الحرب في السودان: قوى التغيير والجنرال حميدتي ونهاية الحركة الإسلاموية (١)

 


 

أحمد ضحية
29 June, 2023

 

(١—٤): بعد نجاح ثورّة ديسمبر ٢٠١٨ في تقويض "البُنية الفوقية" لنظام الحركة الإسلاموية، بدى واضحاً أنه ليس من الحكمة؛ طلب التغيير بواسطة السلاح لـ(بناء سودان جديد)، في ظل ظروف وتركيبة السودان، بتعقيدات أزمته التارّيخية الطاحنة والمزمنة.
لكن، وبعد أن فرضت الحركة الاسلاموية الحرب على الجميع، وأصبح لا مناص من تدخل (قوى التغيير)، وجدت كل أطراف الصرّاع نفسها مشدوهةً على مفترق طرق؟!
ففيما تسرّب إلى قوى الحرّية والتغيير/المجلس المركزي (الموقعة على الإتفاق الإطاري)، اعتقاد أن (التغيير في مركز السلطة في الخرطوم)، بالإمكان إحداثه سلمياً عن طريق الاختراق التدريجي، المرجو من تفعيل (الاتفاق الإطاري). متخذةً بذلك منحىً (إصلاحياً)، لا يفضي إلى (تغيير جذري) حاسم، كالذي يدعو له قادة قوى مسلحة ك(الحلو وعبد الواحد). بالتالي يتعارض (شكلياً) إلى حد كبير؛ مع أُطروحات (قِوى مدنية) أخرى؛ تدعو إلى تغيير جذري؛ غاضةً في تقديراتها الطرف عن هشاشة الدولة السودانية، التي تمكن من مفاصلها سوس الاستبداد و الفساد بكل أشكاله وأنواعه..
الإصرار وقتها على تغيير جذري سريع وحاسم؛ بتطبيق شعار "العسكر إلى الثكنات والجنجويد ينحل"، لا شك كان يعني خوض البلاد لحرب مع الفلول، قد تشمل بمرور الوقت القِوى القديمّة، وتتحوّل إلى حرب أهلية ضارية؛ متعددة الأطراف والتوجهات والمصالح.
وذلك لأن "قوات الدعم السريع"، التي حصلت على وضع وإمتيازات ومكاسب غير مسبوقة، وأصبحت مركز نفوذ لا يمكن تخطيه في أي ترتيبات، لم تكن على استعداد؛ أن تتنازل عن ما حققه لها تحالفها مع "نظام اللجنة الأمنية"، الذي تجاوزته تطلعاتها بعد الثورّة، فأصبح كلاهما يتربص بالآخر!
كذلك جنرالات "اللجنة الأمنية"، الذين اختطفوا القوات المسلحة والقِوى الشرطية والأمنية الأخرى، من طبيعتها ووظيفتها، واستغلوها منغمسين في البزنس والسياسة والسمسرة، لم يكن لديهم أدنى استعداد للتنازل عن السلطة على الدولة؛ التي حصلوا عليها بوضع اليد في ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وأداروا من خلالها البلاد كورَّثة للنظام البائد؛ الذي قوضته ثورة ١٨ ديسمبر ٢٠١٨؛ كوكلاء للحركة الإسلاموية، على إقطاعية اعتبرها فلول النظام البائد من إرث آبائهم، وربطوا وجودهم واستمرارهم وبقائهم بها، بالتالي ربطوا وجودهم باستمرار وبقاء السودان القديم!
وعلى الرُغم من التوجه "السلمي الإصلاحي لقوى الإطاري" إلا أن الحركة الاسلاموية ووكلائها في اللجنة الأمنية، رأوا في (الإطاري) خطراً داهماً يتهدد مصالحهم، يجب أن يتم قطع الطريق عليه!
ومن هنا بدأت الحركة الاسلاموية في تغيير خُططها في العودة إلى السلطة، وهي خُطط متنوعة؛ ظلت نشطة منذ سقوط نظامها بثورّة ديسمبر ٢٠١٨، بدءً بالتشبث بتلابيب اقتصاد البلاد، وصناعة الأزمات وتفعيل عناصرها الفاسدة في الخدمة المدنية والشرطية والأمنية لخلق مزيد من الأزمات، مروراً بالتخطيط (للاستيلاء الكامل على السلطة) عن طريق (انقلاب دموي محدود)، وصولاً إلى (حرب سريعة وخاطفة).
