العلاقات المصرية السودانية فى عالم متغير 2-2 … بقلم: أسماء الحسينى

 


 

 

alshareefaasmaa224@hotmail.com

 

اتخذت السياسة المصرية للمساهمة فى حل أزمة دارفور أكثر من مسار ،بهدف المساعدة فى الوصول إلى حلول داخلية ومنع تصعيد العمل العسكرى وتدويل القضية والتدخلات الخارجية وإبقاء الأزمة فى إطارها الإقليمى،وقدساندت مصر جهود الجامعة العربية والإتحاد الأفريقى لحل القضيةمن جهة ،وتعاونت مع الحكومة السودانية لحلها من جهة أخرى،و بعد تصاعد القضية ودخول السودان فى تعقيدات كبيرة لاقبل له بها حاولت مصر الوصول إلى حلول وسط ومخارج للأزمة لتجنيب السودان المواجهة مع المجتمع الدولى ،التى ترى مصر أنه سيكون لها عواقب وخيمة على الوضع برمته ،وقد حدث ذلك مرات عديدة ،منها عندما رفض السودان القرار رقم 1706الذى رأى فيه تدخلا مباشرا ووصاية عليه ،وفى مشكلة القوات الدولية التى إنتهت إلى ما اصطلح على تسميته بإسم القوات الهجين وفى غيرها من المواقف،التى كانت مصر تطالب وتنصح بالتمهل فى مسألة العقوبات الدولية على السودان وضرورة إعطاء فرصة للحل السلمى،كما فتحت مصرأبوابها لقيادات الحركات المسلحة بدارفور ،الذين دعتهم لأكثر من إجتماع كان آخرها ملتقى القاهرة فى 14 يوليو الماضى لتوحيد 7 فصائل دارفورية كضرورة ملحة للدخول فى تفاوض مع الحكومة السودانية لحل الأزمة بدارفور ،والذى طرحت فيه مصر خريطة الطريق الثلاثية الأبعاد ،وهى تصب على العمل فى ثلاثة إتجاهات لحل الأزمة ،أولاها توحيد الحركات المسلحة بالإقليم عبر صيغتين، إما أن تكون الوحدة عبر تنظيم واحد كحد أعلى، أوعبر رؤى تفاوضية مشتركة ووفد تفاوضى واحد كحد أدنى ،وثانيها هو العمل على تحقيق المصالحة السودانية التشادية ،وثالثها هو العمل على تحسين الأوضاع الإنسانية والأمنية بالإقليم . والجيد فى التحرك المصرى  هو إدراكه لتعقيدات الوضع الداخلى فى دارفور وإرتباطاته الخارجية،وإيمانه بضرورة أن يكون  هذا الحل المرجو حلا شاملا وعادلا حتى تكتب له الديمومة والإستمرار ،وإدراكه أيضا جيدا بأنه  لايمكن  لأى جهة  أيا كانت من صنع هذا الحل بمفردها ،وهذا هو ماعبرت عنه القيادات المصرية جيدا  التى قالت إنها منفتحة على التنسيق والتعاون مع جميع الأطراف والجهود الإقليمية والدولية من أجل المساهمة فى حل مشكلة دارفور والحفاظ على وحدة السودان ،وتأكيدها على ضرورة التنسيق مع الجانب الليبى والبناء على الجهود التى بذلت فى طرابلس لتوحيد الفصائل ،ولعل الأيام المقبلة تشهد مقترحات من داخل السودان أو خارجه  من أجل توحيد الجهود المصرية والليبية والقطرية ،وهو الأمر الذى دعا إليه الدكتور غازى صلاح الدين مستشار الرئيس السودانى ومسئول ملف دارفور،كما أن هناك فهما مصريا للحل فى دارفور ،وهذا يتضح من إسم الملتقى الذى سمى بإسم توحيد الصف الدارفورى ،ولم يسم بإسم توحيد فصائل دارفور المسلحة ،وتعنى التسمية المصرية ضرورة إشراك مكونات المجتمع الأخرى فى دارفور غير الفصائل المسلحة ،وقد وردت إشارة للمجتمع المدنى فى البيان الختامى للملتقى ،والفهم المصرى للحل فى دارفور يتجاوز هذه الحدود أيضا ويراه حلا فى إطار الحل السودانى الشامل ،ولعل ذلك يتضح من أفكار مصرية عرضت فى أوقات سابقة،ولكن سيبقى من الضرورى إيجاد صيغة توحيدية مقبولة تراعى الأوزان النسبية للحركات التى تتفاوت قوتها على الأرض،كما أن  القيادة المصرية تدرك أن فرصة الحل فى دارفور والسودان كله مواتية الآن أكثر من أى وقت مضى،وأنه يجب الإستفادة من ذلك فى ظل إدارة أمريكية جديدة راغبة فى تحقيق السلام بالسودان.

