واجبٌ عسير الهضم

 


 

عمر العمر
6 September, 2022

 

aloomar@gmail.com

ثمة منحنى طويل بين ذروة الوعي وسط جماهير الثورة وسفح ما لدى الساسة. من أبرز تجليات ذلك البون تباين الرؤى تجاه المؤسسة العسكرية. فبينما تتشدد الجماهير في موقف واحد حاسم منادية بخروج الجيش من المسرح السياسي، تلتبس القوى الحزبية نظرات ضبابية مختزلة المسألة في احترام الجيش. هم يذهبون في ذلك لجهة الفصل بين المؤسسة العسكرية وثلة جنرالات القيادة. هذا فصل تعسفي مستهدف للتعمية. فطاقم القيادة ليس غير نتاج ثقافة متوارثة داخل الثكنات. جميع الانقلابين هم قطاع طرق حركة الجماهير المنظمة .كلهم تآمروا على الحركة الوطنية إذ صادروا حقوقها في حرية الاختيار ،التقدم والبناء في مناخات الديمقراطية المعافاة.
*****

ذلك طابع الانقلابات الخمسة. رغم تباين رؤانا حيال أوسطها- إنقلاب سوار الدهب المضاد للمد الشعبي المتصاعد وقتذاك -. إلا أننا أدركنا لاحقاً نفاذ جون غرنغ عندما وصمه (مايو2). أسوأ من ذلك الطابع المشترك مجيء كل انقلاب مثقلًا بعناصر إنقلاب مضادة. ذلك ما أفقدنا مراكمة الثبات على التجربة الديمقراطية والإنمائية أو السلم الإجتماعي . كما زادنا توغلًا في الاستقطابات الحادة على الصعيد السياسي وداخل الثكنات العسكرية. لتلك الاستقطابات كُلفٌ تثقل كاهل أجيالنا المتلاحقة. خسارة الجنوب تمثل أفدح خسائرنا في ظل الأنظمةالعسكرية . تلك فاتورة بدأنا دفع مستحقاتها الباهظة مع عبود واستكملناها مع البشير.
*****

كل الانقلابين لم يبددوا فقط أعمارنا ،جهودنا وأزماننا ،بل طالت مغامراتهم ثوابت قيمنا النبيلة وكريم أخلاقياتنا الموروثة.مع ذلك يجاهر فينا الطفيليون المتسلقون من الساسة بضرورة احترام المؤسسة العسكرية باعتبار ذلك الاحترام فضيلة وطنية. جميع الانقلابين انتهكوا حرمة الدستور و جعلوا الجيش قوة انكشارية تحمي أنظمتهم الباطشة الفاشلة من أجل تأمين بقائهم. ذلك لم يتورعوا عن تصفية منافسيهم من رفقاء السلاح خارج القيم المهنية والأخلاقية . نظام عبود أصبح أول سلطة وطنية تعدم ضباطا سودانيا. بل تمادى النظام في غيه المكابر فضنّ على خمسة من أنبل ابناء الشعب الموت بالرصاص كما تقتضي قوانين القوات المسلحة فأرسلهم إلى المشانق في ١٩٥٩! هي الغلظة الثأرية ذاتها خارج الطبع السوداني المفضية إلى حمام الدم في دار الضيافة في١٩٧١ و معسكر الشجرة.
*****

شهوة السلطة تغلب على جميع الانقلابين حد العمى ليس عن الشعارات النبيلة المرفوعة على فوهات الدبابات والبنادق فحسب بل كذلك عن علاقات رفقة السلاح. ففي حمى تلك الشهوة يفقد الجيش ضباطا لا يتميزون فقط بالحس الوطني بل يتسمون بالشجاعة، شدة البأس وحسن القيادة .قوائم الإحالة إلى الاستيداع ، الطرد من الخدمة لاتقل عن المساقين إلى القبور الجماعية و الإعدامات الثأرية مقابل ترفيع المتواطئين خصمًا على انضباط التراتبية .بما ان الأنظمة العسكرية لا تقوى على البقاء دون سند جماهيري يلجأ الإنقلابيون دوما إلى اجتذاب فئات إنتهازية في محاولات محمومة لاختلاق (حاضنة مدنية).تلك الغاية لا تمنعهم من التأرجح بين فئات متباينة حد التناقض.النميري أكثر من غيره ممارسة لتلك اللعبة الوبالية.
*****

