايين كثيرة لا يكفي أو بالكاد يكفي لمقابلة المرتبات. تلتزم الجامعات إذن بتوفير مدفوعات التنمية من مواردها الخاصة، ويدخل في بند التنمية هذا بناء الكليات، القاعات، المرافق الصحية وشراء العربات مثلاً. هذا بالطبع غير ما على الجامعات توفيره من مبالغ مالية لصالح دفع فواتير المياه والكهرباء والصيانة الدورية ورسوم تدريب الطلاب وغير ذلك. تتكفل الدولة إذن بما درجت على تسميته بالدعم، والذي هو في الحقيقة الفصل الأول أو المرتبات، وبالمقابل تلتزم الجامعات بتحصيل رسوم رمزية من الطلاب في حالة القبول العام وأعلى قليلاً في حالة القبول الخاص. قمنا في جامعة الزعيم الأزهري بإعداد دراسة عن تكلفة الطالب الحقيقية أو الأقرب إلى الحقيقية، فوجدنا أن ما يدفعه طالب القبول العام في كل الكليات لا يغطي عشرة في المائة من تكلفته الحقيقية وقت إعداد الدراسة في العام 2021.
النقطة الأساسية والجوهرية في الخلاف بين وزارتي المالية والتعليم العالي والبحث العلمي هي في النظر إلى الجامعات كجهات إيرادية من قبل وزارة المالية، وفي الفلسفة من التعليم العالي في نظر الدولة أو الحكومة: أهو حق للمواطن على الدولة أم أنه امتياز وخدمة يجب أن يدفع المتمع به مقابله. والحقيقة فإن هذا الخلاف ليس جديداً، فقد تمت إثارة هذه المسألة قبل عدة سنوات في عهد الوزيرة سمية أبو كشوة وانتهت المسألة بالانحياز لصالح الجامعات كما حدث مؤخراً، ولكن الجديد هذه المرة كان أن ذلك حدث بعد لأيٍ كان سببه مخالفة وزارة المالية لتوجيهات رئاسة الوزراء والانحياز لصالح الرؤية الرأسمالية للتعليم العالي والجامعات على وجه العموم. وتُرجع بعض المصادر الشفاهية التي استطلعتها الخلاف في مسألة صرف الدولة على الجامعات الحكومية إلى أبعد من ذلك، أي إلى عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، ولكن لم يتوفر لدي مصدر مكتوب.
لا تغطي مصروفات الطلاب بأي حال من الأحوال تكلفة الطالب الجامعي، بل وحتى رسوم الطلاب الجامعيين المقبولين تحت سياسة ما يسمى بالقبول الخاص لا تغطي هي الأخرى تكلفة الطالب في هذا النوع من القبول، وذلك لالتزام الجامعات الحكومية بقرارات المجلس القومي للتعليم العالي القاضية بأن يتخرج الطالب بالرسوم التي قُبل بها، أي أنه لا يجوز للجامعة زيادة الرسوم على الطلاب سنويا أو كل سنتين مثلا، وبما أن رسوم القبول الخاص في الجامعات الحكومية يتم تحصيلها بالعملة السودانية ، فقد ظلت هذه الرسوم عرضة للتآكل في قيمتها كل عام باستمرار التضخم وانهيار العملة الوطنية. وعلى كل فإن القبول الخاص ورغم كل ما يقال عنه ويثار حوله فإن المقاعد المطروحة للمنافسة فيه في كل الجامعات لا يتم ملؤها واكتمال العدد فيها إلا في كليات الطب، بينما هناك كليات لا يتم فيها استيعاب أي طالب بنظام القبول الخاص لعدم الرغبة من الطلاب. ترتب على ذلك أنه في كل الجامعات الحكومية في السودان وبلا استثناء، يدفع الطلاب نظير دراستهم مقابلاً مالياً أقل مما كانوا يدفعونه في مدارسهم الثانوية الخاصة (غير الحكومية) بل وأقل مما يدفعه إخوانهم واخواتهن الأصغر سناً في مراحل الدراسة قبل الثانوية، بل وحتى في مراحل التعليم قبل المدرسي! وبالنظر إلى ما ذكرناه سابقاً من طرائق التمويل في الجامعات السودانية ومصادرها يصبح من غير المعقول مطالبة هذه الجامعات بالتطوير في بنيتها التحتية أو في بيئة الدراسة على وجه العموم. يدفع الطلاب وأولياء أمورهم مقابل الدراسة لعام كامل مبالغ أقل من قيمة تذكرة السفر من ولاياتهم أو من قُراهم إلى مقر الجامعة، بل وتصل هذه المبالغ بالنسبة لطلاب السنوات المتقدمة مبلغا أقل مما يدفعه هذا الطالب لوجبة الفطور، ثم بعد ذلك يطالبون بخدمات ومستوى الجامعات في العالم أو أقله في الإقليم! كان يمكن النظر لمثل هذه المطالب ببعض الوجاهة لو كانت الدولة تتكفل بتمويل التعليم العالي الحكومي كلية كما في دول الخليج على سبيل المثال.