وفى الوقت ذاته سعت مصر للتواصل مع الحكومة السودانية منذ بدء الأزمة لإقناعها بضرورة تفادى التصعيد ضد المجتمع الدولى ،وحاولت مصر إقناع الحكومة السودانية كذلك بضرورة تلبية المطالب الدولية بتحسين الأوضاع فى دارفور .

ولم يقتصر الموقف المصرى على التحرك السياسى والدبلوماسى ،بل إمتد إلى مجال المساعدات الإنسانية والطبية ،حيث لم تنقطع القوافل الطبية والإنسانية الرسمية والشعبية عن إقليم دارفور منذ بداية الأزمة وحتى الآن ،وقد زادت هذه المساهمات فى الفترة التى أعقبت قيام السودان بطرد منظمات إغاثية غربية عقب صدور قرار المحكمة الدولية بإعتقال الرئيس السودانى عمر البشير فى مارس من العام الماضى،وهناك وجود طبى مصرى دائم بدارفور من القوات المسلحة المصرية ،فضلا عن منظمات المجتمع المدنى ،إضافة للوجود العسكرى حيث ساهمت مصر بأعداد مقدرة فى قوات حفظ السلام المشتركة بين الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقى بالإقليم ،واستشهد أحد أفرادها هناك .

 ومن ناحية أخرى أكدت مصر دعمها لكافة الجهود التي من شأنها تجميد إجراءات محكمة الجنايات الدولية التى أصدرت فى مارس الماضى قرارا بإعتقال الرئيس السودانى عمر البشير بتهمة إرتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بدارفور،وبذلت جهودا مع الدول العربية والأفريقية فى مجلس الأمن لتنفيذ المادة 16 من القانون الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لتوقيف أي إجراء ضد السودان والرئيس البشير.،وأكدت كذلك دعمها لجهود تحقيق أمن وسلامة السودان والتأكيد على سيادته الوطنية وتحقيق السلام فى دارفور

تقييم السياسة  المصرية تجاه السودان :

يمكن القول إن السياسة المصرية تجاه السودان تدورالآن فى عالم متغير ،فالسودان الذى كان ساحة مفتوحة لها فى السابق لم يعد كذلك لعدة أسباب ،فالسياسة المصرية التى إعتادت لفترة طويلة التعامل مع السياسيين المحترفين أو الأحزاب الكبيرة فى السودان ،وكانت تراهن على السلطة تارة أو على مادونها من أحزاب المعارضة تارة أخرى ،أما الآن فقد حدثت تغييرات كبيرة فى السودان ،ولم تعد الأحزاب وحدها هى الفاعل الرئيسى ،بل أصبحت هناك حركات مسلحة ومنظمات مجتمع مدنى ،وقد إنتقل لهما زمام الأمر فى العديد من القضايا السودانية بما لهما من صلات خارجية وبقدرات الأفراد الذين يقودونها ،وهم اجيال جديدة ليست لها ذات الصلات القديمة والعاطفية التى كانت لآبائهم بمصر ، وقد أصبحت مصالحهم مرتبطة بسواها من دول العالم ،سواء فى المنطقة العربية أو القارة الأفريقية أو فى أوروبا والولايات المتحدة ،وإلى جانب هؤلاء تقف قطاعات غير هينة من المثقفين السودانيين يتشككون فى مواقف مصر الثقافية من السودان وكأن مصر تغمط السودان حقه فى فنونها المختلفة ووسائل إعلامها .

ولايمكن إغفال الضغوط الدولية والإقليمية ،فهناك  بعض  القوى الدولية الكبرى ومجموعات الضغط  التى تسهم فى صنع قراراتها من لايريد لمصر أن تكون صاحبة اليد الطولى فى شئون السودان ،وهذه القوى هى التى تحاول تعزيز أدوار إقليمية أخرى على حساب الدور المصرى ، ،تساندها فى ذلك  أطراف سودانية  فى كل موقف على حدة لحسابات خاصة بها ،بدءا من رفض وإسقاط المبادرة المصرية الليبية وإنتهاء بالمفاوضات الجارية لحل أزمة دارفور.

