الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989: (الحلقة التاسعة)

 


 

 




•    عابوا على الميرغني اتفاقا مع قرنق لم يحمل تقرر مصير أو نُذُر انفصال، فأتوا بهما مخضبتين متعانقتين و"بالجرتق" سيروهما بالصفقة والرقصة والعديل والزين الى عُرس الدولتين!


isam_mahgoub@yahoo.com

مواصلة للحلقة السابقة، نقرأ الجزء الثاني من الحوار الذي أجريته لمجلة (الأشقاء) في مارس 1989 مع أحد رموز الشباب _ حينها _ في الجبهة الإسلامية القومية المرحوم أحمد عثمان مكي، بعد ان تناولنا في الأول مشاركة الجبهة في حكومة الوفاق مع الحزبين الكبيرين الأمة والاتحادي، والتي وَصَفتها في حوار أجريته منتصف يناير 1989 مع الأستاذ علي عثمان محمد طه بـ "المغامرة"، وبـ المقامرة" وَصَفت انفراد الجبهة بحزب الأمة وتشكيل ائتلاف ثنائي.
الجزء الثاني من الحوار مع "ود المكي" يسجل خروج الجبهة من الحكم وعودتها إلى المعارضة. ولعل أكثر ما يلفت الانتباه، بعد ان جرت فيضانات كثيرة تحت الجسر، هو قول محاوري: هنالك عدم ثقة بين بعض الجنوبيين والشماليين، والمطلوب ان نبني هذه الثقة دون تفريط، ولذلك نحتاج إلى سنوات ومجهود كبير ليس له علاقة مع المكاسب الحزبية. وكان قد قال لي قبل تلك الفقرة: المؤتمر الدستوري لن ينعقد، وإذا انعقد فإن جون قرنق لن يحضر، وإذا حضر لن يتوصلوا إلى اتفاق وسيخرج جون قرنق أخر "متمرد أخر" إلى الغابة، وسنظل ندور في نفس الدائرة لأننا نتناول القضايا المصيرية والكبيرة بشيء من العفوية والسطحية. حسنا، دعونا قبل تفكيك العبارتين التأكيد على انهما لم يكونا رأيا خاصا بمحاوري، وانما موقفا ثابتا للجبهة الإسلامية "حبرته" في وثائقها، وردده قادتها وصحافتها _حينها_.
عبارتان أقف أمامها اليوم متأملا، بعد ان "قَلَعَت" الجبهة الإسلامية كل السلطة و"كنكشت" فيها؛ فهل تجييش الشعب وإعلان الجهاد على الجنوبيين كان من باب بناء الثقة بين الجنوبيين والشماليين؟ ألَمْ يكن الاتفاق على تقرير المصير وتوقيعه بين على الحاج ولام أكول عام 1992 في فرانكفورت بألمانيا، هو عين تناول القضايا المصيرية والكبيرة بشيء من العفوية والسطحية التي رفضها ود المكي وجبهته؟ ألَمْ يكن تقرير المصير سلاحا هزم معادلات قرنق الوحدوية؟ فمن كان يُمَثِل علي الحاج حتى يمنح باسم وطن حق فصل الوطن لمن لا يُمثل فيه أكثر من قبيلة، بل فصيل؟ ألم يفعل ذلك باسم سُلطة تدثرت في بيانها الأول بضرورة الحفاظ على وحدة الوطن، فأحرجت الحركة الشعبية وقرنق وبقية القوى السياسية وأدخلتها في التفاعل مع "تقرير المصير" الذي وصفه الشريف زين العابدين الهندي بـ "المنطوق الكافر" وهرب منه كالسليم من الجَرَبِ، فيما تبرأ الميرغني من التوقيع عليه باسمه، ووضع نفسه بين مطرقة الحفاظ على وحدة التجمع وسندان واقع فرضه عليه فرضا رضوخ الجميع؟ ألَمْ يتأكد كل ذلك بعد عقدين من الزمان تقريبا، بانه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق، وأشبه بمنح "الجوكر" للأخر قبل توزيع "الورق" في طاولة خضراء متعمدا الخسارة أولا، ومن ثم تشتري المكسب الكبير لتغسل كسبا غير مشروع لإدخاله في القنوات المشروعة أو لتغسل مشروعا سياسيا شوفينيا ملطخا بالجرائم والدماء، ليصبح وطنيا؟ ألم يَسْتَغِل العُنْصُرِيُّون والاقصائيُّون غسل المشروع لإعادة ترويجه بعد تنظيفه عرقيا ودينيا وثقافيا في مثلث حمدي؟ ومع ذلك يبقى السؤال الأهم: أين الماء الناتج من غسل المشروع؟ هل "دلقه" الشيخ عكس الهواء؟... أي شيخ؟
وأخيرا أقفل تأملاتي في قول محاوري؛ "المؤتمر الدستوري لن ينعقد، وإذا انعقد فإن جون قرنق لن يحضر، وإذا حضر لن يتوصلوا إلى اتفاق وسيخرج جون قرنق أخر ـ متمرد أخر ـ إلى الغابة"؛ وأسأل في حسرة وغُصة تكاد تربط لساني: وماذا عن حضور جون قرنق للخرطوم بعد توقيعه لاتفاقية نيفاشا وعدم خروج متمرد آخر؟ ولا أفعل أخيرا سوى أن أرصد وأسجل: خابت توقعات محاوري الذي لم يشكك فحسب بل جَزَم باستبعاد حضور قرنق.. فحضر، وجَزَم بخروج متمرد أخر.. ولم يخرج؟
حقا.. حقا، يا لسخرية الأقدار ويا للعبث بالأوطان عمدا مع سبق الإصرار والترصد، فقد أعابوا على الميرغني اتفاقا مع قرنق لم يحمل أي تقرر مصير ولا نُُذُر انفصال، فأتوا بهما مخضبتين متعانقتين و"بالجرتق" سيروهما بالصفقة والرقصة والعديل والزين إلى عُرس قيام دولتين، بِئس ما فعلوا، فتحققت قراءة الميرغني الذي قال محذرا هيئة قيادة القوات المسلحة يوم الأحد 25 يونيو 89: في تقديري ان أي انقلاب يحدث، وأية محاولة لإضاعة الفرصة التي توفرت لوقف الحرب وتحقيق السلام العادل في الوطن بمبادرة السلام السودانية، سوف يؤدي وتؤدي إلى تَشَظِّي الوطن وإلى انقسامه والى تدويل مشاكله، وبدلا من البحث عن حل لقضية واحدة، سيكون علينا مواجهة حزمة قضايا ومشاكل لا حصر لها. ولم يكتف بذلك، وأضاف:  وَقَّانا وإياكم الشرور التي ستخيم على البلد إذا حدث انقلاب، ولا يهمني مَنْ سينقلب على مَنْ، فالذي سيفعل ذلك، سيضرب استقرار ووحدة واستقلال الوطن. فتأمل افتراء السلطة الانقلابية لا على الحقيقة فحسب، التي لا يمكن قِسمتها الى اثنين، وانما على الوطن الذي فُرِضَ عليه ان يَقْبَل القِسْمَة على اثنين، وأخشى ما أخشى ان أهل الإنقاذ لا يعلمون ان الوطن رقما فرديا، في أية خانة "يُسَكَن" الباقي، وماذا سيفعلون به، وكيف وأين يخبئونه ويدغمسونه حتى يقنعوننا بان الوطن كان أصلا رقما زوجيا، وليس هنالك باقي ولا يحزنون! ألسنا نحن البلهاء الصامتون، نمتع أنفسنا بالنظر لثوب الفرعون الوهمي، وليس بيننا طفلا بريئا لم يصاب بالرمد بعد، فيراه على حقيقته عاريا، فيوقظنا بصيحته من بلاهتنا التي كادت ان تصبح مستدامة!
فان كان الجنوب قد ذهب مأسوفا عليه في تقديري وتقدير الكثيرين مثلي في الشمال، فهنالك جنوب جديد تَشَكَّل جغرافيا في النيل الأزرق وجنوب كردفان، وجنوب آخر، مشابه تماما للذي ذهب، ولا أَمِلّ التكرار، مأسوفا عليه، متمثل في دارفور برغم عدم وجود "أضان" مسيحية واحدة فيها.. مستعيرا تعبيرا "سكه" دبلوماسي أمريكي عمل في السودان.