لمسألة مجانية التعليم العالي تاريخ طويل نسبياً في السودان، أقول نسبياً لأن السودان في الحقيقة لم يعرف التعليم الجامعي منذ وقت مبكر، فجامعة الخرطوم أعرق الجامعات السودانية احتفلت في السنوات القليلة الماضية بعيدها المئوي، وهناك كليات بالطبع لم يتعد عمرها ربع القرن أو أقل ضمن كليات الجامعة. وجامعة الخرطوم عند إنشائها من قبل الانجليز كانت الفكرة لها أن تكون نسخة من الجامعات البريطانية ذات الصيت الأكاديمي العالي. وفرت الجامعة لطلابها وإلى وقت قريب نسبيا السكن وكذلك الإعاشة. فكانت الجامعة بالإضافة إلى توفير السكن في داخلياتها المريحة وغير المكتظة، توفر للطلاب وجبات مجانية، وفي فترة ما كانت الجامعة تمنح طلابها مرتباً شهرياً معلوماً. تناقصت هذه الامتيازات بالتدريج في جودتها ونوعيتها إلى أن تم إلغاؤها تماماً بمجيء الإنقاذ وثورة التعليم العالي.
ما ذكرناه سابقا هو الوضع في مؤسسات التعليم العالي الحكومية أو التابعة للدولة، ولكن جزء كبيرا من التعليم العالي في السودان في السنوات الأخيرة صار يضطلع به ويتولى مسئوليته التعليم غير الحكومي أو ما يعرف بالتعليم الخاص. للتعليم غير الحكومي في السودان تاريخ طويل نسبيا، وإن كان أقصر من ذلك في مجال التعليم العالي. وللتعليم العالي غير الحكومي في السودان كذلك مشاكله الخاصة ومآخذه التي تؤخذ على بعض مؤسساته، ولكن ذلك قد يرجع في بعضه إلى الخلل في المؤسسات الرقابية والحاكمة لعمله وأدائه من قبل الوزارة، دون أن يلغي ذلك بالطبع أن الكثير من هذه المؤسسات بها ما بها من التجاوزات والسعي للربحية حتى ولو على حساب الأكاديميات في الكثير من الأحيان. يغطي التعليم العالي غير الحكومي نسبة تقارب ما يغطيه التعليم الحكومي، وتوسعت مؤسساته من جامعات وكليات توسعا كبيرا وفق لوائح وضوابط الوزارة. لن نتناول هنا ما يخص التعليم العالي غير الحكومي من الإيجابيات والسلبيات أو دوره المقدر في التعليم الجامعي في السودان، سنتحدث هنا فقط في مسألة التمويل. فعلى النقيض من المؤسسات الحكومية يعتمد التعليم الجامعي غير الحكومي على نفسه اعتمادا كاملا في تسيير المؤسسة. وتمثل رسوم الطلاب في كل أو على الأقل في الغالبية العظمى من هذه المؤسسات المورد الوحيد أو الأهم من موارد المؤسسة. يمكن تصور ما ستخلفه الحرب على هذا القطاع الذي عانى من قبل الحرب من تبعات الانهيار الاقتصادي وانهيار قيمة الجنيه السوداني في ظل القوانين الملزمة في التعليم العالي للمؤسسات الجامعية – حكومية وخاصة - بعدم زيادة رسوم القبول للطالب المستمر في دراسته وأن يتخرج بذات الرسوم التي قُبِل بها! (يمكننا بالطبع تصور أن هذه المؤسسات لم تلتزم بهذا الشرط في السنوات الأخيرة وتحايلت عليه بطرق شتى). واحدة من الموارد المهمة لقطاع العليم الجامعي غير الحكومي في السودان كانت في استقطاب الطلاب الأجانب للدراسة بهذه المؤسسات. وهذه المسألة غير عائدها المادي فهي من المعايير التي تؤخذ في الاعتبار عند تقييم الجامعات. ومع استمرار الحرب وتطاولها يمكن تصور ما ستخلفه على هجرة الطلاب الأجانب من الجامعات السودانية، وهو ما قد حدث بالفعل، حيث قامت دول هؤلاء الطلاب باستيعابهم في مؤسساتها، وغادر بعضهم لدول أخرى قدمت لهم بعض التسهيلات. ولكن الضرر لن يتوقف عند ذلك، إذ ليس من المتوقع أن يعود الطلاب الأجانب للدراسة في السودان بعد الحرب لأسباب مختلفة ليس أقلها فقدان السودان للميزات النسبية التي كانت تغري هؤلاء الطلاب بالدراسة في السودان، من الأمان النسبي وسهولة الإجراءات والرسوم غير العالية نسبيا والمجتمع المحافظ والمرحب بالأجانب وغير ذلك من أسباب أخرى. قامت بعض هذه الجامعات غير الحكومية أو الخاصة ذات المقدرة المالية الأفضل بمواصلة الدراسة لطلابها خارج السودان، ولكن ذلك بالطبع خيار يتطلب توفر المقدرة المالية للجامعة وللطلاب أنفسهم، وهو ما لا يتوفر لعدد كبير منهم، وهو كذلك خيار لا تستطيعه الغالبية العظمى من هذه الجامعات أو الكليات الجامعية
إذا كان ذلك هو الوضع قبل الحرب فيمكننا تصور صعوبة ما ستواجهه هذه الجامعات حكومية كانت أم غير حكومية بعد الحرب في ظل ما ستكون عليه خزينة الدولة المجهدة بفعل الحرب وتحديات الإعمار ما بعد الحرب. أمر آخر ينبغي عدم إغفاله أن هذه الحرب في بعض طبيعتها هي حرب إفقار وتشريد لقطاعات وجماعات كبيرة من السودانيين، فالناس الذين نهبت سياراتهم وأفرغت بيوتهم من أثاثاتها ودفعوا فاتورة حرب الإفقار الممنهج هذه سيكون من الصعب تصور كيف سيكون بمقدورهم مقابلة احتياجاتهم في الفترة المقبلة ومن ضمنها بالطبع التعليم، على المستوى الجامعي أو ما قبله.