ويتضح الآن أن تقديراتها حول "الانقلاب الدموي المحدود" و(الحرب الخاطفة) التي وعدت بها نفسها كانت خاطئة. إذ تحوّل الانقلاب الدّموي المحدود والحرب السريعة الخاطفة، التي لا تتعدى ساعات؛ إلى حرب طاحنة، اسالت أنهاراً من الدماء؛ وأحدثت تخريباً و دماراً واسعاً في البُنية التحتية ومنشآت الدولة ومساكن المواطنين، ما جعل التهديد يتجاوز مصالح الحركة الاسلاموية ولجنتها الأمنية، إلى صراع بقاء ووجود! بعد أن عمدت إلى ربط بقائها ووجودها بمصير ووجود الشعب ووحدته ووحدة أراضيه!
بالتالي باندلاع الحرب واستمرارها، وما ترتب على ذلك من تداعيات كارثية، وخيبة أمل الحركة الاسلاموية؛ بفشل خُططها التي ظلت تعمل عليها لأربعة سنوات. ومع طول فترّة القتال، والهزائم المتتالية التي تعرضت لها، لم يعد استمرارها في القتال للعودة إلى السلطة ذا أهمية، أكثر من أهمية الحفاظ على بقائها مستقبلاً في المشهد السياسي، فـ(البقاء) أصبح هو الهدف الرئيسي، وهو ما يفسر رفضها المستميت في إيقاف القتال، واستمرارها في الدفع ببعض فلذات أكبادها، للزود عن حياض هذا الوجود المستقبلي، الذي لم يعد ثمَّة ضامن له سوى تحسين شروط تفاوض ميليشتها داخل الجيش، وإلا فالبديل هو قيادة البلاد إلى أتون حرب أهلية باستخدام القبائل، تهون مع تمزقاتها كل دعاوي طلب القصاص!

(٢—٤): من الجانب الآخر؛ نجد أن القوى التي تطلق على نفسها توصيف (قوى السودان الجديد) المسلحة منها والمدنية، ظلت تؤمن بأن بناء سودان جديد لن يحدث، مالم يتم إحداث اختراق نّوعي في (مركز السلطة في الخرطوم)، سواءاً تم هذا التغيير عسكرياً أو مدنياً!
لكن الحركات المسلحة من القوى المنادية بهذا النّوع من التغيير في (دارفور، النيل الأزرق، كردفان)، على ضوء المستجدات وتداعيات الأحداث، بدلاً عن الاستجابة السريعة لإحداث هذا النّوع من الاختراق بأقل تكلفة ممكنة، حتى لا يطول أمد الحرب وتطول معاناة الشعب، وهو اختراق لا يتأتى إلا بهزيمة الحركة الاسلاموية هزيمة ساحقة، تعبد الطريق لبناء سودان جديد، ظلت تدعو له.. بدلاً عن ذلك عبرت عند اندلاع الحرب عن توجهات متباينة:
فالقوّة المسلحة الرئيسية في النيل الأزرق (عقار)، و القوتين الرئيسيتين في دارفور (مناوي وجبريل) وقوى أخرى، فيما زعم بعضها الحياد، تورط بعضها الآخر في الحرب لصالح السودان القديم، الذي بدى واضحاً أنها تريد استمراره بشدة، بتحالفها المصيري مع المليشيا الاسلاموية القائدة للحرب، والتي تتطلع عبر لجنتها الأمنية، إلى إعادة نظامها البائد إلى السلطة، لتكشف بذلك حركة عقار وحركتي مناوي وجبريل، أن ادعائها الكفاح في سبيل المهمشين في النيل الأزرق ودارفور، وقومية توجهاتها وتطلعها إلى سودان جديد ديمقراطي مدني؛ خال من المظالم والتهميش. ليس سوى مجرد (قناع وادعاء انتهازي كاذب)؛ بابتزاز قوى السودان القديم، للحصول على رشاوى وامتيازات أسرية وقبلية.