الشاهد ان احمد عثمان مكي، وحتى وفاته في 26 سبتمبر 2002، كان لديه مواقف وآراء تجاه تعامل الجبهة الإسلامية القومية مع السلطة التي قبضت عليها بالانقلاب، لكنها مواقف لم تفرز في أخر الأمر غير تسجيلها في دوائر مغلقة. فهل وقف بشدة، ولكن مكتوف اليدين، مع شَيْخِه _لِتقْرَأ سَاحِرِه_ الترابي في معركته لبسط الحريات التي بدأها بعد عام أو عامين من الانقلاب في مواجهة تلاميذه، صغار السَحَرَة؟ أم انه، عكس ذلك، لم يقتنع بتشدد شيخه حولها فخرج مغاضبا الى ان توفى في أمريكا؟ ان كل المسكوت عنه أصبح، ان لم يكن مباحا داخل "الهيكل"، فانه متاحا خارجه، فقط المطلوب تقليب الأوراق والمواجع أيضا. ولحين ذلك، دعونا نتابع الجزء الثاني من الحوار مع الأستاذ احمد عثمان مكي، ولنا كلمة ثانية في آخره، وثالثة لاحقة، عند نشر سلسلة: حوارات في رواية.. مع الترابي وآخرين؛ والتي أخذنا منها الكثير مما جاء في هذه الحلقات.
***
قلت لمحاوري: لنخرج من مسألة الوفاق الذي انهار، ولنبحث حكومة الجبهة الوطنية المتحدة والمشاركة فيها. فالمتابعون للأوضاع داخل الجبهة الإسلامية يقولون قد صعب على الجبهة الإسلامية ان تتعامل مع الأحزاب الأخرى وهي تعزل نفسها بنفسها وتقف ضد الإجماع في تطرف ظاهر وانها تفتقد لعنصر المرونة لتتواصل مع بقية الأحزاب خاصة اليسارية منها فماذا تقولون؟
ويقول احمد عثمان مكي عضو القيادة التنفيذية للجبهة الإسلامية القومية وعضو الجمعية التأسيسية خرجين – الإقليم الشرقي- ومسئول الإعلام ورئيس تحرير الصحيفة الناطقة باسم الجبهة الإسلامية (الراية)، يقول: ان رفضنا المشاركة في الحكومة القادمة ليس مبنيا على أساس اننا لا نستطيع التعامل مع الآخرين، فلدينا مقدرة في التعامل مع كافة الأطراف السياسية فعلاقتنا مستقرة مع الجنوبيين وحزب الأمة وحتى مع الاتحادي لم تنقطع برغم التوتر، كما ان حوارنا مع حركة قرنق يدل على اننا نتمتع بمرونة فائقة غير متوفرة لدى الآخرين. وقد استطعنا ان نتجاوز الخصومة التقليدية بين الحركات الإسلامية والأنظمة الشيوعية بزيارتنا للصين، وحوارنا مع الروس والأميركيين شاهد أيضا على انفتاحنا ومرونتنا التي تعصمنا من الانعزال. ان المشكلة في واقع الأمر.. اننا ننطلق من ثوابت في سياساتنا والمرونة تكون مبنية على هذه الثوابت، ولذلك نحن لا نستطيع ان نشارك في حكم ما، الإسلام ليس واردا في برامجه المرحلية، كما اننا قد نتعامل مع حكم يشارك فيه اليسار بشرط ان يكون هناك بند من بنود برنامج الحكم توضع فيه الشريعة الإسلامية ويوافق عليها كل المشاركين، فالمسألة لدينا واضحة أكثر من غيرنا. هناك مفارقة كبيرة اذا ما شركنا في حكم يحمل كافة تناقضاته داخله. ان الجبهة الإسلامية وحزب الأمة والحزب الاتحادي يطرحون برنامجا إسلاميا بشكل من الإشكال وان اختلفوا، وهذا ليس تناقضا اما المفارقة تأتي عند مشاركة قوة تناقضهم في الطرح وتسعى إلى تمرير برنامجها هي لا البرنامج الإسلامي الذي حاز على تفويض الشعب من خلال طرح الأحزاب الرئيسية الثلاثة، ولذلك فأن حكومة تضم هذا التناقض لا تعيش ونرفض المشاركة فيها. انا شخصيا لست ضد الحوار مع الماركسيين والبعثيين مثلا، وكثير من الاخوان في الجبهة يشاركوني هذا الرأي. اما موضوع مشاركة الأحزاب التي لا وزن لها برلمانيا.. فهو ما نسميه باللعب بالعاطفة في مسألة توسيع قاعدة المشاركة في الحكم. دعني أعود لأربط سؤالك هذا بسؤال سابق لاستدرك وأقول لك، اننا لم نفشل في التعامل مع حزبي الأمة والاتحادي ولم يفشلوا معنا، إلا ان بعض المصالح الحزبية الضيقة وارث العداوات القديمة والثأر للقبلية الجديدة "الحزب" شي موجود في ثقافات الأحزاب مع ملاحظة اننا مجتمع قبلي، فالتركيبة الاجتماعية والنفسية أثرت كثيراً في التعامل بيننا ولم نفشل في تعاملنا بعد. وأتمنى ان نكرر التجربة ونحن وهم أكثر نضجاً.