تحديات أخرى متفرقة:
وهذه تشمل العديد من التحديات الموروثة من قبل الحرب بل ومن قبل ذلك، ولوضوحها فقد كُتب فيها الكثير من الدراسات والمقالات التي يمكن الرجوع إليها. وهي تشمل في بعض ما تشمل ضعف الكادر التدريسي وكيفية التدريب والارتقاء به، وما صاحب ذلك من المنتوج الأكاديمي والبحثي الفقير للمؤسسات الجامعية في السودان (تعرضنا لبعض ذلك دون إسهاب كبير في مقالنا الموسوم" واقع البحث العلمي في السودان" المنشور وقتها في السوداني الورقية وفي سودانايل الالكترونية بتاريخ 3 فبراير 2010)، وما رافقه من المستوى المتواضع للدوريات العلمية السودانية على وجه العموم. يشمل ذلك أيضا انقطاع الابتعاث وانقطاع الصلات مع الجامعات العالمية وانقطاع الأستاذ الجامعي في السودان عن المؤتمرات والفعاليات العالمية المرموقة بسبب انعدام التمويل وغير ذلك من مسائل نوقشت من قبل ووضعت لها تصورات الحلول. لا يعني ذلك بالطبع أن هذه المسائل هي من البساطة بحيث يسهل حلها، ولكنها فيما يخص موضوعنا هنا ليست ذات صلة وثيقة بالحرب الدائرة الآن، رغم أنها بالطبع ستتأثر بها سلبا فتزداد ضغثا على أبالة إن لم توضع لها الحلول الناجعة.

ما العمل وما تصورات الحلول؟
من الواضح أن مسألة التعليم العالي في السودان أكثر تعقيدا مما تبدو، مما يجعل الحلول المثالية والسهلة غير قابلة للتطبيق دون الأخذ في الاعتبار الارتدادات المجتمعية والسياسية، ولا يعني ذلك بالطبع الرضوخ لهذه المعوقات، ولكن ما قصدته هو أخذها في الاعتبار. الاقتراحات والحلول التي ستطرح هنا ليست جديدة في غالبها، وذلك بالطبع يرجع لوضوح المشكلة، ولكنها كما كل أطروحات الحلول في السودان رغم وضوحها في كل المجالات يقتلها دس المحافير! فكل السودانيين يعرفون أن واحدة من أهم أدوات التنمية هي الاهتمام بالبنى التحتية مثل السكة الحديد على سبيل المثال ولكن شيئا في ذلك المجال لا يحدث، وكلهم يعرفون أن التعدين الأهلي مضر بالبيئة قبل الاقتصاد وأن تهريب الذهب يجب أن يتوقف ولكن ذلك لا يحدث وغير ذلك وغير ذلك، بل ويقرأون في الصحف أن ضابطا معينا أو شرطيا معينا تم نقله من وحدته بأوامر عليا لكشف فساد بعض المتنفذين أو كشفه لتهريب الذهب مثلا! إن واحدة من أهم معوقات الإصلاح في السودان هي المزايدات السياسية، لقد أقعدت الترضيات السياسية في عهد الإنقاذ بالبلاد وبالتعليم العالي فيما يخصنا هنا، وأوردته موارد التراجع، كان ذلك بالتعيينات السياسية للإدارات العليا أو بفرض سياسات التعريب والمناهج المعتلة. لقد كان يمكن لمناهج مطلوبات الجامعة في اللغة العربية والانجليزية والدراسات السودانية بل وحتى في الثقافة الإسلامية، كان يمكن لها أن تشكل إضافة حقيقية للطلاب لو أحسن استخدامها ووضعها، ولكنها للأسف كانت مناهج خاوية وضعيفة أكاديميا ومعرفيا واستغلها الكثير من الأساتذة الذين صدحوا فيما بعد بذم الإنقاذ وسياساتها، استغلوها في الكسب التجاري! أمِل السودانيون في حال أفضل بعد الثورة ولكن الثورة ولدت بلا منظرين فكريين وأكلت أبناءها فيما بعد، فتدخلت الكثير من تجمعات الأساتذة في تعيين مديري الجامعات وحاولت توجيه سياساتهم فكأنها استبدلت الوحدة التنظيمية للنظام السابق بالتجمع! وهتف ممثلوها في قاعات الوزارة ضد الوزارة وسياساتها في الورش المتخصصة، لقد أخطأنا في تحديد الأعداء الحقيقيين للثورة حتى فاجأتنا حرب الخرطوم الأخيرة.
من أهم خطوات الإصلاح التي يحتاجها التعليم العالي في الفترة القادمة هو توفر طاقم أعلى في الوزارة والمجلس القومي للتعليم العالي من ذوي الرؤية والنزاهة والمسئولية. وينبغي كذلك عدم الرضوخ للإملاءات الحزبية أيا ما كانت، فالعداء غير المبرر وإقصاء الآخر هو بعض ما أورثنا ما نحن فيه الآن. يشهد الجميع للسيدة الوزيرة البروفيسور انتصار صغيرون بالنزاهة وبعدم الانحياز المجاني، ولكن ينبغي الإشارة إلى أن تدخلات التنظيمات السياسة عبر تجمعات الأساتذة وغيرها من الواجهات كان له أثر غير جيد. كذلك كانت التوقعات العالية للطلاب والأساتذة لواقع الحال بعد الثورة مما أثر على أداء الوزارة، فبينما اتجهت الوزارة لوضع الاستراتيجيات والاستعانة بالخبراء الدوليين من البنك الدولي وغيره من المنظمات المهتمة بالتعليم العالي، كان الطلاب يطالبون بتوفير السكن وبعضهم طالب بالعودة لنظام الوجبة، وقام طلاب جامعة الخرطوم بطرد طلاب الجامعات الأخرى من الداخليات التي كانت تتبع لجامعة الخرطوم قبل أن يتم تتبيعها للصندوق القومي لدعم الطلاب في عهد الإنقاذ. وعلى هذا المنوال ظل التعليم العالي نهبا للمزايدات السياسية والمماحكات الحزبية بل والصراعات الشخصية للأسف في كثير من الأحيان. إن وزيرا للتعليم العالي وطاقما من التكنوقراط ذوي الكفاءة والنزاهة وعفة اليد هو المطلوب في الفترة القادمة. وعلى ذكر النزاهة فينبغي الإشارة مثلا إلى أن السيدة الوزيرة في عهد الإنقاذ الدكتورة سمية أبو كشوة كانت من الذين شهد لهم أساتذة الجامعات بالمعقولية والنزاهة إلى حد كبير، ولكنها بالطبع قيدتها القيود والسياسات الحزبية للحزب الحاكم.