وكشفت هذه القوى، أن مصالحها الحقيقية كحركات مسلحة تدعي الانحياز إلى جماهير الهامش، مرتبطة جذرياً بمصالح قوى السودان القديم الفاسدة! وأن بناء سودان جديد، في الحقيقة يتعارض مع توجهاتها الانتهازية والطفيلية، التي تنهض في استنزاف ثروات وموارد السودان لصالحها، بذات نهج الحركة الاسلاموية الطفيلية، التي فتحت لقادة هذه الحركات أبواب البيزنس، ومدتهم بخبراتها في النهب المنظم، بالخُطى نفسها التي كانت قد خطتها مع قادة الدعم السريع، لضمان ولائهم وحماية نظامهم، إلى أن اشتد ساعدهم ورموها بنبالهم!
نهج الرشاوي الوظيفية والمالية، الذي ظلت تتبعه الحركة الاسلاموية، أشعل أيضاً أطماع بعض الطامحين، من الذين لفظتهم حركاتهم وتنظيماتهم، ووجدوا في التحالف مع الإسلامويين؛ وسيلة لوضع أقدامهم في سلم النهب المنظم للثروات والموارد (اردول وعسكوري)، متأسين بالمثل "دار أبوك كان خربت شيل ليك منها شلية". فوجد هؤلاء وأولئك أنفسهم في تحالف واحد مع حركتي (مناوي وجبريل وحركة عقار/ الجبهة الثورية والكتلة الديمقراطية).
ولذلك عند اندلاع الحرب، لم تتردد هذه الأطراف في الاصطفاف لصالح حرب الحركة الإسلاموية، بإسنادها إعلامياً وعسكرياً وسياسياً!
وهكذا سقطت آخر ورّقة توت تغطي مزاعمهم في سودان جديد، لتبادر قوات الدعم السريع بالتقاطها وإشهارها في وجوه الجميع، تملأ بها فراغ عدم امتلاكها لمشروع وطني، وهكذا بتبنيها للمشروع الذي تخلى عنه أصحابه، أعطت حربها مبرراً أخلاقياً وفكرياً وسياسياً، خصوصاً بعد أن اختارّت بعض قوى السودان الجديد المدنية، منزلة بين المنزلتين، في موقفها من هذه الحرب! ووقفت تراقب المجريات في توجس!
في الأثناء ظلت توجهات قوى مسلحة، كالتي يقودها عبد الواحد والحلو، تراقب مآلات الحرب لقرابة الشهرين، إلى أن تحرك الحلو عسكرياً في جنوب كردفان، واستولى على بعض المناطق، ومن ثم يمم وجهه إلى مناطق النفوذ التاريخي للحركة الشعبية لتحرير السودان في النيل الأزرق، لانتزاعها من عقار.
ومع ذلك لا يزال من الجهة الأخرى صمت عبد الواحد ميدانياً يشوبه الغموض! وفي الحقيقة لا أحد يستطيع ادعاء معرفة حقيقة ما يدور في ذهني قائدي الحركتين (الحلو وعبد الواحد) الداعيين لسودان جديد ديمقراطي مدني موحد، تتبدد فيه مخاوف الشعوب؛ وتزول فيه أسباب التهميش!
الأيام وحدها كفيلة بكشف مدى صدق هذه الدعوة، مثلما كشفت أن قادة حركات مسلحة مثل عقار ومناوي وجبريل، ليسوا أكثر من خنجر في خاصرة المهمشين، ورؤية ومشروع التغيير في السودان!

(٣—٤): غني عن القول أن أي تغيير جذري في (بُنية السودان القديم) من الأطراف، ثبت أنها غير ممكنة، فمحاولات التغيير من الأطراف اندلعت منذ تمرد توريت في ١٩٥٥، بل لا نبالغ إذا زعمنا أن اعتراض البطل الخالد، الشهيد علي عبد اللطيف على خطاب كشة في ١٩٢٤، كان إرهاصاً مبكراً عن مدى المخاطر، التي ستواجه سودان ما بعد الاستعمار الإنجليزي، إذا لم يتم اعتماد الهُوية السودانية، عندما أصر باستبدال كلمة السودانيين بدلاً عن العرب في مخاطبة الشعب!..
