الديمقراطية عائدة وراجحة: دوائر الخريجين والتمثيل النسبي باتحاد جامعة الخرطوم (٣-٣)

 


 

 

قلت في الحلقة الماضية من هذا الحديث إن من المقطوع به أن الديمقراطية هي آخر ما في اهتمام الذين يزفوننا إلى الانتخابات هذه الأيام. إنهم من ناس "يا رقبي خلصي" من الثورة صيداً في ماء عكرها الذي هو عكر التغيير وقد عضهم بنابه منذ ديسمبر ٢٠١٨. فالانتخابات ليست هي الحل كما وقع في خاطر الثورة المضادة. كان مطلبنا منذ ثورة أكتوبر ١٩٦٤ هو الديمقراطية التوافقية في مصطلح اليوم. وهي الديمقراطية التي نتعاقد عندها حول برلمان ترى كل قطاعات المجتمع نفسها فيه فتحرص عليه. ويترتب على هذا أن نتواضع عند قانون انتخابي سنضطر فيه لخرق مبدأ الصوت الواحد للمواطن الواحد بسماحة تكفل تمثيلاً أسخى لقوي اجتماعية مثل المدينة وقواها الحديثة والمرأة والشباب لنؤمن استدامة الديمقراطية. فبرلماناتنا التي التزمت بالصوت الواحد للمواطن الواحد في ١٩٥٨ و١٩٦٥ و١٩٨٥ لم تعمر لأن القوى الحديثة والمدينة، التي منها الجيش والمهنيون من هم عماد الدولة، لم تجد نفسها فيها فاعتزلتها ثم انقضت عليها. وهذا منشأ الدورة الخبيثة: تأتى القوى الحديثة بالديمقراطية، ثم تطلع ملوص من برلمانها، فتنقلب عليها.
ومن أغرب الأشياء أننا بالقريحة قاربنا هذه الديمقراطية التوافقية في خبرتنا السياسية، بل والبرلمانية. عشنا التجربة وغاب المعنى. فلنا في الديمقراطية التوافقية سابقة في دوائر الخريجين منذ انتخاباتنا البكر في ١٩٥٤ التي أعطت وزنا انتخابياً لجماعات هي أقلية متناهية، ولكنها مالكة لأدوات الدولة الحديثة وخبراتها. وشَرُفنا في الحزب الشيوعي بانتخاب رفيقنا حسن الطاهر زروق من دوائر الخريجين شرفاً ما يزال يملأنا فخراً لمواقفه البرلمانية الناضجة المدروسة التي أعطت للكادحين السودانيين وقوميات الوطن صوتاً سلساً من تحت قبة البرلمان. بل وأكدت لحزبنا صحة موقفه في مؤتمره الثالث (١٩٥٦) في اختيار البرلمانية سبيلاً للاشتراكية. لقد ذقنا طعم الليبرالية فزدنا تعلقاً بها، ونضالاً من أجلها برغم خطرات المغامرين.
وربما كانت التجربة السودانية الغراء المجهولة في الديمقراطية السودانية التوافقية هي اتحاد التمثيل النسبي بجامعة الخرطوم في الخمسينات والستينات. فبمقتضى أعراف التمثيل النسبي كان المعسكر الطلابي، وحتى معسكر الأغلبية، لا يرشح سوى عشرين من أعضائه لمجلس الاتحاد الأربعيني تاركاً العشرين الأخرى لغيره من المعسكرات ترعى فيها. والقصد أن يأتي الاتحاد معززاً بجماعات ربما استبعدتها الانتخابات المفتوحة من ساحة الاتحاد مرة واحدة..
ووقعت فكرة التمثيل النسبي للطلاب بعد زعزعة انتابت اتحادهم من جراء الانتخابات المفتوحة. فكان كلما غلب معسكر على الاتحاد في دورة انتخابية ما تربص المهزومون به وضربوا به الأرض، وهكذا دواليك. وقال أحمد عبد الرحمن، القيادي الإسلامي، إن الدكتور سعد الدين فوزي، مؤسس كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم ومؤلف كتاب "تاريخ الحركة العمالية في السودان" (١٩٥٨)، اجتمع به وقريب الله محمد حامد الأنصاري من الجبهة الديمقراطية. وزكى لهما فكرة التمثيل النسبي للخروج من أزمة الاتحاد المفتوح الذي تؤذيه المعارضة من خارجه وتكيد له.