وضع معايير صارمة لاعتماد مؤسسات التعليم العالي بأنشاء هيئة التنظيم والرقابة والاعتماد السودانية:
من الضرورة بمكان أن تكون هناك هيئة رقابية مستقلة مسئولة مسئولية كاملة عن التعليم العالي في السودان، وهذا الأمر بالطبع ليس بدعا، فهو المعمول به في كل العالم. تقع على هذه الهيئة أو أيا كان مسماها، المسئولية الكاملة في الموافقة على فتح الجامعات والبرامج الجامعية ووضع الشروط والقوانين المؤهلة لذلك. تضطلع هذه الهيئة كذلك بالدور الرقابي على هذه المؤسسات ويكون لها صلاحية التوصية بإغلاقها إن لم تستوف المعايير المطلوبة أو أخلت باستيفائها. وينبغي هنا الاستعانة بالهيئات النظيرة خارج السودان وخبرات المؤسسات الأممية في هذا المجال. هناك عدد مقدر كذلك من السودانيين العاملين في هذا المجال يمكن الاستعانة بهم والاستفادة من خبراتهم، غير أن المسألة الأهم هنا هي الاستعانة بالمؤسسات الأممية والدولية المهتمة بمسألة الاعتماد الجامعي. يمكننا أن نقترح هنا أن يكون من أول أولويات هذه الهيئة وضع المعيار السوداني لتصنيف الجامعات، فكما هناك المعايير الدولية للتصنيف التي تختلف بعض الشيء بين معيار وآخر، يمكن لنا البدء بوضع المعيار السوداني المُراعي لبعض الخصوصيات في الحالة السودانية، دون أن يعني ذلك بالطبع التساهل في أساسيات المعايير الدولية. لن تبدأ مثل هذه الهيئة من الصفر، فهناك ما يماثل هذه الهيئة في وزارة التعليم العالي ولكنها ولأسباب مختلفة لم تتمكن من القيام بدورها وتطوير آلياتها للحد المطلوب. إن بعض ما سيواجه مثل هذا المجهود سيكون توفر المعلومات، ولكن ذلك أيضا مما يمكن إنجازه والبناء عليه إن توفرت العزيمة. بالطبع يمكن تصور صعوبة هذه المسألة بعد حرب استهدفت الوزارة في بنيتها التحتية ومن ضمن هذه البنية المعلومات والإحصاء، مع أمل بأن تكون المعلومات المطلوبة مخزنة سحابيا بحسب المتوقع في مثل هذه الحالات.
تحديد مدى زمني لكل الجامعات والكليات الحكومية والخاصة لتطبيق المعايير الوطنية أو تعريضها للإغلاق أو أيلولتها للدولة أو التصفية بحسب مقتضى الحال:
ترتبط هذه المسألة بالهيئة المشار إليها أعلاه وبالمعايير المطلوب استيفاؤها.

الاكتفاء بعدد محدود من الكليات في كل جامعة
واحدة من آليات تجويد العمل في المرحلة المقبلة ستكون في التخلص من عبء تسيير الكليات التي لا حوجة فعلية لخريجيها في سوق العمل، وكذلك الكليات التي لا يرغب الطلاب في الالتحاق بها، إذ لا يعقل أن تتحمل الجامعة تكلفة تسيير كلية يتقدم لها في القبول الأول ثلاثة أو أربعة من الطلاب بانتظار أن يكتمل العدد كيفما اتفق في الدور الثاني من القبول. كما يمكن هنا تقليص كليات بعينها تتكرر في كل الجامعات بلا معنى لهذا التكرار سوى استيعاب المزيد من الطلاب، فيمكن على سبيل المثال هنا الاكتفاء بعدد محدود من كليات القانون أو علوم المختبرات الطبية على سبيل المثال، ولكن بمعايير جودة أعلى مما هو حاصل الآن.

ضم بعض الجامعات في جامعة واحدة
وذلك تجويدا للأداء وضبطا واستغلالا أمثل للموارد، ويمكن لهذه الفروع أن تتطور إلى جامعات كاملة بعد عدد من السنوات واستيفاء المعايير الصارمة التي سيتم وضعها. وهناك تجارب في المنطقة والعالم في مثل هذه الحالات.
