الإنفجار البركاني – هل هو آتٍ ؟ … بقلم: د. عمر بادي

 


 

د. عمر بادي
23 January, 2012

 




عمود : محور اللقيا
قبل شهر مضى كنت قد كتبت مقالة فنّدت فيها المزاعم التي وردت على لسان قيادة حكومة الإنقاذ من أن الربيع العربي قد زار السودان منذ عام 1989 , اي منذ إستيلائهم على السلطة ! أبنت في تلك المقالة الفرق الشاسع بين الحكومات الشمولية التي تأتي عن طريق الإنقلابات العسكرية و تلك المدنية التي تأتي عن طريق الإنتخابات الديموقراطية , و ضربت أمثلة برؤى بعض الأحزاب و الحكومات الإسلامية كحزب الفضيلة في تونس و حزب الحرية و العدالة في مصر و حزب العدالة و التنمية في تركيا , و أتيت بمثالين للتطور و الرقي في ظل حكومات مسلمة كما في تركيا و ماليزيا , و كعادتي في تحليلاتي السياسية سألت : هل ثمة إصلاحات ترتجى من نظام الإنقاذ ؟ و أجبت على سؤالي بأنه : ( رغما عما يكتنف أقطار الربيع العربي من تغييرات عدة , أجد أن الواقع الإنقاذي في السودان لا يعير كل تلك التغييرات إهتماما , بل يواصل مسيره على نفس الخطى الأولى ممهدا لجمهوريته الثانية و لإجازة الدستور الدائم للسودان الذي بدأت تترى ملامح الإجماع عليه بأن يكون صنوا للمؤقت الحالي و شاملا لقوانين سبتمبر و قوانين النظام العام , دون تأثر بأي من التجربتين الناجحتين في تركيا و ماليزيا و ما يحدث من تحول ديموقراطي في أقطار الربيع العربي ) .
منذ الأسبوع الماضي و المذكرات المطلبية تتهاطل على قيادة حزب المؤتمر الوطني من قواعده الوسيطة و العليا حتى وصلت الآن إلى خمس مذكرات , كلها تطالب بالإصلاحات العاجلة و إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يقع الفأس في الرأس . إن أخطاء الإنقاذيين عديدة و موغرة في صدور الشعب , و الوطن قد ظل مستباحا لهم لردح من الزمان حتى فقد ثلثه , و الحروب  صارت ناشبة في كل الإتجاهات , فهل بعد كل ذلك يفلح عطار المؤتمر الوطني في إصلاح ما أفسده الإنقاذيون ؟ و هل يظن هؤلاء أو غيرهم أن القادة الإنقاذيين لا يعرفون كيف يكون التطبيق الديموقراطي الحق ؟ لطالما حاولهم الناصحون من قادة أحزاب المعارضة و من الكتاب الصحفيين و الحادبين على مصلحة الوطن , و أنا منهم , و لكنهم قد إختطوا نهجا لا سبيل إلى تبديله , لأن في تبديله قضاء عليهم , فمنذ بداية إنقلابهم و إستيلائهم على السلطة سلكوا طريق القهر و التعذيب و الإقصاء و النفي و الإبعاد و قطع كل طريق على أي تغيير عسكري أو مدني يمكن أن يحدث , و ذلك بتسريح غير الموالين لهم من الجيش و الأمن و القوات النظامية الأخرى , و بإحالة النقابيين و المعارضين إلى الصالح العام , و بخلق كوادر حزبية تكون عينا على الآخرين و عونا لهم , و أتوا بالتمكين حتى يصير ما يحدث من تجاوزات مستورا بينهم بلا محاسبة قانونية و إنما المحاسبات تكون حزبية داخلية كما ذكروا ! لقد إنتشر الفساد الحكومي في أرض السودان و قد أوردت الصحافة أمثلة عدة له و بالصور الموثقة للقصور الفارهة و للبنايات و الأبراج العالية و للمزارع التي تحسب مساحتها بالكيلومترات المربعة و للشركات المتعددة و الإستثمارات داخل و خارج السودان , و لكن كان رد الإجهزة العدلية و الرقابية لا يتعدى الصمت المطبق !
في كل أمثلة الحكم الشمولي لا يأتي الحاكم إلا و الإعلام معه , و لذلك فإن إعلاميي السلطان هم الأحسن حالا في ظل سلطانهم الشمولي , لأنهم هم الذين يجعلون من ( فسيخ ) أفعاله ( شرباتا ) يتجرعه الآخرون , و يزيدون من تأثير ذلك بكثرة إطلاله على الناس في اللقاءات العامة و الخطب الجماهيرية و في أجهزة الإذاعة و التليفزيون و الصحف و بتعليق صوره في كل الأمكنة . شتان بين هذا الحاكم الشمولي و ذاك الحاكم الديموقراطي الذي يكون جل همه في تطوير بلده عمليا بالإحصاءات و في إستيفاء الخطط الإقتصادية وتلبية إحتياجات عامة الناس .