وسألته قائلاً: لقد اختاركم حزب الأمة حليفاً له بديلا للاتحادي، فلماذا لم تسعوا للوقوف بينه وبين التوقيع على ميثاق القصر؟ وما هي التقديرات التي رصدتموها عند رفضكم التوقيع على ميثاق القصر؟
وأجاب الأستاذ احمد عثمان: نحن لا نحبذ ان نتدخل في شؤون الأحزاب الداخلية ولهذا فان توقيع حزب الأمة محسوب عليه وليس على ائتلافنا الذي كان، وعليه وحده ان يخرج نفسه من هذا النفق الضيق الذي دخل فيه برغم خيارته التي كانت واضحة بالتمسك بالشرعية.. ورغم هذا فان الذي بيننا وبين حزب الأمة سيتصل فهناك كثير من المحاولات للتنسيق واللقاءات المشتركة التي لم تنقطع وهي محاولات لازالت مستمرة حتى صباح اليوم (الجمعة) واحسب انها ستستمر إذا شاركنا في الحكم أو بقينا في المعارضة. ونحن نتخذ قرار الذهاب إلى المعارضة، أخذنا في الاعتبار ان هذه ليست المرة الأولى لتوقيع ميثاق ما، فلدنيا تجربة توقيع مواثيق سابقة، ولقد قدرنا إلى أي درجة يمكن ان تلتزم الأحزاب الأخرى بالمواثيق وكان لهذا اعتبار كبير في اتخاذ قرارنا. لدنيا، ثانيا، تجربة جديدة، فقد كان في المعارضة ودخلنا الحكومة والان كنا في الحكومة وسنذهب إلى المعارضة، وبذلك نستطيع ان نرجح بين مزايا المعارضة والحكم.
وقاطعته متسائلاً: هل كان معيار الكسب الحزبي هو المعيار الذي استندتم عليه في اتخاذ القرار؟
وسريعا أجاب احمد عثمان مكي: لم يكن الكسب الحزبي في يوم من الأيام مدخلا لاتخاذ القرار في الجبهة الإسلامية القومية، ولكنني أقول ان الجبهة اذ تتخذ قرار عدم المشاركة في هذا الوقت تتخذه أكثر نضجاً واصلب عودا وقد استفادت من تجربة العامين في المعارضة والأشهر المعدودة في الحكم. وبصورة أخرى إذا أردنا الكسب الحزبي فهو قطعا يتأتى لنا بالمشاركة في الحكم لا بالابتعاد عنه. وأقول لك صراحة، انا لست ضد الكسب الحزبي، فنحن في تنافس شريف، انما هنالك معطيات ومعادلات منطقية كلها تبرر وتقود إلى ان الصيغة القادمة للحكم لن تستمر طويلاً وستتداعى وتسقط لأنها قائمة على افتراض ان يحدث سلام في جنوب السودان. والجبهة تعتقد انه لن يحدث سلام بمبادرة السلام الاتحادية، ليس لأنه جاء بها، إذ انني اعتقد ان الاتحادي الديمقراطي اجتهد ومن حقه ان يذهب لقرنق ويجتهد لتحقيق السلام، وإنما أعيب عليه ان يفرض ما توصل إليه مع قرنق على بقية الأحزاب الأخرى. ان اتفاقية 16 نوفمبر لن ينتج عنها سلام، وفي اعتقادنا انها فجرت الموقف داخليا وأعطت حركة قرنق فرصة ثمينة لعزل السودان ولكسب الرأي العام وجلب مساعدات لها ولإضعاف القدرات العسكرية السودانية. في آخر الأمر أقول لك، اننا لن نشارك في حكومة نحن على قناعة تامة بأنها ستسقط.