تقليص العدد الكبير من الجامعات أو تقليص عدد الكليات فيها وعدم فتح جامعات جديدة الا بمعايير مشددة
واحدة من أهم المعالجات الواجب القيام بها هي تقليص هذا العدد من الجامعات إلى عدد أقل، وليس ذلك فقط لغرض التقليص، فالسودان لا يزال دون المعايير العالمية في تناسب عدد الجامعيين لعدد السكان، ولكن الجامعات القائمة الآن، أو الكثير منها على الأقل لا تستوفي المعايير المطلوبة للجامعات في حدها الأدنى. يمكن أن يتم هذا الأمر بمطالبة هذه الجامعات باستيفاء المعايير المطلوبة في فترة زمنية محددة لا تتجاوز السنتين أو السنة الواحدة في بعض الكليات. بعض الجامعات ينبغي إغلاقها أو أيقاف قبول الطلاب بها من فوره اعتمادا على عدم استيفائها لشروط التأسيس التي قامت عليها، فكل الجامعات في السودان حكومية كانت أو غير ذلك صُدق لها بالعمل وفق معايير وضوابط محددة، ولكن لم يتم الالتزام بها في الكثير من الأحيان، وتجاوزت الجهات الرقابية عن هذا القصور في أحيان أخرى.

التوأمة أو التنسيق مع جامعات خارجية أجنبية في الإقليم وخارجه
من المهم إلى حد كبير ربط التعليم العالي في السودان بما هو حاصل في التعليم العالي في العالم. يمكن في سبيل ذلك أن تكون هناك توأمة بين بعض الجامعات أو الكليات في السودان وجامعات وكليات أخرى في المنطقة أو العالم. ينبغي بالطبع وضع ضوابط لهذه التوأمة تضمن استفادة الجامعات السودانية من هذه المسألة، وهناك تجارب وأمثلة في العالم يمكن الاهتداء بها. ويمكن أن يشمل ذلك تبادل الأساتذة وكذلك التبادل الطلابي.

فتح فروع لجامعات أجنبية مرموقة في السودان:
للسودانيين باع طويل في الاهتمام بالتعليم في الجامعات الأجنبية، وحتى بعد التوسع الكبير في الجامعات في السودان، لا تزال الكثير من الأسر تبتعث أبناءها للدراسة خارج السودان سعيا لتعليم أفضل وأكثر موثوقية ومرموقية. سيكون من المفيد هنا للطلاب ولمستوى الجامعات السودانية أن تتوفر في السودان فروع لجامعات أجنبية ذات تصنيف عال. لن يكون ذلك سهلا بالطبع في ظل انهيار البنية التحتية في السودان، ولكن مثل هذا المشروع سيكون ذا مردود كبير في الارتقاء بمعايير التعليم العالي في السودان. يمكن قبل ذلك أو بالتوازي معه أن تقوم بعض الكليات أو الجامعات في السودان بمنح شهادات تخرج مشتركة مع جامعات أجنبية، وهي مسألة معروفة ومعمول بها ولها ضوابطها المنظمة.
ربط قبول الطلاب بدراسات تحدد مدى الحاجة للتخصصات المعينة في الجامعات الحكومية وربطها بخطة التنمية
ويتطلب ذلك بالطبع وجود خطة واضحة للتنمية في الدولة. إذ ليس من المعقول أو المنطقي أن تقوم الجامعات بتخريج الآلاف من الطلاب في تخصص معين ليقوموا بعدها بالعمل في مهن غير ذات علاقة بما درسوه، بل هي لا تتطلب الدراسة الجامعية من الأساس، مع ما يمثله ذلك بالطبع من هدر للموارد بالنسبة للدولة وللدارس نفسه.
مراجعة سياسة الدعم للجامعات الحكومية ومراجعة سياسات تمويل التعليم العالي
ليس من المنطقي بأي حال من الأحوال أن تقوم الدولة بدعم التعليم الجامعي والاستمرار في مجانيته أو رمزية رسومه لطلاب أول تخرجهم سيغادرون البلاد للعمل بالخارج مثلا، أو سيعملون في مهن لا علاقة لها بما درسوه في أربع أو خمس سنوات تكفلت بها الدولة. يجادل البعض هنا بأن مثل هؤلاء الطلاب سيفيدون أسرهم ماديا وذلك واحد من أغراض التعليم العالي في بلد كالسودان، أي الخروج من دائرة الفقر أو الترقي المادي. ولكن هذه الفائدة ينبغي ربطها بفائدة تعود على الدولة لتتمكن من توفير هذا التعليم للأجيال القادمة. وبالنظر إلى الحالة السودانية فإنه من غير المعقول ولا المنطقي أن تقوم الدولة بدعم كليات لا رغبة للطلاب فيها، بل يدخلها الطلاب فقط لانعدام البديل، ومن بعد تخرجهم لا يعملون في التخصصات التي درسوها، إما لانعدام الفرص أو لعدم رغبة الطلاب أنفسهم في ذلك. إن ذلك يمثل هدرا غير مقبول لإمكانات الدولة الشحيحة من أصلها. سيؤدي وقف سياسة التعليم العالي المجاني إلى أن يأخذ الطلاب أمر التعليم الجامعي بجدية أكثر، وسيفتح ذلك الباب للتفكير في التخصصات الفنية التي ليس لها قبول مجتمعي كبير رغم عائدها المادي الجيد ورغم الحاجة الحقيقية لها في بلد كالسودان.
