السودان: بين المطرقة والسندان (1) .. تقرير: أمجد شرف الدين المكي

 


 

 

أمجد شرف الدين المكي / سكرتير التحرير
تقرير خاص – سودانايل / الولايات المتحدة الأمريكية

بحذر وترقب شديدين تشهد الخرطوم، العاصمة السودانية في هذا الإسبوع زيارات لمبعوثين أوروبيين، إضافةً إلى زيارة أخري متزامنة في التوقيت لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي سيزور البلاد في مستهل جولة إقليمية بدأت بالعاصمة العراقية بغداد يوم الأحد، وسيتجه بعدها إلى مالي، وموريتانيا وسيختتم زيارته بالخرطوم، بحسب ما أشار الموقع الإعلامي لوزارة الخارجية الروسي. هذه الزيارات سبقتها أيضاً زيارة لرئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد الي الخرطوم في نهاية الإسبوع الأخير من شهر يناير المنصرم.
عدة أسئلة تشغل الرأي العام السوداني، عن ماهية هذه الزيارات من قطبين متنافسين ومتناقضين في هذا التوقيت. الجدير بالذكر أن الزيارتين المرتقبتين، سبقتهما زيارة لوزير الخارجية الإسرائيلي، أيلي كوهين مطلع الإسبوع الماضي، التقي فيه برئيس مجلس السيادة السوداني الفريق البرهان، في نفس الوقت الذي نفي فيه نائب رئيس مجلس السيادة، قائد قوات الدعم السريع الفريق حميدتي علمه بالزيارة وأنه لم يلتق الوزير الإسرائيلي. كما كانت أيضاً هناك زيارات لكل من مدير المخابرات المصرية والتركية الي السودان في شهر يناير من مطلع هذا العام.
من جانب آخر وتحت عنوان "آفاق التحول الديمقراطي نحو سودان يسع الجميع" تختتم القاهرة اليوم الثلاثاء، جلسات الورشة التي دعت لها مصر الفرقاء السودانيين لتقريب وجهات النظر.
هذه الأحداث مجتمعة، تجعل التحليل والتنبؤ بما يدور في الشأن السوداني، أمراً صعبا للغاية، نتيجة لتناقضات المواقف الإقليمية والدولية. إضافةً الي الواقع السياسي الداخلي السوداني-السوداني. ويزيده تعقيداً هذا الكم من الزيارات والإهتمام بالسودان.
وبما أن الأخير جزء لا يتجزأ من الواقع الإقليمي والدولي، لابد من النظر إلى عدة محاور في الواقعين، الإقليمي والدولي في محاولة لقراءة ما يدور في الشأن السوداني.

المحور الأول: الصراع الإسرائيلي الإيراني
تم إفتتاح السفارة التشادية في إسرائيل مؤخراً، في وقت أشاد فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالعلاقات الإسرائيلية مع القارة السمراء. وأن إسرائيل تمثل بوابة لإفريقيا، وبالمثل ستكون إفريقيا كذلك. تزامن هذا أيضاً لزيارتين متتاليتين مختلفتين في التوقيت، لكل من البرهان وحميدتي إلى العاصمة التشادية أنجمينا. الشاهد والقارئ في هذا الأمر، يري التحرك الإسرائيلي في إفريقيا مؤخراً متزامناً مع التصعيد الشرس داخل إسرائيل تجاه المقاومة الجديدة الفلسطينية، والتي أطلق عليها البعض "بالإنتفاضة الجديدة الثالثة".
يأتي هذا التصعيد وسط تذمر داخلي من قوي المعارضة الإسرائيلية، والإدارة الأمريكية في نفس الوقت تجاه الحكومة اليمينية المتطرفة. نفس هذه الحكومة الجديدة، تم توجيه أصابع الإتهام إليها، بإطلاق ثلاث طائرات مسيرة تجاه إيران، والتي أصابت مصنعاً للأسلحة في مدينة أصفهان الإيرانية مؤخراً. ونفت الولايات المتحدة صلتها بالحادثة، بل أشارت مباشرة إلى إسرائيل بأنها الفاعل، بحسب ما ذكرت صحيفة النيويورك تايمز مستشهدة بمصدر لها من البنتاغون. وتوالت ردود الأفعال في طهران، التي توعدت فيه تل أبيب بالإنتقام جراء هذا التصعيد.
إيران – لها عدة أذرع في الجنوب اللبناني كحزب الله، وكتائب القسام التي تنشط في غزة، وهو أمر مقلق لإسرائيل، وأمن قومي لها. وتتخوف تل أبيب من ردود الفعل الإيراني، عن طريق أذرعها في المنطقة. وكما كشفت تقارير استخباراتية أمريكية، أن كلاً من السودان وتشاد، إضافةً الي دول أخري في الإقليم، عباره عن بوابات ومعابر تنشط فيهما المخابرات الإيرانية، عن طريق مرتزقة محلية، لإيصال السلاح الإيراني داخل العمق الفلسطيني/الإسرائيلي. والأخيرة تود التحرك بسرعة في تأمين جزء من الجبهة الإفريقية ومنطقة القرن الإفريقي عن طريق محاولة إنعاش إتفاقية أبراهام التي طبعت فيها كل من الإمارات والبحرين تحت رعاية الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترمب في أغسطس من العام 2020 . وكان السودان أحد الدول التي فشلت المحادثات في حثه على التوقيع، نتيجة لعدم وجود حكومة منتخبة وبرلمان حينها (حكومة الفترة الإنتقالية /حمدوك).