إن القول بعدم فاعلية الدور المصرى تاريخيا أمر لايلقى فيه باللوم على مصر وحدها،وإنما يقع اللوم أيضا على الأطراف السودانية أيضا ،وما خلقته الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان من حساسيات تجاه هذا الدور ،فضلا عن محاولات بحثها الدائم عن بديل للدور المصرى.

لكن فى المقابل فإن هناك عاملا آخر يتعلق بمصر ،وهو أن ملف السياسة المصرية تجاه السودان ظل بالأساس فى ايدى أجهزة الأمن والمخابرات ،وبالتالى غلب النواحى الأمنية والرؤية الأمنية على حساب النواحى السياسية والثقافية والإجتماعية ،كما أن تفاقم مشكلات وأعباء مصر الداخلية والخارجية الاخرى أثر على لعب مصر لدور مؤثر تجاه السودان.

 مستقبل العلاقات المصرية السودانية :

هناك حاجة ملحة لتفعيل الدور المصرى تجاه السودان وجعله أكثر فاعلية ومبادرة ،لأن الدور المصرى يبقى مطلوبا فى المرحلة الراهنة التى تتعثر فيها الحلول الأخرى ،وهو مايجعل الحاجة ملحة إلى تطوير آلياته وتجديد مبادراته بشكل فعال ومؤثر ،وقد يكون مفيدا هنا أن تطرح مصر مبادرات جديدة تدعم دورها ،وقد يكون ذلك على سبيل المثال بعقد مؤتمر دولى لإعمار وتنمية دارفور على غرار مافعلت بشأن غزة ،ليساند ذلك موقفها ورؤيتها السياسية ،و عليها أيضا قيادة مبادرات مماثلة بشأن الجنوب،وليكن عبر تجميع الجهود العربية لإعادة إعمار الجنوب ،أو طرح مبادرات لإعادة الثقة فى الوحدة والتفاهم داخل السودان .

وهناك حاجة لتركيز كل الجهود علي التحرك نحو السودان فى المرحلة الراهنة العصيبة ،التى يمر بها السودان ،الذى سيكون بقاؤه كوطن موحد محل إختبار بعد  حوالى 14 شهرا ،عبر الإستفتاء الذى سيختار فيه أبناء جنوب السودان مابين الوحدة أو الإنفصال ،و وفق العديد من التحليلات والآراء داخل السودان وخارجه فإن استمرار السودان كوطن موحد فى ظل إستمرار الأوضاع الحالية أصبح أمراً عسيرا جدا ،ولكن فى الوقت نفسه لم يعد خيار الإنفصال هو الحل الأسهل لمشكلات السودان كما كانت تطرح بعض الزعامات أو التيارات فى الشمال والجنوب ،إذ أصبح من الواضح ان عملية الإنفصال ستصاحبها العديد من التعقيدات ،وتعتبر المشكلات الضخمة الناجمة عن ترسيم حدود منطقة ابيى المتنازع عليها بين الشمال والجنوب و حجم الخلافات حول الإحصاء السكانى مؤشرا قويا على ذلك ، فمابالنا بأبواب جهنم الحقيقية التى سيفتحها الإنفصال سواء  بما يتضمن من قسمة للبشر والأرض والبترول والميا ه والديون وفك الإرتباط الإقتصادى ،ومايمكن أن يؤدى إليه كل ذلك من مشكلات .

والإنفصال ليس هو النتيجة الوحيدة للأوضاع الحالية المقلقة فى السودان ،فهناك الآن مخاوف حقيقية من سيناريوهات عديدة قد تلحق بالسودان ،ليس أقلها اللحاق بالحالة الصومالية ،وبغير شك ستكون عواقب ذلك وخيمة على السودان وقارته الأفريقية ومنطقته العربية ودول جواره جميعا وعلى رأسها مصر ،بل وعلى السلم والأمن الدوليين ،فالسودان مجرد نموذج أفريقى ،وإذا لحق به التفتت أو التجزئة فلن يقف ذلك عند حدوده ،بل سيسرى إلى جميع دول جواره التى تعانى مثله من مشكلات بسبب عدم إستيعاب التعددية داخل مجتمعاتها .