التعليم قبل الجامعي هو حق من حقوق الانسان في المواثيق الدولية، ولكن ذلك لا ينطبق على التعليم الجامعي. وفي حالة السودان والفقر المتفشي وغير ذلك مما يمكن أن يعيق التعليم العالي لذوي الدخل المحدود، يمكن ان تكون هناك مقترحات مثل أن تقوم الدولة بتحمل كلفة التعليم العالي للطلاب المتميزين غير القادرين، ما يعني أن الدعم هنا سيكون موجها للأفراد المستحقين وليس للكلية المعنية. يمكن بالطبع تنظيم ذلك وضبطه بطريقة عادلة. أما الاستمرار فيما هو حاصل الآن من الدعم والتمويل فلن يؤدي إلا إلى المزيد من تراجع الجامعات السودانية، فلا هي تملك الموارد الكافية للتطوير، ولا هي ستحصل من الدولة على ما يكفيها لذلك، ولا الدولة ستستطيع أن تتكفل بالتمويل الكامل لهذا الكم الهائل من مؤسسات التعليم العالي. سيؤدي وقف الدعم الحكومي بصورته الحالية عن الجامعات الحكومية إلى تناقص أعدادها بلجوء بعضها للاندماج معا للبقاء في ظل التنافس الحاد على التعليم المرموق، كما سيؤدي إلى أن تقوم الجامعات بالخطوة التي لطالما كانت تعوزها الشجاعة للقيام بها، أي إغلاق أو تجميد القبول في الكليات التي تشكل عبئا على الجامعة دون مردود أو أثر على المجتمع، وكذلك إغلاق بعض الأقسام أو دمج بعضها مع بعض. أثر مهم ستؤدي إليه هذه المسألة أيضا هو ما سيصاحب ذلك من اضطرار الجامعات لمواكبة سوق العمل الداخلي والعالمي ولجوئها بالضرورة لفتح تخصصات جديدة لتتمكن من المواكبة في ظل تنافس حاد بين الجامعات على استقطاب الطلاب الذين غيرت وستغير العولمة المتسارعة من طريقة تفكيرهم واتجاهاتهم في التعليم العالي والتخصص. وبغض النظر عن هذه الأسباب فإنه سيكون من شبه المستحيل أن تتمكن الدولة بعد الحرب من الصرف على التعليم العالي بما يضمن تطوره وهي عجزت عن ذلك قبل اندلاع الحرب في فترات الاستقرار والسلام النسبي في البلاد.
إدخال التعليم الالكتروني كوسيلة من وسائل التعليم والتعلم في الجامعات السودانية:
وذلك بتحديد نسبة معينة من المقرر ينبغي الالتزام بتدريسها عبر التعليم الالكتروني. سيواجه هذه المسألة بالطبع المعوقات المعروفة من سوء خدمات شبكة الانترنت في السودان خاصة بعد الحرب وصعوبة الوصول إليها أحيانا، وكلك التكلفة المالية المطلوبة من الجامعات والطلاب، ولكن ذلك أمر لا مناص عنه إن أردنا اللحاق بركب التطور أو محاولة ذلك. كانت لوزارة التعليم العالي تجارب رائدة في هذا الإطار، عبر شبكة الجامعات السودانية (شمس) وعبر مشاريع الربط الشبكي ومشروعات أخرى لم تصل لغاياتها المرجوة لأسباب مختلفة بعض منها عدم الاهتمام من الجامعات نفسها أو عدم إدراك القائمين عليها في ذلك الوقت المبكر نسبيا لأهمية التعليم الالكتروني ومشاريع الربط الشبكي، وأسباب أخرى ليس هذا مقام الدخول في تفاصيلها. قلنا إنه يجب تحديد نسبة معينة من المقررات تدرس عبر التعليم الالكتروني، ويجب ربط ذلك بمعايير الاعتماد السودانية للبرامج الأكاديمية والجامعات، ويمكن كذلك بدء هذه المسألة بالتدريج مع وضع إطار زمني محدد. بالطبع ليست المسألة بالبساطة التي تبدو عليها، فهناك العديد من التفاصيل التقنية التي لن ندخل في تفاصيلها هنا، إنما من المهم أن الرد على القائلين باستحالة ذلك في ظروف السودان أن البديل سيكون إغلاق هذه الجامعات أو تقليص برامجها بعد إعطائها مهلة زمنية معينة لتطبيق درجة معقولة من التعليم غير المباشر إن لم يكن الالكتروني بالكلية.
للتعليم العالي في السودان تجربة جيدة في التعليم عن بعد باستخدام وسائل الاتصال المختلفة، ويمكن هنا الإشارة إلى تجربة جامعة السودان المفتوحة التي حازت على بث إذاعي متخصص وموجه لنشر وتوصيل برامجها الأكاديمية للطلاب ولجمهور المستمعين على وجه العموم. وفي الفترة الأخيرة قبل الحرب كان هناك عدد مقدر من الجامعات قد أطلقت إذاعاتها الخاصة بها، وعلى الرغم من أنها لم تكن موجهة لتوصيل المقرر الأكاديمي كما هو الحال في إذاعة جامعة السودان المفتوحة، إلا أن هذه الإذاعات يمكن الاستفادة منها في الفترة القادمة مرحليا بتوصيل بعض المقررات للطلاب في أماكنهم أو على الأقل تقليل حضورهم للجامعة، ويمكن للجامعات التي ليست لها إذاعات التعاون مع تلك التي لديها، وفي هذا الإطار فقد كانت جامعة السودان المفتوحة على استعداد للدخول في شراكات كهذه.
إضافة تخصصات مفقودة وتطوير التخصصات القائمة ومواكبتها للعالم:
وهذه مسألة تعرضنا لها في الفقرات السابقة بغير إسهاب، ولكنها مما لا تخفى أهميته في تطوير الجامعات السودانية، فلا يعقل أن يدرس الطلاب في بعض التخصصات مقررات عفا عليها الزمن، غير أننا لن نخوض في تفاصيل ذلك إذ تندرج هذه المسألة تحت بند الإصلاح الأكاديمي الخاص بكل مؤسسة على حدة، ثم بعد ذلك بمطلوبات هيئة الاعتماد والرقابة.