واستمرت محاولات التغيير من الأطراف خلال الحروب الطويلة، فيما أصبح يعرف بالمناطق المهمشة، والتي لم تنتهي بفصل الجنوب، لعدم معالجة المشكلة الأساسية التي تتسبب في الحروب من جذورها، والمتمثلة في المواطنة المتساوية بلا تمييز!
فقوى السودان القديم (حاضنة مركز السلطة) التي وجدت في الحركة الاسلاموية الواجهة الفعالة في الحفاظ على مصالحها، ظلت تلتف على كل الحلول الممكنة، التي انطوت عليها تلال من الاتفاقيات المتراكمة، على مدى العقود الثلاث الأخيرة! ولذلك بدى واضحاً أن أي تغيير في بُنية السودان القديم، لا يمكن أن يحدث بالتمرد في الأطراف، وإنما بتغيير مركز السلطة نفسه!
ولذلك عندما عبرت "الوثيقة الدستورية"، عن مثل هذا النوع من الطموحات، بما حملته من بعض مطالب الثورة في التغيير، أسهمت بذلك في إشعال فتيل التناقضات التاريخية والمعاصرة في مركز السلطة، وهو ما يفسر الاستدعاءات المتبادلة للتاريخ المهدوي، وبعض الوقائع إبان الاستعمارين التركي والإنجليزي؛ في بعض خطابات أنصار طرفي الحرب الجارية الآن. وهو استدعاء يدلل من الجهة الأخرى؛ على عمق وتجذر أسباب هذه الحرب؛ في القوانين التي ظلت تتحكم في صياغة البُنى الاجتماعية للسودان القدِّيم!
وعلى أي حال؛ لم تكن تفاعلات هذه التناقضات التي أشعلت فتيلها "الوثيقة الدستورية"، كافية لتفجير مركز السلطة بأزماته التارّيخية المتراكمة لعقود طويلة، ولأن الدولة العميقة كانت ولا تزال تعي تماماً، أنها ستكون أولى ضحايا أي انفجار يحدث في مركز السلطة، سواءاً كان انفجاراً محدوداً، كالذي أحدثته "الوثيقة الدستورية"، أو واسعاً كالذي أحدثته هذه الحرب، عمدت إلى محاصرة هذه التناقضات، وقطع الطريق على تفاعلاتها بانقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، والذي لم يكتب له النجاح! فاجهاض الانقلاب للوثيقة الدستورية، أدى إلى استرداد الثورّة لشعاراتها كاملة، وأدى إلى استعادة القوى الثورية لتوازنها، الذي كانت قد استهدفته اللجنة الأمنية بشتى الأساليب، للحد من نشاط قوى الثورة في التغيير، بالتالي الحد من قدرتها كفتيل تفجير لمركز السلطة.
إذن، شكَّل اجهاض الوثيقة الدستورية أيضاً مشكلة لمركز السلطة، إذ أدى إلى نتيجة عكسية، ولذلك حاول مركز السلطة التوصل لاتفاق جديد، يحتشد بالكوابح المانعة لتفجيره كمركز، ومن هنا جاءت فكرة (قوى الانتقال/الكوابح) لتمييزها عن (قوى الثورة)، في البلورة النهائية للاتفاق الإطاري.
ومع ذلك انقسمت توجهات (الدولة الموازية) حول هذا التصور إلى فريقين: فريق لا يؤمن بفكرة (الكوابح)، ويظن أن (استرداده للسلطة)، هو الوسيلة الوحيدة لمنع مركز السلطة من الانفجار، وبالتالي زوال السودان القديم! و تبدُد نفوذ كل القوى والحركات، التي ربطت مصالحها ببقائه.
وفريق يرى أن الاتفاق الإطاري، إذا تم الالتزام به سيمنع انفجار مركز السلطة، ولكن سيؤدي إلى تغييره تدريجياً، وبإمكانهم في الأثناء النجاة بمصالحهم بهدوء تام، دون صدام مع القوى الصاعدة لبناء مركز سلطة جديد، أو دولة جديدة تعبر عن تطلعات وأحلام قوى الثورة.
