الظروف والأحداث التي سبقت إنقلاب 17 نوفمبر 1958 في السودان (2)

 


 

 

ftaha39@gmail.com

الائتلاف العقيم
1
في الانتخابات البرلمانية التي أُجريَت في 27 فبراير 1958 حصل حزب الأمة على 62 مقعداً، بينما حصل الحزب الوطني الاتحادي على 45 مقعداً، و نال حزب الشعب الديمقراطي 23 مقعداً. وانتُخب عبدالله خليل رئيساً للوزراء. وفي التشكيل الائتلافي الجديد حصل أيضاً على حقيبة الدفاع. وأصبح على عبدالرحمن نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للتجارة. وفي الدورة البرلمانية الجديدة كان من أعباء الحكومة الائتلافية طرح مشروع دستور أبريل 1958 على البرلمان عندما ينعقد كجمعية تأسيسية؛ وكذلك حشد التأييد لمشروع المعونة الأمريكية المثير الجدل؛ وفوق هذا وذاك، الحفاظ على تماسك الائتلاف الحاكم وحمايته من التصدع.
2
وضع وزير العدل زيادة أرباب مسودة دستور أبريل 1958 على منضدة الجمعية التأسيسية في اجتماعها الأول في 22 مايو 1958. وفي هذا الاجتماع أجازت الجمعية التأسيسية ستة قرارات قدمتها الحكومة والمعارضة بالاتفاق. وقد كان من بينها أن تنظر الجمعية التأسيسية في مسودة الدستور التي أعدتها اللجنة القومية للدستور. وأيضاً القرار بأن تحال المسودة إلى لجنة مكونة من أربعين عضواً من أعضاء الجمعية التأسيسية للنظر فيها وإعداد تقرير عنها في أقصر وقت ممكن.
3
نعيد إلى الإذهان أنه في جلسة إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في يوم الإثنين 19 ديسمبر 1955، قُدمت باتفاق الحكومة والمعارضة مشروعات لأربعة قرارات. وأُعطيَت الأسبقية في التقديم لمشروع القرار الذي ينص على إعطاء مطلب الجنوبيين لحكومة فيدرالية في المديريات الجنوبية الاعتبار الكافي بواسطة الجمعية التأسيسية. وقد كان هذا هو شرط نواب حزب الأحرار الجنوبي للتصويت مع قرار إعلان الاستقلال من داخل البرلمان.
4
وقد اعترض نواب الجنوب في الجمعية التأسيسية على مسودة الدستور لأنها لم تنص على مطلب "الفيدريشن" وطالبوا بتضمينه. وهنا أوضح زعيم الأغلبية محمد أحمد محجوب أن مسودة الدستور يمكن تعديلها أو رفضها أو استبدالها. فإذا وضعت اللجنة الأربعينية تقريراً عن "الفيدريشن" ، فإنه سيقدَّم للجمعية التأسيسية لتقبله أو ترفضه إذا كانت مصلحة البلاد تقتضي أحد الأمرين، والرأي للأغلبية. رفض النائب فرانكو وول قرنق إجازة الدستور بالأغلبية وقال: «مادامت الشمس تشرق من الشرق فإن الجنوبيين لن يكونوا أغلبية». وقال الأب ساترنينو: «إذا كنا سنعتمد على مسألة الأغلبية والجنوبيين قلة، فلن نحل مشكلة الجنوبيين أبداً».
5
انسحب الأعضاء الجنوبيون من اجتماع الجمعية التأسيسية. وفي بيان أصدروه قالوا إنه كان على الجمعية التأسيسية أن تنظر أولاً في مسألة الاتحاد الفيدرالي بين الجنوب والشمال حسب قرار البرلمان السابق في 19 ديسمبر 1955. وأعلنوا كذلك أنهم لن يبحثوا أو ينظروا في أي مسودة دستور، أو يوافقوا على دستور لا يقوم على أساس الاتحاد الفيدرالي.
6
عارض الحزب الوطني الاتحادي قبول المعونة الأمريكية. وعارضتها أيضاً الجبهة المعادية للاستعمار، واجهة الحزب الشيوعي، وبعض الهيئات مثل نقابة المحامين. وفي 3 يوليو 1958، أجاز مجلس النواب في مرحلة القراءة الثانية مشروع اتفاقية المعونة الأمريكية بأغلبية 104 صوتاً مقابل 57 صوتاً ضده. وامتنع 8 نواب عن التصويت. سيرد من بعد أن إسماعيل الأزهري صرح لصحيفة الأهرام في 4 نوفمبر 1958 أنه قد انضمت إليهم اصوات كثيرة من الأحزاب الحاكمة تطالب بإلغاء المعونة الأمريكية فوراً. وفي 7 نوفمبر 1958، ذكر علي عبدالرحمن لصحيفة الأهرام أيضاً أن الرأي العام السوداني يرى أن المعونة الأمريكية قد جاوزت الحدود التي رسمها البرلمان. والغريب في الأمر أن علي عبدالرحمن ذكر في صفحتي 88 و89 من كتابه «الديمقراطية والاشتراكية في السودان» أنه من إنجازات الحكومة الائتلافية الثانية بين حزبي الأمة والشعب الديمقراطي رفض المعونة الأمريكية ما اضطر رئيس الحكومة عرض الأمر على البرلمان وهو كاره، فرفضتها الأغلبية.
7