التحرك الأخير أيضاً لوزير الخارجية الأمريكي، وزيارته لكل من القاهرة وتل أبيب، والضفة الغربية، أتي في ظل محاولة من الإدارة الأمريكية في تخفيف حدة التوتر للصراع الداخلي الإسرائيلي من جهة، وحكومة السطلة الفلسطينية من جهة ثانية. إضافة الي حث الإدارة اليمينية المتطرفة في إسرائيل بالتهدئة تجاه فلسطين وإيران، والتي تسعي الأخيرة أيضاً في إيجاد مخرج لها نتيجة الوضع الداخلي والقمع الذي تمارسه تجاه المتظاهرين فيها، محاولةً في نفس الوقت كسب معركة الملف النووي. ويصعب هنا التنبؤ بما دار من ملفات بين واشنطن والقاهرة. حيث ذكر بيان المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، بأن اللقاء أكد على أهمية الاتفاق الإطاري السوداني. وفي المؤتمر الصحفي لوزيري الخارجية الأمريكي والمصري تطرق الطرفان على أهمية ودور مصر كشريك إستراتيجي مهم في المنطقة وتعاونهما في مجموعة من التحديات الإقليمية والدولية من بينها الوضع الأمني في ليبيا وسد النهضة، والذي أصبح جلياً أن زيارة أبي أحمد كانت عبارة عن أن يأمن الجانب السوداني، وتحديداً المؤسسة العسكرية في هذا الملف الإستراتيجي لكل من القاهرة وأديس أبابا.

المحور الثاني: الصراع الأمريكي الروسي
القارة السمراء، والبحر الأحمر
شهدت القارة الإفريقية عدة زيارات مؤخراً ولعدة دول في المنطقة، من قبل الإدارتين الأمريكية والروسية. إلا أن أهمها كانت زيارة لافروف وزير خارجية روسيا إلى أرتيريا الإسبوع الماضي، والذي شملت زيارته أيضاً كلاً من أنغولا، وأسوا تيني وجنوب أفريقيا.
وتعتبر أسمرا (دولة مهمة في منطقة باب المندب) أحد أهم حلفاء روسيا في المنطقة، فقد صوتت ضمن خمس دول فقط ضد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في حربها ضد أوكرانيا. ولعل الناظر الي خريطة الدول التي قام لافروف بزيارتها في أفريقيا، إضافةً للتي يتطلع الي زيارتها، مالي وموريتانيا والتي من بينها الخرطوم، يري بوضوح عمق التحرك الروسي في القارة السمراء. يتزامن هذا مع تحركات لجنود تابعين لمجموعة فاغنر الروسية، في عمق القارة الإفريقية، وهو أمر مقلق ومزعج لكل من أمريكا وأوروبا. فالأخيرة لديها مصالح في هذه الدول وتحديداً فرنسا وأزمتها مع بوركينا فاسو بطلب الأخيرة من فرنسا سحب قواتها وإمهالها شهراً لسحب جنودها دليل علي مدي حجم الأزمة في القارة. إضافةً الي تحركات حركة الشباب الصومالي مؤخراً وبوكو حرام.
من جهة أخري، قام الإتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة مؤخراً بتجميد إصول وحسابات لأثرياء روس، وذكرت مبررةً للخطوة بأنها ستوجه تلك الأموال والإصول نحو إعمار أوكرانيا. التحرك الروسي في المنطقة ذات أهمية إستراتيجية وأمن قومي لأمريكا ودول الناتو. فعملية التضييق المالي على مصادر الدخل الروسي في إفريقيا ، تواجهها موسكو بتحركات في إفريقيا، لتأمين الموارد من مال وذهب ومعادن ثمينة حتى تمول الحرب التي لا يعلم أحد أو يستطيع التنبؤ بنهاياتها. إن وجود موطن للروس في منطقة دول جنوب الصحراء والقرن الإفريقي، من الأهمية بمكان. الأمر الذي جعل التدخل الدولي في المنطقة والصراع على أمن البحر الأحمر يكتسب أهمية حقيقة. فالمنطقة تمر عبرها مليارات من الدولارات، في شكل بضائع، وممرات مهمة في أمن الطاقة الدولي، وقد بدأت بالفعل بحسب تقارير غير رسمية تظهر فيها نشاطات لمجموعات إرهابية وقرصنة مائية مؤخراً. إضافةً الي أنها تشكل أمن قومي إستراتيجي لدول الخليج، كالسعودية، والإمارات، ومصر وإسرائيل وبالطبع السودان.

