العنز الأبيض من العنز الأسود

 


 

 

(استعيد مقالات قديمة من حقيبتي لألقي الضوء على عوار بنيوي في حركة الحداثة عندنا كان من وراء نكساتها كلما قبضت بزمام السلطة كما في ما بعد ثورة ديسمبر 2018. وهو نهج أفضل من البكاء على اللبن المسكوب بعقيدة أننا لا نفشل في مسعانا للتغيير فحسب، بل ندمنه أيضاً. وكأن الفشل مكتوب على جينات جبيننا منذ الأزل. ومعط الذات هو ما يتسرب الآن للنفوس بعد نكسة الحكومة الانتقالية. وهو نهج عجز. أو لا نهج. إنه انفراط)
أزعجني من مولانا سيف الدولة حمدنا الله والدكتور حيدر إبراهيم مؤخراً عودتهما غير الموفقة لثنائية التعليم الاستعمارية. وهي الثنائية التي رتبت التعليم عندنا ليكون مواجهة بين التعليم الحديث والتعليم التقليدي جعلت لكلية غردون اليد العليا وللمعهد العلمي اليد السفلى. وعاد الرجلان إلي هذه الثنائية بتحيز لليد العليا دون السفلى. فمن رأي مولانا أن رئيس القضاء المُعفى، مولانا جلال محمد عثمان، في 2011 بقرار رئاسي لم يستحق المنصب أصلاً لأنه قاض شرعي. ووضع حيدر المعهد العلمي في تكتل قوى رجعية (فيها القضاء الشرعي) ضيَّقت الحياة وصحرت روحها في إجادة بالغة ل "صناعة الموت والبؤس."
لو كان فرانز فانون (الكاتب الأسود من جزر المارتنيك الذي كان فكره من وراء انتفاضة ستينات القرن الماضي) معروفاً بيننا لاستقبح خيرة كتابنا هذه الثنائية الاستعمارية التي يكون بها الفضاء الاستعماري الحداثي (كلية غردون، السوق الأفرنجي) هو معيار الصواب والفضاء الأهلي (معهد ديني إسلامي، سوق عربي) هو درجة الانحراف. وقال فانون إن الفضاءين تقابلا بصورة إقصائيه فلابد لواحد منهما أن يزول ليبقى الآخر وحده. وأضاف إن اضطرابنا بين الفضاءين يصيبنا ب"الهذيان" ما لم نتخلص من الفضاء الزائد المفروض علينا. وقد وصَفتُ شناعة هذا الهذيان في سياسات القضائية بعد استقلالنا وصراع قسمها المدني والشرعي في كتابي "هذيان مانوي" بالإنجليزية. وبسطته في كتاب "الشريعة والحداثة" بالعربية.
ولم أجد مثلاً في هذيان الثنائية مثل فكاهة سمعتها من السمؤال خلف الله قبل أيام. قال إن باحثاً اجتماعياً أجرى مقابلة مع أدروب. وكانت ""حيلة" ادروب معزتين أحدهما بيضاء والأخرى سوداء. فسأله الباحث كم يصرف على علوقهما. فرد أدروب : على العنز البيضاء أم السوداء؟ فقال الباحث: السوداء. فأجاب أدروب: خمسين قرشاً. فسأل الباحث: وعلى البيضاء؟ قال أدروب: خمسين قرشاً. سأل الباحث: كم رطلاً يحصل من العنزين؟ قال أدروب: من ياتا؟ قال الباحث: البيضاء. قال أدروب ثلاثة أرطال. قال الباحث: وكم تحصل من السوداء؟ قال أدروب: ثلاثة أرطال.
وعرف الباحث أنه ركب مركباً صعباً. فسأل أدروب: وكم ستحصل إذا بعت العنزين؟ قال أدروب: ياتا؟ قال الباحث: السوداء. قال أدروب: عشرين جنيه. سأل الباحث: وكم تحصل من البيضاء؟ قال أدروب: عشرين جنيه. ولم يتمالك الباحث هنا طوره لإجابات أدروب العبثية. فقال غاضباً: ما جننتنا يا أدروب. شابكني البيضاء والسوداء وفرق بينهم مافي. قال أدروب: ما تزعل يا خينا. أنا بقول كده عشان البيضاء حقتي. فسأل الباحث: والسوداء، حقت منو؟ قال أدروب: السوداء حقتي برضو والله.
أشرس المعارك المدنية منذ الاستقلال هي تلك التي دارت بين المهنيين في وزارة التربية والقضائية بين عنزة الاستعمار البيضاء وعنزة الأهالي السوداء. وحديث مولانا وحيدر شاهد على أن المعركة لم تضع أوزارها بعد. وهي معارك فارغة لم نخرج منها إلا بهزيمة المهني الحديث وتضعضع دوره في الوطن.
في نقد الحداثة كما نفكر فيها ونمارسها أزكي لكم كتابي "من يخاف الحداثة" الصادر عن دار المصورات.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء