اعلان السيد وجدي صالح كمتهم هارب بين القانون والسياسة

 


 

 

طيب الله أيام أستاذنا د. عبد الله أحمد النعيم الذي كان يلقي في روعنا ونحن طلاب في مدرجات الجامعة، ضرورة احترام القيمة الانسانية عند استخدام أدوات القانون الجنائي وعدم تعريض المتهم لأي عنت غير لازم، بما في ذلك أساليب إحضاره والقبض عليه وتفتيشه. فمثل هذه الأدوات لا تستخدم استخداماً جامداً وإنما يراعى فيها التيسير، وأن المتهم برئي لم تثبت في مواجهته تهمة. ولا تزال أمثلته التي يلقيها على طلابه ماثلة (إذا كان من الممكن اخطار شخص معروف في مدينة صغيرة للتحري معه فلماذا يتم القبض عليه. وإذا كان ممكنا تنفيذ أمر القبض دون تشهير فلماذا يعلن عنه في الصحف؟ ). وقد أوضح هذا المفهوم قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 الذي يضبط استخدام صلاحيات الاحضار والقبض والتحري فأورد في مادته الرابعة ضرورة مراعاة قواعد عامة عند تطبيق القانون ومنها (يراعى الرفق كلما تيسر في إجراءات التحري والاستدعاء ولا يلجأ لممارسة سلطات الضبط إلا إذا كانت لازمة).

الأسلوب الذي لجأت إليه نيابة الخرطوم شمال بإعلان السيد وجدي صالح متهماً هارباً، يرفع أكثر من مؤشر على أنه فعل يحمل مضامين سياسية أكثر من كونه عملاً قانونياً صرفاً يتعلق بممارسة صلاحيات التحري والتحقيق لتحضير ملف وتقديمه للمحاكمة. فنص المادة 78 من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 الذي اعتمد عليه وكيل النيابة الأعلى لقطاع الخرطوم شمال في إعلان السيد وجدي صالح لا يمنحه الحق في إخراج الإعلان على النحو الذي صدر به في الصحف. فتورد المادة (إذا كان لدى وكيل النيابة الأعلى أو قاضي المحكمة الجنائية ما يحمله على الاعتقاد بأن الشخص الذي صدر ضده أمر القبض قد هرب أو أخفى نفسه ليحول دون تنفيذ الأمر فيجوز له أن ينشر إعلاناً مكتوباً يطلب فيه من ذلك الشخص تسليم نفسه لأقرب نقطة شرطة في مدة لا تجاوز أسبوعاً واحداً من تاريخ نشر الإعلان وأن يطلب فيه من الجمهور المساعدة في القبض عليه.)
هذا النص يوجب على وكيل النيابة الأعلى أن يتأكد من أمرين
1- أن يكون هناك أمر قبض قد صدر في مواجهة المتهم،
2- أن يكون هناك ما يحمل وكيل النيابة الأعلى على الاعتقاد بأن من صدر الإعلان ضده قد هرب أو أخفى نفسه لتعطيل تنفيذ الأمر.
والوضع المهني والاجتماعي للسيد وجدي صالح يجعل من العسير التسليم باستيفاء هذه الشروط، فهو كما ذكر عن نفسه (لست هارباً وموجود في الشوارع والندوات وفي منزلي، حتى المتحري يعلم منزلي لأنه يسكن في ذات الحي)

بالنظر لصياغة النص فإن من واجب وكيل النيابة أن يتحقق بصورة كافية ليس فقط من غياب من صدر الأمر ضده أو عدم وجوده، وإنما يجب التحقق أيضاً من وجود بينات كافية على أنه قصد أن يتفادى تنفيذ أمر القبض، بمعنى التحقق من وجود عنصر معنوي على الهروب أو تعطيل تنفيذ أمر القبض. والحكمة من ذلك أن الاعلان بالنشر أمر استثنائي يصعد من مهمة تنفيذ أمر القبض وتوسيع نطاقه من مستوى الشرطة لتكليف الجمهور بالمساعدة في القبض، ومن ثم يتعين وجود بينات على عنصر معنوي يتعلق بقصد من صدر ضده أمر القبض بتفادي تنفيذ أمر القبض.

وبالطبع فإن عبارة (ما يحمله على الاعتقاد) لا يتم وزنها بمعيار شخصي يخص وكيل النيابة الأعلى وإنما بمعيار موضوعي يتعلق بوجود بينات مادية وأسانيد حقيقية على ما يدعم فكرة الهروب للحيلولة دون تنفيذ أمر القبض. فتحديد أن المطلوب القبض عليه قد سعى لتفادي تنفيذ أمر القبض يتطلب قراراً مسنوداً، وليس مجرد اعتقاد شخصي. ومن أمثلة التجاوزات في ممارسة هذه الصلاحية الإعلان بالنشر الذي أصدرته النيابة لأحد المتهمين في المحاولة الانقلابية التي جرت عام 2005 وتبين أنه كان يحضر جلسات المحاكمة. ومن ثم لم تبذل النيابة الجهد الكافي للاستيثاق من قيام المتهم بتفادي تنفيذ أمر القبض.

أكد قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991 على استثنائية الاعلان بالنشر للمتهم الهارب بأن منح صلاحية إصداره لوكيل النيابة الأعلى وهي وظيفة تتطلب أن يكون صاحبها قد مارس المهنة القانونية لفترة طويلة، حيث أن قانون النيابة لسنة 2017 أجاز التعيين فيها من المستشارين القانونيين أو القضاة السابقين على أن لا تقل خبرته عن خمسة عشر سنة، وإحالة هذه الصلاحية لوكيل النيابة الأعلى تعني ضرورة التأكد من أنها تمت على نحو صحيح يراعي حقوق من يصدر الإعلان بشأنه، وليست مجرد صلاحية عادية مثل الصلاحيات الأخرى لوكيل النيابة.

على النيابة أن تكون طرفاً محايداً في مباشرة الإجراءات الجنائية وليست خصماً وأن تعكس هذا الحياد من خلال إجراءاتها، وهذا ما سعت له فكرة فصل النيابة عن وزارة العدل.

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com
///////////////////////////

 

آراء