وسألته مستغرباً: كيف تسقط حكومة ستضطلع بتحقيق السلام؟ ان السلام هدف استراتيجي لكم ولغيركم كما نفهم، فإيقاف حرب الجنوب كفيل بان يوفر إمكانيات مهدرة تستغل في رفع الضائقة المعيشية وبذا ينفذ برنامج القصر. فهل تشككون في تحقيق السلام والفرصة متاحة ومتوفرة الان بعد الاعتراف بمبادرة السلام السودانية؟
وقال احمد عثمان وهو يضغط على تعابيره ضغطاٍ ملحوظا: ان المؤتمر الدستوري لن ينعقد، وإذا انعقد فإن جون قرنق لن يحضر، وإذا حضر لن يتوصلوا إلى اتفاق وسيخرج جون قرنق أخر "متمرد أخر" إلى الغابة. وسنظل ندور في نفس الدائرة لأننا نتناول القضايا المصيرية والكبيرة بشيء من العفوية والسطحية. ان هناك عدم ثقة بين بعض الجنوبيين والشماليين، والمطلوب ان نبني هذه الثقة دون تفريط، ولذلك نحتاج إلى سنوات ومجهود كبير ليس له علاقة مع المكاسب الحزبية.
وقلت له: لقد كنت بجانب د. ترابي في مؤتمره الصحفي الأخير الذي اتهم فيه كافة القوى السياسية والنقابية بالعمالة للدول الأجنبية، إذ انه قال ان الأزمة السياسية صنعت في الخارج وان برنامج القصر اعد في الخارج وان الحكومة تشكل بضغوطات أجنبية سعت لإخراج الجبهة من الحكم. اعتقد كثير من السياسيين ان قول د. الترابي فيه الكثير من التجني على الأحزاب والقوى الوطنية خاصة ان حليف الجبهة الإسلامية (حزب الأمة) وقع على برنامج القصر كما ان حديث الترابي يعني ان الجميع عملاء عدا الجبهة الإسلامية. فما قولكم؟
وأجاب المسئول الإعلامي للجبهة الإسلامية القومية: بالنسبة لحديث الترابي فان هنالك ضغوطا أجنبية على السودان، فالاستراتجيات الدولية والصراع الدولي في القرن الإفريقي معروف، كما ان السودان معروف في الاستراتجيات الدولية كظهر لمصر وهي استراتيجيا أيضا لها أهميتها لكل الدول المتصارعة، فما يحدث في السودان لا نستطيع ان نقول انه يحدث بمعزل عن هذه الاستراتجيات، فقد ناقش الروس والأمريكيين في اجتماع القمة الأخير قضية السودان وناقشها اجتماع شولتز وشيفرنادزة من قبل. ان الجبهة الإسلامية في مؤتمرها الصحفي الأخير لم تتهم القوى السياسية بالعمالة إلا انها تريد ان تقول اننا يجب ان نشكل صيغة حكم في السودان بمحض إرادتنا وليس بوصاية أو تدخلات أجنبية. وقد زعم عبد الماجد حامد خليل وزير الدفاع المستقيل ان وجود د. الترابي وزيراً للخارجية أدى إلى إحداث عزلة ومشاكل في العلاقات الخارجية، وهو بهذا القول أراد ان ننحني لقرارات وإرادة أجنبية وهذا ما نرفضه. أما الأمر الثاني فهو متعلق بالمعونات الاقتصادية، فقد سبق لكارتر ان أوقف تصدير القمح لروسيا عند دخولها أفغانستان ولذلك فان استعمال نفس السلاح ضدنا ليس جديدا وليس غريبا لاننا أردنا ان نستقل بقراراتنا المصيرية بمحض إرادتنا وليس بالوصاية والاستجابة للضغوط الأجنبية. اما الذين يحاولون اتهام الجبهة والترابي باننا زعمنا ان كل الآخرين عملاء، فان كل موقف تتخذه الجبهة يتم تحويره وعكسه، فإذا ما وقعت الجبهة ميثاق القصر مثلا، فسيقولون انها فارقت مبادئها، اما إذا التزمت بمبادئها فسيعجلون بالقول بانها خرجت عن إجماع الأمة، فيما الذي تم ليس إجماعا على الإطلاق.