بغض النظر عما ما إذا تسلّم عبود السلطة خفية من وراء ظهر حزب الأمة أو بعلمه كما أورد الحقوقي العالم والمؤرخ السياسي فيصل عبدالرحمن علي طه فالمتداول في السرد الحزبي حنث الجنرال عن وعد برد السلطة إلى أصحابها. الثابت في التاريخ تمرد جعفر نميري على )الضباط الأحرار)التنظيم حامله إلى رئاسة مجلس الثورة والدولة إذ أعلن حل ذلك التنظيم بدلا من الخضوع إليه كما أبان محمد محجوب عثمان .من أجل البقاء في السلطة لم يتردد النميري في إرسال عبد الخالق محجوب - وهو عراب اليسار-الى الخارج ثم إلى الحبس الإنفرادي داخل ثكنة عسكرية. فإلى المشنقة .هو العقوق نفسه حامل الانقاذيين على عتبة الانقلاب على إطالة إقامة حسن الترابي -عراب النظام -في محبسه الاختياري ثم نصب الإقامة الجبرية عليه لاحقا قبل وبعد نفيه خارج النظام.ذلك في سياق عملقة المغامرين مقابل تقزيم المفكرين.
*****

كل الأنظمة العسكرية تتحول إلى دولة بوليسية تتعدد تحت وطأتها أجهزة المراقبة ، الملاحقة والقمع والتعذيب.هو تعدد يفضي إلى التنافس فالتناحر فالتنازع ثم التصادم المفضي إلى نشوء مراكز القوى.هذه غالبا بداية فناء الأنظمة الديكتاتورية .تلك بدعة استنها النميري واستنسختها الانقاذ بوحشية خرقاء ولم تفلح في تأمين ظهرها وصدر ها من غضب الشعب. كذلك ابتدع نميري فكرة المؤسسة التجارية لصالح الجيش بغية الاغداق على الضباط .على المنهج نفسه مضى عليه البشير وبالنهج الأخرق ذاته .كلاهما سعيا إلى تشكيل طبقة محدثة خارج هيكل المجتمع التقليدي..
*****
ضحى ثورة اكتوبر ١٩٦٤ تلقى سر الختم خليفة رئيس الوزراء مذكرة باسم الجيش تطالب بتطهير القوات المسلحة وتحديث عتادها وتحسين اوضاع جنودها. لكن المذكرة العسكرية الأشهر هي مذكرة فبراير ١٩٨٩ فهي ذات ملمحين عسكري وسياسي. لذلك اعتبرها الصادق المهدي رئيس وزراء حكومة الأمة-الجبهة الإسلامية الائتلافية مشروع انقلاب. عسكري على النظام الديمقراطي.
المذكرة تحولت إلى عظمة نزاع فجائية في العراك الحزبي السائد وقتئذٍ. في نوفمبر ١٩٨٥ وقّع الجيش مع الأحزاب والنقابات ميثاقاً. للدفاع عن الديمقراطية يلتزم فيه ب(الدفاع عن التراب السوداني وحمايته وحماية النظام الديمقراطي ) كما يلزمه بالنأي عن العمل السياسي. الجيش انحاز لانقلاب الإخوان في انتهاك فاضح للميثاق القائل كذلك ( لايجوز لأي جهة سياسية ان تنشئ أو تؤيد داخلها مراكز قوى.
*****

ما يزيد صحائف الانقاذ أوزارًا ذهابها على طريق إضعاف الجيش لجهة الاستقواء بأذرع أمنية مغايرة حد تشكيل ميلشيات . هذا خرق فاضح لذلك الميثاق البرهان كسابقه اتكأ على قادة الميلشيات اكثر من الاستناد على الجيش في مواجهة الشعب وثورته! لعل كل هذا الركام من الخطايا في حق الوطن يجعل مسألة احترام المؤسسة العسكرية واجبًا عسير الهضم، إن لم يكن خطيئة . حتما لاتستثني في النقد القوى السياسية من الزج بالجيش في اللجة السياسية. ولو أنها حرصت كلها أو بعضها على تكريس منسوبيها داخل الثكنات من أجل احباط مخططات المحاولات الانقلابية او إخمادها في مهدها لخرجنا من دوامة ما بتنا نطلق عليه (الدائرة الشريرة)
*****

 

 

آراء