الشعوبية لم تعد سُبة فهي القومية بمصطلح اليوم

 


 

 

من خصائص اللغة أي لغة تغيّر دلالة مفرداتها مع تغير الأزمان والأحوال. فالكلمة قد يكون لها معنى في حقب تاريخية محددة ثم تفقد هذا المعنى وتكتسب معنى آخر في عصر جديد أو تسقط في الاستعمال وتحل محلها مفردة جديدة.
ومن هنا تبرز أهمية الوعي أو الحس التاريخي باللغة. الحقيقة إن التحلي بهذا الحس التاريخي ليس مقصورا على اللغة بل ينطبق على مختلف ضروب المعرفة وهو ما يعرف بـ"روح العصر".
ومن الكلمات التي تبدل معناها ومدلولها في العصور الحديثة كلمة "شعوبية" (غير شعبوية). وشعوبية منسوبة إلى شعوب جمع شعب بمعنى أمة. وقد ظهر مصطلح "شعوبية" في التاريخ الإسلامي في عصر الفتوحات وخضوع الكثير من البلاد والشعوب والأمم لحكم الخلافة الإسلامية. وفي ذلك العصر لم تعرف الدولة الإسلامية رابطة غير رابطة اللغة والدين.
والشعوبي من أهل البلاد المفتوحة هو من يفاخر العرب بتاريخه وحضارته والتغني بأمجاده الغابرة ويرى أن لا فضل للعرب على غيرهم من الشعوب ولذلك تجد بعض علماء المسلمين المنصفين اطلق على الشعوبيين اسم "أهل التسوية" أي المساواة. ومن هنا برزت الشعوبية كتهمة بإثارة الفتنة وشق وحدة صف المسلمين وسُبة يرمى بها كل من يدعو إلى رابطة غير رابطة الإسلام والعروبة.
وفي عصور الاستبداد تم توظيف مصطلح شعوبية سلاحاً آيديولوجياً للقضاء على أي دعوة إلى الاعتراف بالتنوع الثقافي والحضاري واللغوي، وكانت تهمة جاهزة ترفع في وجه كل من يحاول الخروج على الآيديولوجيا الرسمية السائدة للدولة. فكل حركة أو دعوة إلى احترام الخصوصية الثقافية واللغوية والحضارية للقوميات الأخرى، كانت تصنف بأنها دعوة إلى الشعوبية والعنصرية وإثارة الفتن، وينبغي بترها وإخمادها.
وأما اليوم فإن كلمة "شعوبية" قد تجاوزها التاريخ والفكر الحديث كمصطلح ولم يعد لها (محل من الإعراب) في اللغة المعاصرة وخطاب العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة. وحلت محلها مفردة جديدة هي مصطلح (قومية) nationalism وقومية نسبة إلى قوم بمعنى أمة nation.
والقومية ليست مذمة بل مصدر فخر واعزاز وحق من الحقوق المعترف بها في الأعراف والمواثيق العالمية لكل مجموعة سكانية تربطها أواصر مشتركة. فالقومية هي الأساس الذي نشأ عليه مفهوم الوطن والدولة الحديثة.
وكان بناء الشعور القومي أي "الوطنى" أول أهداف النهضة الأوربية وهو الذي أرسى دعائم بناء الدولة الحديثة في أوربا. وكذلك كان استنهاض الوعي القومي الوطني أهم دافع للنهضة العربية، لمقاومة الهيمنة والاستبداد التركي العثماني من جهة، ومناهضة الامبراطوريات التوسعية الإمبريالية الأوربية من جهة أخرى. وهكذا ارتبطت حركات التجديد والاصلاح في العالم العربي منتصف القرن التاسع عشر، بخلق الوعي القومي أي الوطني القطري.
وبرغم ذلك نجد اليوم من لا يزال يستعمل مصطلح "شعوبية" بذات مدلوله التاريخي القديم. والأمر الذي حفزني على كتابة هذه الكلمة هو ورود مصطلح "شعوبية" بمعناه التراثي الإسلامي في كتابات بعض الأدباء والمبدعين السودانيين في سياق مناقشاتهم لقضايا الهوية الوطنية السودانية.
فقد ورد عند الشاعر الكبير صلاح أحمد إبراهيم في رده على النور عثمان أبكر (لست عربيا ولكن..) حيث علق صلاح في رده المعنون (بل نحن عرب العرب) بقوله: "في مقال النور شعوبية". – جريدة الصحافة، 25/10/1967
وكذلك ورد المصطلح عند الأستاذ الناقد/ عبد القدوس الخاتم وذلك في سياق رده على دعوة حمزة الملك طنبل إلى التأسيس لأدب سوداني، حيث جاء:
"دعوة طمبل.. يمكن أن تنزلق إلى درك الشعوبية الفكرية..". – عبد القدوس الخاتم، مقالات نقدية، 1977 ص12.
إن استعمال "شعوبية" هنا يبدو out of place ومضاداً لمفهوم الإنتماء الإثني والوطني والثقافي.

 

abusara21@gmail.com
//////////////////////////////

 

آراء