وهكذا نرى أنه حين تأزم اتحاد الطلاب في الخمسينات لم يحلها بانتخابات مفتوحة كمجرى العادة منتظراً نتائج أفضل. لقد وعى الطلاب أنهم في أزمة تأسيسية استحثتهم، بفضل عناية عقل ناضج كفوزي، للعودة لمنصة التأسيس. وما أزال أحمل عاراً خاصاً يقض مضجعي لأننا كنا في اليسار والوسط (الذي لا يرغب فيمن يذكره سوءته) من ائتمر على اتحاد التمثيل النسبي في الجامعة لاستبعاد الإخوان المسلمين منه هدية "ثورية" لانقلاب نميري الذي جاء بليل بهيم للسياسة. ولما عاد الاتحاد بعد ذلك عاد على مبدأ التمثيل المفتوح. فغلب عليه الإخوان المسلمون بالاكتساح. ولم يعد للجنة الاتحاد ولا مجلسه مشغله. فيكفي أن يسمعوا من أمير الجماعة.
وأقف هنا عن مفارقة عجيبة. فتجد أن النظم الديكتاتورية عندنا، لا الديمقراطية هي التي أخذت بمبدأ الديمقراطية التوافقية لتصميم ديمقراطيتها الطلس. فخصص نميري دوائر للعمال والمزارعين في مجلس الشعب. وتبنت دولة الإنقاذ الديمقراطية التوافقية في قانونها الانتخابي لعام ٢٠٠٨. فتكون المجلس الوطني حسب ذلك القانون من أربعمائة وخمسين عضواً منتخباً يأتي ستين بالمائة منهم من دوائر جغرافية، وخمسة وعشرين في المئة للنساء، وخمسة عشر في المئة لحزبيين على أساس التمثيل النسبي. فيتم انتخاب النساء والحزبيين في الولايات بقوائم حزبية منفصلة. فيدلي الناخب بصوت واحد للقائمة الحزبية للنساء وقائمة الحزبيين. وتقوم المفوضية بتحديد قوة المقعد لكل من القائمة الحزبية أو قائمة المرأة ناظرة إلى حصيلة الأصوات لكل حزب في كل منهما. وتحصي قوة المقعد لتقرر نصيب كل حزب على ضوء حصيلة أصواته. والنظام مأخوذ بحذافيره، لا مقاصده وروحة، من تقليد التمثيل النسبي لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم كما رأينا.
لا تخاف الثورة الانتخابات. فشر. فدوائرها في البرلمان ملء الشارع، ملء النظر. ولكننا لن نسمح للثورة المضادة ب"خمنا" بالترويع بأن الوطن على جرف هار وشفاؤه في انتخابات معجلة. الوطن بخير. وشفاؤه الحق كان في الثورة. وللثورة مطلب أن تقوم فينا ديمقراطية عائدة وراجحة ومستدامة. والسبيل إليها ديمقراطية توافقية لبرلمانية مهيبة معززة بالتفاف السودانيين قاطبة لأنها لم تعزل منهم أحدا.
رابط مقال للمرحوم الطيب زين العابدين عن الديمقراطية التوافقية وتطبيقها السوداني:

sudaneseonline.com
(حريات) تنشر ورقة الديمقراطية التوافقية للبروفسير الطيب زين العابدين
(حريات) قدم البروفسير الطيب زين العابدين ورقة بعنوان (الديمقراطية التوافقية طريقنا للاستقرار السياسي) مساء الاثنين 17 سبتمبر بمركز مامون بحيري . وننشر نص الورقة أدنا....

IbrahimA@missouri.edu
//////////////////////////

 

آراء