الدور المصري في توقيف كل من المقدم بابكر النور والرائد فاروق حمد الله عقب حركة يوليو71 من خلال مذكرات وزير الحربية المصري

 


 

 

كان إنزال طائرة الخطوط الجوية البريطانية التي أقلت كلاً من المقدم بابكر النور والرائد فاروق عثمان حمد الله من العاصمة البريطانية في طريقها إلى الخرطوم عقب نجاح حركة 19 يوليو 1971 في السيطرة على مقاليد البلاد ، وإجبارها على الهبوط في الأراضي الليبية، واحتجاز الرجلين من قبل السلطات الليبية أحد العوامل التي ساهمت في تفاقم الصعوبات التي واجهت الحركة الوليدة، وأدت إلى وأدها في في غضون ثلاثة أيام. وقد كان واضحاً الدور الليبي في تنفيذ مخطط احتجاز الرجلين لدعم نظام جعفر نميري وإعادته للسطة. إلا أن دوراً آخر لم يكن أقل أهمية، وإن لم يتسن أن يكون واضحاً بالقدر الكافي، وهو دور الحكومة المصرية. وقد بين هذا الدور الفريق أول محمد أحمد صادق وزير الحربية المصري خلال الفترة التي نشبت فيها حوادث يوليو 71، وذلك في مذكراته التي نشرها المكتب المصري الحديث عام 2019 بعنوان: سنوات في قلب الصراع. وخصص الفريق أول صادق فصلاً كاملاً للحديث عن حركة 19 يوليو، تناول فيه على وجه الخصوص الحوادث والظروف التي صاحبت احتجاز كل من الرجلين.

تولت ليبيا مبادرة مواجهة الحركة الجديدة، إلى حدود التفكير في إرسال قوة ليبية مصرية لمواجهة الانقلاب، فيذكر الفريق أول صادق (في ليبيا ، فبمجرد وصول الانباء الأولى للانقلاب الشيوعي حتى ثارت ثائرة القادة الليبيين، وبدأوا في تجميع المعلومات من عناصرهم الموجودة في السودان، وفي نفس الوقت اتصلوا بالرئيس السادات وناقشوا معه الموقف وإن اتسم حديثهم بالعصبية. وكانت تخايلهم فكرة القضاء على الانقلاب بواسطة تدخل عسكري مصري ليبي)
إلا أن مصر لم تكن أقل اهتماماً من ليبيا بهذا الحدث على خاصرتها الجنوبية، فقد ظلت على اتصال من خلال العقيد فاروق بشير ملحقها العسكري بالخرطوم. ويذكر الفريق أول صادق أن الرئيس السادات اتصل به في اليوم التالي للانقلاب وطلب منه السفر فوراً لمقابلة العقيد القذافي في ليبيا، والتفاهم معه حول الانقلاب في السودان. وكشف له أن الليبيين يريدون القيام بتدخل عسكري لاجهاض الانقلاب الشيوعي. وكان رأي الفريق أول الصادق عدم الاشتراك في مثل هذه القضية لعدة أسباب سياسية وعسكرية من بينها، أن الموقف لا يحتمل التدخل، وأنهم لا يملكون القوات والمعدات الكافية لمثل هذه العملية. كما أن هذا التدخل سيسبب حرجاً سياسياً عالمياً لمصر، وأن السودانيين يعتبرونه تدخلاً في شؤونهم الداخلية.

استغل الفريق أول صادق طائرة خاصة بعثها العقيد القذافي حملته إلى ليبيا وكان يقودها قائد القوات الجوية اللبية. وعند وصوله العاصمة الليبية حمل مباشرة إلى منزل العقيد القذافي، حيث وجد أعضاء مجلس قيادة الثورة يفترشون الأرض ويجلسون حول خريطة كبيرة للسودان، فانخرطوا في نقاش حول إمكانية التدخل العسكري لدحر الانقلاب الشيوعي. وقد تمسك الفريق أول صادق بموقفه الذي عرضه على السادات، ودافع عنه أمام القيادة الليية، وقدم له أسانيد سياسية وعسكرية وافية.

وبديلاً للخطة التي اقترحتها القيادة الليببية، فقد عرض الفريق صادق خطة أخرى تقوم على احتجاز كل من بابكر النور وفاروق حمد الله، حيث أن هاشم العطا ومن معه لن يكتمل لهم النجاح إلا بوصول الرجلين ومن معهما، كما أن هذين القائدين يستعجلان العودة للخرطوم لقطف ثمار النجاح والثأر من جعفر نميري.