وفيما انشغل الفريقان بإثبات وجهة نظريهما، كانت تناقضات مركز السلطة، قد وصل بها السجال حول الاطاري إلى ذروتها، وبدأت تفاعلاتها تصل إلى نهاياتها، ومن ثم اندلعت الحرب في انفجار مباغت مدوي لمركز السلطة، وبالتالي ليست هناك أي أهمية لمعرفة من أطلق رصاصة الاشتباك الأولى، فالانفجار كان حتمياً، يمكن أن يحدث لأي سبب من الأسباب.
الخلاصة هنا: سواء كانت هناك قوات دعم سريع أو لم يكن لها أي وجود، كان مركز السلطة لا محالة سينفجر عاجلاً أم آجلاً، بحكم تراكم تناقضاته الذاتية. كما أن قوات الدعم السريع وجدت نفسها في هذا المناخ المعقد، الذي صنعته الثورة بكل زخم أدبياتها، في خضم أزمة تاريخية تفوق قدرتها على استيعابها، وشاءت أم أبت حتماً ستتأثر بهذا المناخ، الذي اكتشفت خلاله، أنها هي نفسها مظهر من مظاهر هذه الأزمة الكبيرة المعقدة!
ومن جهة أخرى ساهم زخم ثورة ديسمبر المجيدة، في تغيير تركيبة الدعم السريع، التي رفدت نفسها بعناصر جديدة لإضفاء طابع قومي، طال البنية والتركيبة القبلية وهيكلة قواتها، وهكذا لم يعد محمد حمدان دقلو الملقب بـ"حميدتي"، هو الشخص نفسه الذي أصبح منذ العام ٢٠١٠ قائداً لقوات الدعم السريع. فقد ولد على أنقاضه شخص آخر جديد!
وفي الحقيقة، بعد أن برزَ اسمهُ خلال ثورة ديسمبر ٢٠١٨ تدرج دقلو بسرعة البرق، إذ تولى في ١٣ أبريل ٢٠١٩ منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي عبدالفتاح البرهان، ومنذ تلك اللحظة بدأ وعيه بالسلطة وإدراكه للقوة يتبلور على نحو غامض!
وفي أغسطس ٢٠١٩ تولى رئاسة الوفد الحكومي لمحادثات سلام السودان، التي عُرفت بمحادثات (سلام جوبا)، ومن ثم تولى في أبريل ٢٠٢٠ رئاسة (اللجنة العليا للطوارئ الاقتصادية). وقد بدى واضحاً له منذ سقوط مجلس ابن عوف، أن البرهان لا يرغب في تسليم السلطة بعد نهاية الفترّة الانتقالية، ورأى حميدتي بعينه إلى جانب المؤامرات السياسية لقطع الطريق على القوى المدنية، باستخدام كل إمكانات وموارد الدولة وفلول النظام البائد، أن البرهان في طريقه إلى إعادة إنتاج المخطط نفسه، الذي اتبعه معه رأس النظام البائد، بشرعنته لمليشيا الجنجويد بمسمى جديد، وتخصيصها لحمايته من خصومه داخل القوات المسلحة من جهة، ومن الهبات الشعبية الثورية من الجهة الأخرى.
وفيما كان البرهان قد قرر توفير كل السبل القانونية والموارد لتحويل الدعم السريع من قوات تابعة للجيش السوداني إلى جيش موازي. يحمي به نفسه من خصومه داخل الجيش من جهة، ومن اخوته في الله من فلول النظام البائد من جهة، ومن غضب الشعب من الجهة الأخرى، عاقداً العزم على تحقيق الحُلم، الذي زعم أنه راود والده، الذي كان قد رأى فيما يرى الواهم، أربعين مليون بائس والشمس والقمر يخرون ساجدين لأبنه رب الفور!
والمفارقة هنا، أن (رأس النظام المخلوع البشير) في أحد حواراته، وكذلك (سيسي مصر) عند انقلابه على نظام الإخوان المسلمين، كانا قد سوقا لنفسيهما بفقه (اسحق غزالة) بسرد حلم مشابه لحلم البرهان! حتى يبدو للشعب أن استيلائهم على السلطة أشبه بـ(القضاء والقدر)، ومكتوب على جبين هذه الشعوب المغلوبة على أمرها، والتي ليس عليها سوى التسليم بتحقيق أحلام آباء هؤلاء الطغاة الفاسدين، والاعتقاد في فتاوى شيوخهم من الفلول!