المحور الثالث: الأزمة السودانية – السودانية
بعد زيارة الوزير الإسرائيلي ولقاءه البرهان، والزيارات الأوروبية الأمريكية والروسية، تغيرت لغة المكون العسكري تجاه الاتفاق الإطاري. فحديث البرهان الأخير" نريد إشراك الجميع في تنفيذ الاتفاق الإطاري" ومؤخراً الفريق الكباشي "دستور عشرة أشخاص، لن ينفع" به عدة إشارات ورسائل للمجتمع الدولي والإقليمي. الأولي هي أن الجيش هو السلطة المطلقة والتي تتعامل مع الأزمة السياسية السودانية. ولن يتنازل عنها مالم يتم التوافق بين جميع القوي المدنية. وهذا أمر أصبح شبه مستحيل في ظل التنافر بين المكونات المدنية، إضافة الي المكونات والجماعات العسكرية الأخرى. وهو كرت تلعب به المؤسسة العسكرية في كسب الزمن (لشئ في نفس يعقوب) والذي ليس من مصلحة المكونات المدنية والإتفاق الإطاري. الإشارة الثانية أو الرسالة الأخرى فهي للإقليم. ومحتواها أن المؤسسة العسكرية (كمؤسسة) هي الجهة الوحيدة الضامنة لاي إتفاق قادم، وأنها أي الجيش هي الوحيدة القادرة على ضبط الواقع الإقليمي، لأنها مؤسسة متكاملة. والغرب والإقليم مجتمعين يتعاملون من منطلق المصلحة الدولية، والخاصة بهم، خصوصاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وأزمات الغذاء والطاقة. ولايريد أي إنفلات أمني في المنطقة. وهو أمر تستفيد منه موسكو عبر مجموعة فاغنر في إفريقيا. عليه تصبح هذه الزيارات الماكوكية بين موسكو، واشنطن وأوروبا هي عبارة عن صراع مصالح للتحرك الروسي في المنطقة. ومحاولة تأمين هذه المنطقة الحساسة. والبرهان ممثل في المؤسسة العسكرية يعي تماماً هذا الواقع، وما تصريحاتهم الأخيرة وظهور الفريق كباشي ، والذي كان غائباً عن المشهد مؤخراً، إلا تعبير عن موقف قوي في المؤسسة العسكرية، وأحاديثهم الأخيرة عبارة عن رسائل للإقليم والمجتمع الغربي والروسي، بأننا من يمتلك زمام الأمر، وهو للأسف واقع صريح لا تخطأه عين.

رؤية أخيرة:
في ظل هذا الواقع أصبح السودان بين سندان دول الإقليم ومطرقة المجتمع الدولي. إن تشرذم القوي المدنية، وعدم إتفاقها ولو على حد أدني، وهو أمر قد نادي به أكاديميون، وباحثون، ونشطاء مؤخراً. أصبح جلياً أنه أمر في غاية التعقيد. هذا التبعثر، إستفادت منه المؤسسة العسكرية في السيطرة الحقيقية على البلاد، والذي قد يجد دعماً إقليمياً ودولياً في مزيد من السيطرة على مقاليد الحكم. وقد يأخذ ذلك شكل ديمقراطي كإنتخابات مبكرة، أو حتى إنقلاب عسكري، ذات غطاء إقليمي ودولي. فالغرب يتعامل مع مؤسسات كالجيش، وليس كيانات، حتى ولو ذكر في بياناته التي يطلقها في الإعلام بدعم العمليات الديمقراطية في السودان، والتحول المدني.. الخ – الأمر الذي أصبح مكرراً ومضحكاً في آن واحد، حيث تتغير التواريخ فقط في بياناته.
المكونات المدنية من جهة أخري تعي هذه الحقيقة والوقائع، لكن مجابه بعدة تحديات، أبرزها الهشاشة في تكوينها الحالي، وهو نتاج طبيعي لغياب هذه المؤسسات لمدة طويلة، عن ممارسة دورها الطبيعي، وقد عانت فيه الإنشقاقات والإنقسامات، الأمر الذي يصب أيضاً في مصلحة المؤسسة العسكرية. والأخيرة تكسب الوقت تلو الآخر، ملوحةً للغرب وللإقليم بأنها الضامن الوحيد (كمؤسسة منظمة) لأي عملية سياسية ديمقراطية، ملوحة لهم بروسيا وتحركاتها في الإفريقية في نفس الوقت. لهذا نجد التحركات تزداد يوماً بعد آخر، وما بينهما يبقي السودان بين مطرقة المجتمع الدولي وسندان دول الإقليم.
أمجد شرف الدين المكي
سكرتير تحرير سودانايل
amgad@sudanile.com

 

آراء