وضع الفريق أول صادق خطته على النحو التالي:
1- ستقلع الطائرة ال "جيت استار" إلى بنغازي وننتظر توقيت مرورالطائرة "الهدف"،
2- أثناء مرور الطائرة البريطانية ستعترضها الطائرة الليبية ونأمر قائدها بالهبوط،
3- بعد هبوطها يتم إلقاء القبض على الزعماء الجدد للانقلاب الشيوعي،
4- انتظار رد فعل الخرطوم، عندما يعلم هاشم العطا وباقي أعضاء مجلس الثورة هناك باحتجاز القادة العائدين من ليبيا، وفي نفس الوقت رد فعل القوى المعارضة للانقلابيين،
5- تنظيم العمل بالخرطوم للامساك بزمام المبادأة تحت إحساس قادة الانقلاب بالصدمة، بعد احتجاز قادتهم والعمل على الافراج على نميري ليعود إلى سلطاته،
6- حشد القوات السودانية الموجودة في مصر في أسوان تمهيداً لنقلها إلى الخرطوم في حالة نجاح الافراج عن نميري واستعادة سلطاته.

تساءل القادة الليبيون حول نجاح طائرة العقيد القذافي الخاصة "جيت استار" باعتبارها صغيرة الحجم وغير مسلحة، فذكرالفريق أول صادق أن دور قائدها ينحصر في مخاطبة قائد الطائرة الانجليزية باللاسلكي ومطالبته بالهبوط باعتباره يقود طائرة مقاتلة اعتراضية، وعليه أن يعمل على أن لا يراه الطيار الانجليزي، وأن يظل في مناوراته بعيداً عن مدى رؤيته. واستطرد :" الطيار الانجليزي المدني مثل كل طياري الخطوط المدنية لديهم تعليمات واضحة بعدم تعريض الركاب أوالطائرة لأية أخطار، وعليهم الاستجابة لتعليمات الخاطفين في حالة اختطاف الطائرة، والموقف الذي سيواجهه الطيار الانجليزي لا يختلف عن موقف اختطاف طائرته ولكن الخطر في هذه المرة يأتي من الخارج".

أثير سؤال حول الموقف في حال لم يطع الطيار الانجليزي الأمر. فأجاب الفريق أول صادق أنه في هذه الحالة لا نملك أي حل لإجباره على الهبوط، والموضوع كله عملية خداع. ثم انتظر إلى حين التأكد من المعلومات الواردة من لندن والتي أفادت بوجود زعماء الانقلاب على متن الطائرة، وأن خط طيران الرحلة هو الخط العادي، وأن الطائرة ستتوقف في مالطة للتزود بالوقود، ثم استأذن لأخذ قسط من الراحة، ولم ينس أن يطلب إيقاظه فور هبوط الطائرة، بعد أن أكد لهم (إن قائد الثورة في الخرطوم قد أعد الآن الطبول والموسيقى والأعلام والأفراح بوصول رئيس مجلس قيادة الثورة الجديدة، وأن صدمة احتجاز هؤلاء في ليبيا كفيلة بإفقاده السيطرة على الموقف، كما أن المعارضين للثورة الشيوعية أكثر مما تتوقعون، والمترددون في اتخاذ موقف كثيرون أيضاً، ومن خلال إدراك أنهم ليسوا وحدهم وأن هناك دولة أو أكثر بالخارج تقف ضد هذا الانقلاب بل وتحتجز قادته سيتبينون أن فرص نجاحهم فيما لوتحركوا ضد الثورة كبيرة جداً)

عند الصبح تم إيقاظ الفريق أول صادق وأخبروه أنه تم إنزال الطائرة واحتجاز المطلوبين والسماح لبقية المسافرين بمواصلة رحلتهم. وكانت المهمة التالية هي وضع خطة للرد على الأسئلة المثارة، خاصة أن السفير البريطاني طلب موعداً مع العقيد القذافي وكان لدى القذافي نية مبيتة لمواجهته بحدة. فاقترح الفريق أول صادق أن يتم مقابلته من قبل وزير الخارجية ":صالح وصير" وأن يكون رده أنه ليس لديه معلومات عما جرى في بنغازي، وأنه سيتصل بالسفير البريطاني في حال توفر معلومات. أما إذا استقبله "جلود" فعليه أن يوضح أن الطائرة قد خرجت من الممر الجوي فأضطرت القوات الجوية لإجبارها على الهبوط كإجراء أمني، وإذا تم سؤاله عن السودانيين المحتجزين، فاقترح صحفي مرافق لوزير الحربية المصري أن يكون الرد بأن السلطات الليبية احتجزتهم لأنهم مطلوب القبض عليهم من قبل لسابق تآمرهم على ليبيا. فأبدى العقيد القذافي نشوته من هذا الرد.

توضح إفادة وزير الحربية المصري الفريق أول صادق بجلاء حجم الدور المصري في توقيف كل من المقدم بابكر النور والرئد فاروق حمد الله، عقب حركة يوليو ٧١، من خلال وضع خطة واضحة، وتنفيذها عبر مستوى عالي وهو وزير الحربية المصري، رغم ما ذهب إليه في أنهم اقترحوا احتجازهما وليس تسليمهما إلى الحكومة السودانية، مما أفضى إلى إعدامهما بعد محكمة عسكرية سريعة. وتعد هذه الحادثة أحد محطات التوقف في مسيرة العلاقة بين كل من السودان ومصر

أبوذر الغفاري بشير عبد الحبيب

abuzerbashir@gmail.com

 

آراء