وقلت له: سؤال أخير عن الصراع بين الشباب والشيوخ داخل الجبهة الإسلامية القومية، فالموقف من المشاركة في الحكومة الوفاقية يقال عنه ان شباب الجبهة وهيئته النسوية عارضوه، إلا ان الشيوخ انتصروا ونشأ عن هذا بداية صراع وصدام لم تستعد له الجبهة ولم تتحسب له، بالإضافة إلى ان قرار عدم المشاركة الأخير نال إجماعا تاما دون دفاع يُذكر من الشيوخ مما يعنى ان رأي (الشباب) كان ابعد نظراً من رأي (الشيوخ) الذين راهنوا على ثقة يتبادلونها والصادق المهدي. فما هي حقيقة هذا الصراع وما هي حدود المسموح به لاختلاف وجهات النظر في جبهة تريد ان تصير جماهيرية بدون تسيب وصفوية دون انغلاق؟
فقال: ان تكون هناك اختلافات في وجهات النظر بين الأجيال داخل الجبهة الإسلامية فهذا طبيعي والسبب هو التفاوت في التعليم والأعمار كما انها ليست وجهات نظر مفارقة لبعضها وليست متباينة، هذا بالإضافة للتفاوت في التجارب أيضا. وأقول لك يا أخي، ان وجهات النظر المختلفة داخل الجبهة هي إثراء لها ونحسب ان هذا الأمر لابد ان يعود بالفائدة في المبتدأ والمنتهى لاننا نخدم قضية الإسلام وإعلاء رايته، اما الذين يراهنون على وجود انشقاق في الجبهة فإنهم يراهنون على حصان خاسر، وذلك لان حجم الحرية المتاح في كل الأطر التنظيمية داخل الجبهة الإسلامية للتعبير عن الرأي بأية صورة من الصور وعرض وجهة النظر هذه، لا اعتقد انها موجودة في كثير من الأحزاب في كل المنطقة العربية وليس في السودان فحسب، كما ان هناك حقيقة لا تغيب عليك، ان الجبهة الإسلامية لا تُسَاق كالقطيع، فلا القيادة قالت ذلك ولم تفعل أبدا ولا الأجيال المختلفة تقول بهذا. أصارحك القول، لعل منشأ الصراع داخل الجبهة يكون دائما في اتخاذ القرار أو تولي المسؤوليات "أي خلق مراكز قوى" وفي كلا الحالتين هي تأتي بصورة تلقائية وطبيعية، وفق ميكانيكية مرتبة، وإذا خرجت عن التلقائية الطبيعية يمكن ان يحدث الصراع حول القرارات أو حول المراكز المؤثرة في توجه وتوجيه الجبهة الإسلامية. ولذلك نأخذ مثالا واضحا للحرية المتاحة داخل الجبهة.. بعض الصحف كتبت انه قد حدثت مشادة بيني وبين د. الترابي داخل الجمعية التأسيسية أثناء مناقشة القوانين الجنائية البديلة، وقالت الصحف ان هذا انشقاق واختلاف، فهل تصدق انني لم أُسأل داخل الجبهة عما قلته في الجمعية التأسيسية وعلى الملأ. هذا يدلك على احترامنا لوجهات النظر، وهنالك سعة صدر رحبة لتحمل الآراء المختلفة وهذا هو ما يعصم الجبهة من الانشقاقات وهذا هو العاصم الوحيد من الوقوع فيها. وحول موضوع المشاركة في حكومة الوفاق لم يحدث (لوبي) بالمعنى المفهوم، وانما كان هناك رأيان، رأي واضح قاطع قائم على حجج بعدم المشاركة، ورأي آخر قاطع واضح وقائم أيضا على أسس وحجج تدعم مسألة ضرورة المشاركة، وجاءت هيئة الشورى وغلبت الرأي الأخير وفوضت القيادة التنفيذية وأتاحت لها فرصة ان تعدل في القرار متى ما رأت ذلك. أما الان وبخصوص عدم المشاركة وعدم توقيع ميثاق القصر، أصبح هناك رأي واحد قاطع وقائم على حجج كلها تفضي بالإحجام عن المشاركة، ولابد ان أشير إلى ان السبب في الحالات الثلاثة كانت الشريعة الإسلامية.