الآن تمر البلاد بأزمة إقتصادية طاحنة يعاني فيها المواطنون كثيرا من الغلاء المستشري الذي أخل بالقدرة الشرائية , و السبب كما إعترفت الحكومة يعود إلى خروج 75% من عائدات البترول التي ذهبت لدولة جنوب السودان ! هذا لعمري خير مثال على إنفراد و تسلط المؤتمر الوطني في حل القضايا المصيرية في السودان , دون إشراك أحزاب المعارضة أو المستنيرين من عامة الشعب . إن عدم حصافة المؤتمر الوطني تتجلى في إتفاقية نيفاشا و بنودها المعلنة و السرية و التي إبتلعها كالطعم و كأنها في مصلحته الذاتية و لكنها مع مرور السنوات الخمس تجلت عدمية جدواها له و للسودان , و تجلت فطنة المفاوض الجنوبي و من وقف خلفه ! في البدء تم إعطاء الجنوبيين حكما ذاتيا لمدة خمسة أعوام يتعلمون فيها كيفية إدارة دولتهم المرتقبة تحت إشراف و تدريب سودانيين شماليين , مع إستمرار الخزينة المركزية في الصرف على البنية التحتية في الجنوب من أجل أن تكون الوحدة جاذبة , و لكن مع إثارة الإختلافات في وجهات النظر و التمسك بها إلى حد التشاكس , صار أمر الوحدة يميل إلى النقيض في ظل إستفتاء مرتجى في نهاية الخمس سنوات , و بذلك كانت نتيجته محسومة ! لقد تم التعامي عن شأن البترول الذي ينتج 75% منه داخل حدود الجنوب , و تم التكتم على ذلك , بل و تم نفخ أبواق الإعلام بأن إنفصال الجنوب لا يؤثر على الشمال لأن الجنوب ظل عالة على الشمال !
الآن تحاول الحكومة الخروج من نفق الضائقة المالية و العجز الإقتصادي بالإستيلاء على نسبة من عائدات بترول الجنوب حددتها هي و بدون أي تراضٍ مع الطرف الآخر , كما يقتضي قانون التعامل التجاري الإسلامي . يحدث ذلك الإعتداء و تصاحبه تحديات من مسؤولي الحكومة الشمالية لحكومة الجنوب أن يوقفوا ضخ بترولهم عبر الأنبوب الشمالي إن إستطاعوا , لعلمهم أن الجنوب يعتمد كليا في ميزانيته على عائدات البترول ! كالعادة تدخل الوسطاء الأفريقيون و إنتقل ممثلو الحكومتين إلى أديس أبابا للإتفاق على تحديد رسوم نقل البترول عبر انابيب الشمال , و ظهر البون الشاسع في الرسوم المقترحة من جمهورية السودان و جمهورية جنوب السودان , فقد إقترحت جمهورية السودان أن تكون الرسوم 36 دولارا للبرميل شاملة النقل عبر الأنابيب و المعالجة و التخزين و الشحن في السفن , بينما إقترحت جمهورية جنوب السودان أن تكون الرسوم مماثلة للرسوم العالمية في الحالات المشابهة و هي لا تتعدى في كل الحوال دولارا واحدا للبرميل . عند هذا أصر السودان أن يأخذ نصيبه و متأخراته عنوة , فكان رد الفعل الجنوبي أن أعلن وزير النفط و التعدين إستيفن ديو داو أن الجنوب سوف يوقف بالتدريج تصدير نفطه عبر أنبوب الشمال خلال أسبوع , على أن يتم نقل جزء منه بالشاحنات إلى مصفاة في أثيوبيا لتغطية الإحتياجات الداخلية في الجنوب , و سوف يتم بيع البترول داخل الآبار إلى شركات البترول العالمية لتقوم بدورها بإيصاله إلى الموانيء و تسويقه بطريقتها التي تراها , حتى يتم إنشاء خط أنابيب خاص بالجنوب يصل بين مناطق الإنتاج و موانيء شرق افريقيا .
من المتضرر أخيرا ؟ إنه السودان قطعا , فسوف يتوقف خط أنابيبه , و لذلك فسوف يضطر السودان إلى قبول رسوم ترحيل أقل بكثير مما يطالب به الآن إذا صار تعامله في ذلك الشأن مع شركات البترول العالمية و ليس مع جنوب السودان ! إن البترول المتبقي للسودان من حقلي الوحدة و هجليج لا يتعدى 180 ألف برميل / اليوم و يقل بعد خصم حصة الشركات المشاركة في الإنتاج إلى 115 ألف برميل/ اليوم , و هذه الكمية تكفي فقط للمصافي و الإستهلاك الداخلي دون أي تصدير . سبحان الله , لقد كان السودان يتوقع أن يصل إنتاجه في نهاية العام المنصرم إلى 800 الف برميل/ اليوم و يصير بذلك عضوا في منظمة الدول المصدرة للبترول ( أوبيك ) ! إن إنعكاسات أمر البترول الذي فقدناه كثيرة و بارزة للعيان و تتجلى في عدم إستقرار قيمة العملة الصعبة و في الكساد مع إنعدام القدرة الشرائية و في تراجع الإستثمار و تصفية الشركات الأجنبية لأعمالها و في تحويل الأموال إلى الخارج عن طريق السوق السوداء و في عودة العمال و الفنيين الأجانب إلى ديارهم .
إن الضرر الأكبر لحكومة المؤتمر الوطني ( العريضة ) سوف يكون في إستمرار و إستفحال الأزمة الإقتصادية الراهنة و العجز المتزايد في الميزانية و في العملات الصعبة و في إزدياد التململ الشعبي , الذي هو كالبركان يتململ و يفور داخليا قبل أن ينفجر و يخرج إلى السطح في شكل حمم حارقة لا ترحم .
omar baday [ombaday@yahoo.com]

 

آراء