طوال هذا الوقت منذ ٢٠١٩ وحتى لحظة اتخاذه قرار الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، ظل الجنرال حميدتي، يحتك بعالم جديد معقد؛ قوامه اللقاءات التي جمعته بقادة مختلف ألوان الطيف السياسي، ورجالات الإدارة الأهلية، وشيوخ الطرق الصوفية، والثوار والفنانين والأكاديميين، و غمار الناس في قِبل السودان الأربعة، إلخ.. ونتج عن هذه الاحتكاكات تفاعلات، وتداول لرؤى مختلفة لم تكن تخطر له على بال، لكنها لم تكن عصية على فهمه!
فيما كان البرهان يمضي في تكريس جيشه الخاص الموازي للجيش الرّسمي تحت قيادة حميدتي؛ دون أن ينتبه بجدية، للتغيرات التي كانت تطرأ على شخصية قائد قوات جيشه الخاص، فالرجل —حميدتي— كانت هذه التغييرات في البداية، تتسلل على استحياء في مخاطباته الجماهيرية من آن لآخر، فيما لم يخطر على بال البرهان أو ينتبه، أنه إنما يصنع وحش (فرانكشتاين) الذي سيقضي عليه، فقائد الدعم السريع بمرور الوقت، تخطى كوابيس البرهان وحلم والده ومشروعه في البقاء على دست السلطة وحماية هذه السلطة، إلى الانخراط في استثمار وضعه الجديد، بتقوية قواته وتحديثها ورفع مستوى كفاءتها وتأهيلها، واستحداث مؤسسات جديدة، مماثلة وموازية لأغلب مؤسسات القوات المسلحة السودانية، بدءاً بسلاح الموسيقى، مروراً بالطيران الذي ابتعث الرجل لدراسته العشرات من منسوبي قواته الموازية للجيش. وانتهاء باقامة علاقات سرية واستخباراتية وشبه دبلوماسية مع دول وقبائل عابرة للجغرافيا، ومنظمات تخصصت في أنواع مختلفة من الأعمال القذرة كتهريب موارد الدول الإفريقية، التي تعاني أنظمتها من الهشاشة والسيولة الأمنية، وصناعة المليشيات لقلب أنظمة الحكم والإتيان بأنظمة موالية، إلخ!..

(٤—٤): مناخ الثورة أسهم بشكل غامض في اكتشاف حميدتي لموارد أخرى للقوّة، تمثلت في إرادة الجماهير وهتافاتها واعتصاماتها ومسيراتها السلمية! لكن لم يكن وعياً واضحاً، للدرجة التي تمنعه من المشاركة في (مجزرة فض الاعتصام) أو المشاركة الأصيلة في (انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١) الذي منذه حتى اندلاع حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣، كانت ضبابية وعيه بالموارد المختلفة للسلطة المدنية والأهلية وقوى الشعب، تتجاوز على نحو مضطرد مفاهيم السلطة والقوّة، المتعينة في عالمه الذي وفد منه، والتي تتغذى على الوقائع اليومية في رحلتي (الدمر والنشوق)، لبدو يرعون الإبل في البواجي النائية، أو يحرسون القوافل في سباسب الصحراء ووهادها.. أو ذلك النوع من السلطة، التي خبروها على ظهور الجياد وهي تسابق فرسان آخرين بحثاً عن فريسة؛ في فيافي وغفار دارفور ووديانها!
لقد تبددت تلك المفاهيم القديمة لموارد السلطة، بتبدد الضباب حول وّعي الجنرال حميدتي بالسلطة والدولة، ومقادير القوّة في استخداماتها لأغراض مختلفة.. لم يعد حميدتي مجرد قائد مليشيا، لا يتجاوز تعداد منسوبيها بضع مئات، ولم يعد وعيه بذلك الغموض، الذي لطالما جعل رئيس ورموز النظام البائد (يشتغلون به السياسة!)، وهكذا أصبح حلم البرهان بتسخيره لحمايته، في مهب ريح التغييرات التي أحدثتها الثورة في الرجل!