هذه المخاطر الراهنة وغيرها مما يلوح فى الأفق القريب جدا يفرض على مصر تحركا إستثنائيا قويا لمواجهة هذه الأوضاع الإستثنائية على حدودها ،وهذا يتطلب منها أن تلقى بثقلها كله عبر تدخل كبير وشامل فى سبيل حل شمولى لمشكلات السودان ،حيث تستند رؤيتها إلى أن تجزئة حل القضايا السودانية أثبت أنه لايجلب سوى مزيد من التعقيدات ،وهذا الأمر يحتاج من مصر إلى مبادرة جريئة فعالة لجمع القوى السياسية السودانية لتحقيق وفاق وإجماع سودانى حقيقى وتوافق حول القضايا المطروحة جميعا ،وفى هذا السياق يجب أن تضع مصر الأطراف السودانية أمام مسئولياتها الحقيقية ،حتى لايبدو أنها تجامل احدا على حسا ب بلد بأكمله،وقد يكون مفيدا بالنسبة لها التحركات الجارية حاليا داخل السودان لإنقاذ وحدة البلد المهددة،وكذلك التعثر الذى تعانيه المبادرات المطروحة جميعا للحل سواء المبادرة الدولية أوالمساعى الأمريكية أو القطرية أو الليبية ،وهوما يستدعى تجميع هذه الجهود جميعا على صعيد واحد وفى بوتقة واحدة هى البوتقة المصرية،بعد أن وصلت المبادرات الأخرى مداها ،وحان الوقت للتدخل المصرى فى الوقت المناسب ،الذى ينبغى أن يكون بهدف نقل السودان إلى مرحلة أخرى مختلفة عن المرحلة الحالية التى يتعرض فيها للضغط والإبتزاز والترهيب من أكثر من جهة ،بما لايوفر مناخا إيجابيا لأى عمل بناء ،ولن يتحقق ذلك بدون حل وإيجاد مخرج آمن ومرض لجميع الأطراف بشأن المحكمة الجنائية التى أصبحت تشكل قضية خطيرة  .

وتستطيع السياسة المصرية كذلك المساهمة فى قيادة مبادرات كبرى بين شمال وجنوب السودان لخلق مناخ من الثقة فى الفترة القليلة المتبقية من أجل تقرير المصير ،ويمكن لهذا العمل إذا تم ان يكون له تأثير فى إقناع أبناء الجنوب بإمكانية معالجات إيجابية للموقف المتأزم ،ويمكن أن تشارك فى هذه المبادرات الجهات الرسمية فى مصر إضافة إلى منظمات المجتمع المدنى والإعلام والمثقفين المصريين ،للمساهمة فى إزالة المرارات والمشاعر السلبية المتراكمة من سنوات الحرب الطويلة .

وهناك حاجة عموما إلى تنشيط الدور الثقافى والإعلامى المصرى ،وهو دور يمكن أن يكون عاملا مؤثرا ليس فى تقريب الفجوة بين البلدين فحسب ،وإنما يمكن ان يكون ايضا عاملا إيجابيا فى الداخل السودانى ،وهناك حاجة ماسة إلى حوار خلاق بين البلدين لايستهدف إجترار أخطاء وسلبيات الماضى ،بقدر مايبحث فى حل المشكلات العالقة والبحث عن آفاق لإنطلاق العلاقات بين البلدين ويقترح الآليات والسبل الأمثل لإدارتها والإستفادة القصوى منها ،وإلى حشد كل الطاقات الشعبية والأهلية لبناء جسور التواصل والتلاقى مع السودان ،والعمل على وضع السودان على رأس الإهتمام المصرى بكل مستوياته الرسمية والشعبية وتشجيع إقامة المشروعات الإقتصاديةالمشتركة بين البلدين.

آخر الكلام :

يقول الشاعر العراقى بدر شاكر السياب فى قصيدته «لن نفترق»:

هبت تغمغم : سوف نفترق

روح على شفتيك تحترق

صوت كأن ضرام صاعقة

ينداح فيه ... وقلبي الأفق

ضاق الفضاء وغام في بصري

ضوء النجوم وحطم الألق

فعلى جفوني الشاحبات وفي

دمعي شظايا منه أو مزق

فيم الفراق ؟ أليس يجمعنا

حب نظل عليه نعتنق ؟

حب ترقرق في الوعود سنا

منه ورف على الخطى عبق

*

أختاه، صمتك ملؤه الريب ؟

فيما الفراق ؟ أما له سبب ؟

الحزن في عينيك مرتجف

واليأس في شفتيك يضطرب

ويداك باردتان : مثل غدي

وعلى جبينك خاطر شجب

ما زال سرك لا تجنحه

آه مؤججة : ولا يثب

 

آراء