لقد تم ائتلاف حزب الشعب الديمقراطي وحزب الأمة لتكوين الحكومة قبل وبعد 1958 بموافقة ورغبة راعي الحزب السيد علي الميرغني. ولكن تلك لم تكن رغبة رئيس الحزب علي عبدالرحمن وكان فيه من الزاهدين. وقد تسـبب ذلك في تعويق أعمال الحكومة لكثرة غيابه عن اجتماعات مجلـس الـوزراء، وكـذلك رحلاته المفاجئة إلى مصر والتي كان لايخطر بها رئيس الوزراء إلا وهو في طريقه إلى المطار وبدون إبداء أسباب. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك على أداء وزراء حزب الشعب في الحكومة، وفي اجتماعات اللجان المشتركة مع وزراء حزب الأمة مثل لجنة متابعة أعمال لجنة الدستور.
8
وبلغ الأمر أن حزب الشعب الديمقراطي أصبح يتصرف في الحكومة كحليف ومعارض في آن واحد. فقد ذُكِر أن الوزير من حزب الشعب كان يوافق على قرار في مجلس الوزراء ثم يعارض نفس القرار أمام الرأي العام لتحقيق كسب حزبي أو ذاتي. وفي التحقيق في الأسباب التي أدت إلى انقلاب 17 نوفمبر 1958، قال علي عبدالرحمن «ائتلفنا في الحكومة ولكننا لم نشعر في أي جلسة من جلسات الحكومة أننا نشتغل كفريق واحد وكنا في صراع داخلي مستمر، وكان عبدالله خليل في قلق وتعب معانا باستمرار».
9
وفي شهادته في لجنة التحقيق قال عبدالله عبدالرحمن نقد الله إنه «لم يكن في الحكومة الانسجام المفروض يكون في المجلس وما في حاجة ماشيه كما يجب أن تمشي. ولما شعرنا الحكاية متعسرة تكونت لجنة عشان تنسق السياسة بين الحزبين... وهذه اللجنة بعد شوية كانت محتاجة ليها لجنة.... لم تكن هناك أمثلة محددة للخلاف ولكن كنا شاعرين بأنه يوجد نوع من عرقلة لأعمال المجلس».
10
في رسالة إلى وزارة الخارجية بلندن مؤرخة في 8 نوفمبر 1958، ذكر السفير تشابمان أندروز السفير البريطاني في السودان، أن حكومة عبدالله خليل لا يمكن أن تستمر مادام فيها علي عبدالرحمن.
11
ترتب على ما تقدم نشوء خلاف في قيادة حزب الأمة حول جدوى الاستمرار في الائتلاف مع حزب الشعب الديمقراطي. كان من رأي رئيس الحزب الصديق المهدي وعبدالرحمن علي طه، أنه لا جدوى من الاستمرار في ائتلاف عقيم لا خير فيه ولا فائدة. وأنه إذا كان لحزب الأمة أن يستمر في الحكم بائتلاف مع حزب آخر، فليكن مع الحزب الوطني الاتحادي. ولكن عبدالله خليل لم يكن يرغب في الإئتلاف مع الحزب الوطني الاتحادي لعدم ثقته في قيادته. وهذا بالرغم من إقراره بصعوبة التعاون مع حزب الشعب الديمقراطي.
12
يقول عبدالرحمن علي طه أنه كلف بابتدار مباحثات مع الحزب الوطني الاتحادي بشأن تشكيل حكومة إئتلافية مع حزب الأمة. وتم ترتيب اجتماع بين ممثلي الحزبين في منزل إبراهيم المفتي بالخرطوم رقم 1 حيث ترأس جانب الحزب الوطني الاتحادي مبارك زروق. تبين لعبدالرحمن علي طه من كلمات الترحيب التي افتتح بها مبارك زروق المباحثات، أن آخرين مع حزب الأمة قد فاتحوهم من قبل في الأمر. فقد ذكر زروق أن حزب الأمة يبدو جاداً في هذه المرة لأنه بعث إلينا بأستاذنا عبدالرحمن علي طه.
13
طرح عبدالرحمن علي طه بإسهاب تقدير حزب الأمة للوضع السياسي. وأدلى مبارك زروق برؤية الحزب الوطني الاتحادي وكانت في معظمها هجوماً على الحكومة وبالأكثر على حزب الأمة. أعقب ذلك انخراط الجانبين في نقاش حول أسبقيات الائتلاف إذا قدر له أن يتم. وكان على رأسها مسألة الدستور والعمل على إنهاء مقاطعة الجنوبيين لاجتماعات الجمعية التأسيسية.
14
ذكر عبدالرحمن علي طه أن النقاش في كل ما طرح من مسائل كان جاداً ومبشراً. ولكن فجأة قرر الحزب الوطني الاتحادي إنهاء المباحثات لأن الرئيس إسماعيل الأزهري سيسافر إلى العراق لتهنئة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم بنجاح ثورة 14 تموز (يوليو) 1958 التي أطاحت بالمملكة العراقية الهاشمية. ناشد عبدالرحمن علي طه مبارك زروق بتأجيل الرحلة إلى وقت آخر لأن الوضع السياسي في السودان لا يحتمل وجود قيادة الحزب الوطني الاتحادي خارج البلاد. كان جواب مبارك زروق أن الرئيس قد حجز للسفر ولا سبيل إلى إلغاء الرحلة أو حتى تأجيلها. وقد تبين من بعد أن رحلة العراق لم تكن سوى تمويه لزيارة القاهرة التي يبدو أنه قد خُطِّط لها سلفاً. وفي هذا الصدد تساءل جيمس موس، سفير الولايات المتحدة في الخرطوم، عما إذا كان الهدف الحقيقي للرحلة الحالية لوفد الحزب الوطني الاتحادي هو القاهرة وليس بغداد.

 

آراء