وضع سياسات تعمل على تقليل التفاوت في الحصول على فرص التعليم العالي:
وهذه المسألة وإن كانت ذات ارتباط بمشاريع التنمية في البلد ككل وتوفر الخدمات وجودة التعليم قبل الجامعي، إلا أن استراتيجية التعليم العالي يمكن أن تساهم فيها إلى حين ذلك ببعض المقترحات من مثل التمييز الإيجابي بقبول طلاب بعض المناطق بنسب أقل في الجامعات الكبيرة، وبالمواصلة في سياسات القبول الولائي المعمول به الآن ولكن بمزيد من الضوابط والتجويد. من المقترحات التي طرحت في هذا الإطار إلغاء سياسة القبول الخاص في الجامعات الحكومية، وهذا بالطبع لا غبار عليه، ولكنه يتطلب توفير الموارد المالية التي كان يوفرها القبول الخاص، والذي كما أسلفنا لم تكن فرصه تستنفذ إلا في كليات الطب. واحدة من الخيارات بالطبع ستكون في أن يتحمل الطلاب التكلفة الحقيقة لدراستهم مع تحمل الدولة لتكلفة الدراسة للطلاب المتميزين غير القادرين. وعلى ذكر القبول الخاص في الجامعات الحكومية فربما تجب الإشارة هنا إلى أن نسب القبول لطلاب القبول الخاص وإن كانت حسب اللوائح تصل إلى 10% أقل من نسبة القبول العام، إلا أن ما كان يحدث هو أن هذه النسبة لم تكن تقل عن ال 2 أو ال 3% من نسبة القبول العام، وفي أحيان كثيرة كان بعض طلاب القبول الخاص يدخلون الكلية بنسبة أعلى من الحد الأدنى المطلوب في القبول العام.

حظر النشاط السياسي والتنظيمات العرقية في الجامعات
ليس هناك مبرر واحد لأن تكون الجامعات السودانية منابر حزبية للأحزاب السياسية وما يستتبع ذلك من تحول الجامعة لساحة صراع سياسي وقوده الطلاب، صراع يصل في أحايين كثيرة إلى تسبيب الأذى الجسيم بل والقتل. ذلك بالطبع غير التخريب المصاحب للعنف الطلابي وإغلاق الجامعات. ينبغي في المرحلة المقبلة حظر النشاط السياسي بصورته التي كان يمارس بها في السابق، ويمكن الوصول لصيغة معينة تسمح للطلاب بالنقاش الفكري والسياسي في حدود ضوابط متفق عليها. بل إنه من المهم تشجيع النشاط لا الصفي من الفكر والثقافة، ولكني أظن أنه لا أحد يمكنه القول بأن ممارسة السياسة السودانية تنطوي على الفكر أو الثقافة. من المهم كذلك في الفترة المقبلة محاسبة الطلاب جنائيا على أفعالهم التخريبية وعلى نشر خطاب الكراهية، فلا يعقل أن تكتفي الجامعات بتطبيق لائحة سلوك الطلاب على طالب بالغ راشد قام بإتلاف ممتلكات الدولة أو بالاعتداء الجسدي على طلاب آخرين، فأقسى العقوبات في لوائح الطلاب هي الفصل من الجامعة، بينما الجرم المرتكب قد يكون جرما جنائيا لا لبس فيه. ومن المهم أيضاً أن يمتد ذلك الحظر ليشمل حظر تكوين التنظيمات الطلابية في الجامعات على الأساس العرقي أو الإثني. وسينتج عن ذلك أن تصبح اتحادات الطلاب اتحادات مطلبية أو خدمية تهتم بالمصالح الحقيقة لقاعدتها الانتخابية من الطلاب، وتساهم في تطوير المؤسسات الجامعية باعتبارها شريكا أصيلا والمستفيد الأول من الخدمة.
عدم التعامل مع مؤسسات التعليم الخاص كجهات إيرادية، بل النظر إليها كشريك في تقديم الخدمة التعليمية:
ولكن ذلك بالطبع يتطلب أن تتخلى هذه المؤسسات، أو بعضها على الأقل، عن التعامل كمؤسسات ربحية بالأساس. بالطبع لا يمكن ولا ينبغي لوم هذه المؤسسات في سعيها لتحقيق الأرباح، ولكن ذلك ينبغي ألا يصاحبه التنازل عن القيم الرفيعة في التعليم وعن أخلاقيات العمل في التعليم الجامعي. ينبغي أن يصاحب ذلك أيضا الإصلاح الداخلي في هذه المؤسسات، ووضع وتطوير القوانين المنظمة لعملها من قبل هيئة الاعتماد والتقويم، يشمل ذلك قوانين ملكية هذه المؤسسات وتخصيص نسبة من الدخل لتطوير المؤسسة نفسها وحقوق العاملين من الهيئة التدريسية وغير التدريسية، وغير ذلك من التفاصيل التي ينطبق بعضها على المؤسسات الحكومية.