... وبعد...
قبل ان التقي بالأستاذ احمد عثمان مكي مساء الجمعة الماضي في مكتبه (بالراية) كنت قد جلست مع الدكتور الترابي عصر نفس اليوم ودار حديث طويل، وأكثر تلك الأسئلة التي وجهتها للأستاذ احمد عثمان تحدث عنها د. الترابي وبالطبع لم أكن مندهشا من إجابات وحوار وردود "ود المكي" وتناسقها وتناغمها مع كل ما قاله لي د. الترابي.. فلا عجب.
تبقى ان أقول: ان مقولة "شباب الجبهة يريدون كل السلطة غدا وشيوخها يحبذون بعضها اليوم" لازالت ذات مفعول ساحر وان تم بعض (الترويض) وبعض (التليين)، هذا فضلا عن ان الجبهة الإسلامية القومية تكاد تكون التنظيم السياسي الوحيد الذي يقف من حين لأخر، لا مقيما لأدائه فحسب، وإنما لينظر إلى ما هو أبعد من تحت أرجله، فيبتكر "تكتيكا" مرحليا في إطار إستراتيجية ثابتة. ولعل الذين يفهمون مابين الأسطر يدركون ان لهذا الحوار والحديث مع د. الترابي ما بعده.
***
كان ذلك حوارا من جزأين، مع المرحوم أحمد عثمان مكي الذي لم يتبوأ أي منصب خلال "الديمقراطية الثالثة" سوى عضوية الجمعية التأسيسية، وعاف أي منصب في "الإنقاذ"، فَبِمَنْ أقارنه اليوم بقيادات ذات التنظيم، شيوخا كانوا ام شبابا؟ نعم، ليس هنالك وجه مقارنة. غير ان فكرة المقارنة يجب ان يقف عندها شباب الجبهة الذين أصبحوا شيوخ الحركة الإسلامية والمؤتمرين الوطني والشعبي راهنا، فربما يتساءلون: ماذا حدث لنا؟ ولماذا أصبحت لغة "لحس الكوع" هي السائدة؟ وسؤالهم قطعا مردود عليهم، لان إجابته في طرف لسان أي شخص أخر عداهم: انها 24 سنة سُلطة، وأية سُلطة؟ كل السُلْطَّةِ! فهل ذلك "ريقرس" ام "بروقرس" تراجع ام تقدم؟ عليهم وحدهم ان يلزموا "الجابرة" ويبحثوا الأمر، فقد حقق لهم "التكويش" على كل السلطة.. السيطرة. التمدد. التمكين. الجاه والمال معا! ومقابل ذلك، ماذا فقدوا؟ من العيب ان يقول أي أحد قولا فوق أو بعد قول، أحد أشجع شيوخ الحركة الإسلامية بكل مسمياتها السابقة وحتى الحالية، المرحوم يسن عمر الإمام.
تبقى القول: خاطئ من يظن ان البحث في الأضابير واستحضار مواقف وأقوال السياسيين وبالأخص الذين حكموا البلاد أكثر من 24 سنة ولا زالوا، مضيعة للوقت. وقَصِيْر نَظَر ذلك الذي يتحسس فقط ما تحت أرجله قبل ان يخطو خطوة واحدة للأمام أو حتى للخلف؛ على الأقل عليه التحسب من الانزلاق والتكوم أرضا مع أول حركة يقوم بها. ولذلك تبقى إعادة قراءة المواقف زادا لرحلة الإلمام بالراهن بل أكثر من ذلك، قاموسا يجب ان ترجع له من حين لأخر، لتفسير ما تخبئه الأيام للمستقبل.
موعدنا في الحلقة القادمة، مع الجزء الأول من حوار أجريته منتصف يناير 1989 مع الأستاذ علي عثمان محمد طه، نائب أمين عام الجبهة الإسلامية القومية _ حينها _ وأسرار عبارة: شيوخ الجبهة يحبذون بعض السُلطة اليوم وشبابها يريدون كل السُلطة غدا.
فإلى الخميس القادم،،،

 

آراء