كانت الفترة من انقلاب ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ حتى اندلاع الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣، كافية لأن تجري بينه كقائد للدعم السريع (الجديد)، وبين رئيس المجلس الانتقالي البرهان، الكثير من المياه؛ تحت جسر الأجندات والأهداف المتباينة، التي كانت حتماً ستضع الرجلين على مفترق طرق، سواءاً وُجد الاطاري أو لم يوجد مطلقاً!
فالقضية الأساسية، أن الدعم السريع أصبح جيشاً موازياً للجيش السوداني، ويتمتع بموارد تضاهي موارد الجيش، ويُحظى منتسبيه بامتيازات لا يحظى بمثلها منسوبي الجيش! وبالتالي كان هناك موقف عام معارض لهذا الوضع الشاذ: دولة بجيشين، وعشرات الحركات المسلحة التي سواءاً مجتمعة إلى جانب الدعم السريع أو منفردة، تمثل تهديداً جدياً لأي مجهودات، في سبيل التحول المدني الديمقراطي!
ورُغم أن (اتفاقية الترتيبات الأمنية) عالجت نظرياً وضع الحركات المسلحة، إلا أن وضع الدعم السريع ظل غامضاً، ومن هذا الغموض تسلل الاختلاف بينه وبين البرهان وحلفائه الفلول، الذين قرروا آخيراً ابادته وقواته؛ ولم تكن نواياهم خفية! فقد شاعت على ألسنة العيدين من رموزهم وأنصارهم. ورد عليها الرجل؛ بأن أعلن التمرد على "مليشيا الحركة الإسلاموية" داخل الجيش السوداني، الأمر الذي تمخض في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ عن الحرب التي ظل يصفها بأنها فُرضت عليه.
حرص الجنرال حميدتي منذ اللحظات الأولى لاندلاع الحرب، على التأكيد بأنه ضد الإسلامويين المتطرفين، وأنه يسعى لتحقيق الديمقراطية والتحول المدني. اللذين يرفضهما البرهان والمسؤولين الحزبيين في ميليشيا الحركة الاسلاموية داخل الجيش، الذين يأتمرون بأمر أمين عام الحركة الإسلاموية كرتي ورجله النافذ أسامة عبدالله.
استهداف الحركة الإسلاموية حميدتي وقواته، لم يكن لأنها مبدئياً ضد تعدد الجيوش والميليشيات، بل لأنها كوّنت هذه الميليشيا لارتكاب الأعمال القذرة، التي لا تريد أن تتحمل عبء مسؤوليتها، وكذلك لحماية نظامها، وهو الدور الذي لم يعد حميدتي راغباً في لعبه، بعد أن أحدث فيه زخم سنوات الثورّة السلمية المستمرة منذ ٢٠١٨، الكثير من التغييرات في المفاهيم والوّعي بالسلطة وبتاريخ السودان وطبيعة الصراع السياسي، فقد فتح تواجده لسنوات قليلة في الخرطوم وفي مركز السلطة مداركه على وعي لم يتاح له في وديان دارفور وسهولها، وأصبح الرجل ك(جني) غادر (جرّة) الفخار وحطمها، ولم يعد بإمكان ألف سليمان تجميعها، و إعادته إليها مرّةً أخرى، وهو ما لم يحسب له البرهان والحركة الاسلاموية أي حساب، وهكذا قرروا إبادته وقواته، ولكن بعد فوات الآوان.
لقد بدأت هذه الحرب وقد استقر في وّعي الفلول، أن حميدتي يمثل (العقبة الرئيسية) في طريق عودتهم الى السلطة مرّةً أخرى، وكلفهم تعقبه لقتله أرواح آلاف الضحايا من المدنيين الأبرياء، الذين قضوا تحت قصف (السوخوي) والمدافع الثقيلة، وآلاف الجرحى والمفقودين من المواطنين العزل إلا من أحلام شحيحة بسودان آمن مستقر. ولا محالة ستنتهي هذه الحرب وقد كتبت الدماء التي سالت فيها، النهاية الرّسمية لحزب فاشي متوحش كان اسمه ذات يوم الحركة الإسلاموية السودانية.
يتبع…

#لا_للحرب

ahmeddhahia@gmail.com

 

آراء