في الفترة السابقة ومع الانهيار الاقتصادي تضررت هذه المؤسسات ضررا كبيرا، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الضرر في فترة ما بعد الحرب، بل إن بعض المؤسسات، الصغيرة وحديثة العهد منها بالذات، قد تفقد مقدرتها على الاستمرار. على الدولة هنا أن تقوم بمساعدة هذه المؤسسات، فهي في النهاية من مكتسبات السودانيين وتقدم خدمة مقدرة. كان لبعض مديري هذه المؤسسات مقترحات جيدة في الفترة السابقة يمكن البناء عليها واقتراح غيرها أيضا، من ذلك المعاملة التفضيلية في أسعار الكهرباء وغير ذلك من الخدمات والجبايات التي ترهق ميزانية هذه المؤسسات، كذلك كان من المقترحات إلغاء شرط تجميد الرسوم للطلاب وعدم زيادتها سنويا، وكذلك السماح لهذه المؤسسات بقبول أي عدد كان من الطلاب الأجانب، حيث كانت الوزارة تحدد نسبة معينة من الطلاب الأجانب مقابل الطلاب السودانيين لهذه المؤسسات. ربما يكون الأوان قد فات على بعض هذه المؤسسات بعد الحرب للنهوض والاستمرار، غير أن هناك العديد من الأفكار والمقترحات التي يمكن التفاكر حولها والوصول إلى توصيات ناجعة.

السياحة التعليمية
وهذه تعني ضمن ما تعني أن تكون مسألة انتساب الطلاب الأجانب للتعليم الجامعي حزمة متكاملة بما يعود بالفائدة على الجامعات والدولة، وذلك بتوفير الخدمات المصاحبة وتقنين وتنظيم وتسهيل الإجراءات المؤدية لانتساب الطلاب لهذه المؤسسات. ربما يكون قد فات أوان لهذه المسألة بعد اندلاع الحرب، ولكن يمكن مناقشة ذلك في حينه، كما يمكن الرجوع للورقة الضافية التي قدمها البروفيسور أحمد الصافي تحت هذا العنوان في ورشة سياسات تمويل التعليم العالي التي عقدتها الوزارة في أغسطس 2021. واحدة من المقترحات في هذا الإطار هي توفير بعض المنح للطلاب الأجانب وفق معايير معينة.

تفعيل دور اتحاد الجامعات السودانية:
اتحاد الجامعات السودانية هو جسم غير حكومي يضم مؤسسات التعليم العالي الحكومية منها والخاصة. ويتم اختيار مناصبه العليا من الرئيس والأمين العام بالانتخاب الحر المباشر. والاتحاد السوداني هو واحد من أكثر الاتحادات عضوية في المنطقة والإقليم، وذلك لتعدد مؤسسات التعليم العالي السودانية. للجامعات السودانية غير عضويتها في الاتحاد السوداني عضوية بطبيعة الحال في الاتحادات الإقليمية والقارية والعالمية، فهناك اتحاد الجامعات العربية، واتحاد الجامعات الافريقية واتحادات أخرى. لقد كان السودان كعادته سباقا في المبادرات فنشأ اتحاد الجامعات الإفريقية على سبيل المثال بمبادرة سودانية من جامعة الخرطوم في بداية الستينات. لاتحاد الجامعات السودانية أدوار مهمة ينبغي عليه الاضطلاع بها ليس أقلها التشبيك بين المؤسسات المنضوية تحت لوائه وتفعيل مشاركة وحضور السودان في المحافل المماثلة والاستفادة من الفرص التي تتيحها المنظمات الدولية عبر الاتحادات الإقليمية والقارية. كذلك وبطبيعة تكوينه يمكن للاتحاد عبر هياكله وضع تصورات وخطط للارتقاء بالتعليم العالي في السودان وفق استراتيجيات التعليم العالي المجازة من الدولة. يمكن للاتحاد كذلك تنظيم العديد من الفعاليات من التدريب المتخصص الرامي لرفع مقدرات الأعضاء فيما يخص العملية الأكاديمية والإدارية وكذلك يمكنه المساهمة عبر طبيعة تكوينه في استقطاب الدعم للمشاريع القومية من المنظمات الدولية والمنظمات غير الربحية المهتمة بمشاريع التعليم في الداخل والخارج. من المهام التي يمكن للاتحاد الاضطلاع بها كذلك إعداد الدراسات عن واقع التعليم العالي والبحث العلمي في البلاد ورفع مقترحات التطوير بناء على ذلك، والعديد من النشاطات التي يمكن تفصيلها في مكانه. خلاصة القول إن اتحاد الجامعات السودانية يمكن ان يكون من الروافع الهامة في تطوير التعليم العالي في السودان أن توفرت العزيمة والاهتمام من قبل العضوية، ولعل أول الخطوات تكون بتشييد المقر الدائم للاتحاد.
خاتمة: ليس من الوارد أن يكون السودان بعد الحرب هو نفسه بعد الحرب. من المؤسف أن الطبيعة البربرية للحرب الأخيرة سيكون لها من التداعيات المجتمعية والثقافية الكثير من الأثر السيء، ولئن كانت هذه المقالة قد ناقشت وضع التعليم العالي فذلك لا يعني إهمال ارتباط تلك التداعيات وارتداداتها على التعليم العالي مثلا، ولكن ذلك مبحث آخر. بالطبع كل ما ذكر أعلاه من الأفكار والمقترحات يقبل النقد والتصويب بل والرفض إن ثبتت عدم وجاهته، وهناك مسائل أخرى لم تناقش هنا من مثل أهمية قيام المدن الجامعية والاهتمام بالعاملين في التعليم العالي وجانب البحث العلمي على سبيل المثال. ويطلب كاتب المقال من المهتمين أن يدلو بدلوهم في هذا المجال رغم ما يمر به السودانيون تحت ظل هذه الحرب من ضنك العيش وانسداد السبل، بعض أسباب ذلك أنه لا تلوح في الأفق نهاية منظورة للخراب الذي نحن فيه، ولكن الله غالب على أمره.

wmelamin@hotmail.com

 

آراء