الكتاب الأسود – اختلال توزيع السلطة والثروة في السودان، أو في شأن “إن لاقاك الدابي والجلابي”

 


 

 

الكتاب الأسود هو كتاب بلا مؤلف معروف، صدر ووزع في السودان في العام 2000، أي بعد عام أو أقل من مفاصلة الإسلاميين الشهيرة، التي أقصى فيها الرئيس البشير الأب الروحي للنظام الإسلامي وقتها الدكتور حسن عبد الله الترابي في العام 1999. وتزامنا مع توقيت الصدور عُدّ الكتاب من قبل الكثيرين واحدة من أدوات الصراع بين فرقاء الإسلاميين. وإن كان الكتاب قد صدر بلا اسم مؤلف عليه، وبلا توضيح لاسم دار النشر أو الطباعة، فقد كان توزيعه كذلك لا يخلو من الدرامية وبعض الغموض.
وغض النظر عن الظروف التي صدر فيها الكتاب أو أسباب صدوره وقتها، فقد أصبح الكتاب مرجعا مهما لمتبنيي نظرية الهامش والمركز، وتحميل وزر التخلف التنموي في مناطقهم الجغرافية للشماليين السودانيين على وجه العموم.
وعلى الرغم من أنه ذُكر في مقدمة الكتاب أنه "ليس بالكتاب التحليلي الناقد الصادر عن أهواء وأغراض والتحامل على فئة أو جهة"، وأنه كتاب "راصد للواقع عارض للحقائق المجردة التي لا تنكرها العين ولا تخطئها البصيرة"، وأنه "قراءة للواقع واستقراء لمآلات الحال إن استمرت الأمور كما هي عليه"، وأن غرضه "إطلاق صافرات الإنذار لإدراك وحدة الوطن وإبقاء كيانه قويا موحدا"، رغم كل ذلك فإن اتجاه الكتاب برمي اللوم على مجموعة إثنية معينة وتحميل كل المنتمين لهذه الإثنية عوار التنمية في السودان، ورمي اللوم عليها في تخلف مجتمعات لها من الأسباب للتخلف ما لها ، كل ذلك يقدح في ما جاء في المقدمة من السعي للموضوعية والحياد.
وذُكر أيضا أنه، أي الكتاب، يكشف عن الظلم البشع المتمثل في محاباة جهة واحدة من السودان على حساب باقي جهاته، ويعزو الكتاب ذلك لسبب تكريس سلطة الإقليم الشمالي (ويحدده بين قوسين بولايتي نهر النيل والشمالية)، على بقية أقاليم البلاد الأخرى. وعلى ذلك يذكر الكتاب في المقدمة نفسها أنه والحال كذلك، فهذه الدولة "لم تعد جديرة بتأييد الكيانات والجماعات والأفراد المنتمين لمجموعة " (ظل السلطة)" كما سماها. فهذه الدولة برأي الكتاب تعمدت تجهيل مواطنيها عدا من هم من الولاية صاحبة الحظوة، أما الآخرين فقد قعد بهم "المرض المقعد والفقر الذي تجمعت كل أسبابه حتى عشش وفرخ صراعات قبلية دامية". فأسباب الصراعات هناك بحسب تفسير الكتاب هي إذن ترجع للشماليين، الذين عملوا على الدوام على تكريس السلطة في أيدي نخبة من جهة إقليمية واحدة، "استغلت السلطة بجميع أوجهها لجعل هذا الاختلال أمرا واقعا فصار أصلا وما عداه هو الاستثناء". بدا لي أنه من باب الجحود وصف الشماليين بتعمد تجهيل مواطني السودان خارج السودان التاريخي، فهؤلاء الشماليون أو النهريون هم من طافوا في القرى والفيافي يعلمون الناس هناك وهم من ابتعثوا بناتهن للتدريس في تلك الأصقاع، ذلك بالطبع عدا عن جحافل الأطباء وبقية الموظفين، ولكن ذلك بالطبع لن يذكره الكتاب، وإن ذكره فغالب الظن أنه كان سيجد له تبريرا من نحو سرقة مواردهم أو مثل ذلك.
الفكرة الأساسية في الكتاب هي إيراد وعرض الإحصائيات التي توضح هيمنة الشماليين على مقاليد السلطة وتسخير ذلك لمصلحتهم الشخصية ومصلحة إثنيتهم ومصلحة مناطقهم في الشمال. لقد مرت مياه، بل دماء، كثيرة تحت الجسر منذ صدور الكتاب وتذوق المهمشون طعم السلطة وعبّوا منها ما عبّوا، فكيف كانت المآلات؟ نترك ذلك للقارئ دون تدخل.
وقبل الدخول في تفاصيل الكتاب أود أن أضع هنا نظرة حكيمة وثاقبة للدكتور قاسم منتصر الطيب فيما خص الاعتماد على الإحصائيات والاتكاء عليها في الحصول على خلاصات قاطعة وأحكام قطعية في بعض المسائل الشائكة. من المعلوم بالطبع في علم الإحصاء وجود ما يسمى بالتحيز وبالعينة العشوائية والعينة المتحكم فيها، وكذلك مفهوم العامل المؤثر وغير ذلك من المفاهيم، ولكن ذلك ليس مجال بحثنا هنا. يرى الدكتور قاسم في سياق غير سياق هذا الكتاب، وبالتحديد فيما خص الاستخدام غير السليم للبيانات، "أن الحقائق التي يتم طرحها في سياق خاطئ يمكن أن تكون مضللة بطبيعتها. لكن الفكرة القائلة بأن "الحقائق" أو "البيانات" غبية، هي فكرة مضللة في حد نفسها. البيانات هي بيانات. يمكن للبشر أن يكونوا أغبياء أو أذكياء في كيفية تعاملهم مع البيانات. إذا تم تعريف الغباء على أنه نفي للذكاء، فربما تكون البيانات غبية، لكن هذا تعريف ضعيف للغباء في رأيي. يجب تصور الغباء على أنه نقيض للذكاء. يمكنك تصنيف الإحصائيات على نطاق واسع إلى فئتين فرعيتين: الإحصاء الوصفي والاستنتاجي. تهتم الإحصائيات الوصفية بإجراء استنتاجات من البيانات، فقط التأكد من دقة البيانات و "وصفها" جيدًا. هل هذا يعني أنها غبية أو لا قيمة لها؟ لا. هل يعني ذلك أنه في كل مرة يقوم باحث بإجراء تحليل إحصائي وصفي، يجب عليه أيضًا تقديم سياق كامل حتى نتمكن أيضًا من عمل استنتاجات؟ الجواب على ذلك هو أيضا لا. الإحصائية المعروفة جيدًا التي توضح هذه النقطة هي إحصائية 13/50 التي يحب الأشخاص الذين يعانون من التحيز العرقي الاستشهاد بها. تأتي هذه الإحصائية من دراسة أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي حول الجريمة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي وجدت أن السود، الذين يشكلون 13٪ من السكان في الولايات المتحدة، يرتكبون 50٪ من جرائم العنف. الآن، هل هذه الإحصائية خاطئة؟ على الأغلب لا. هل هذا غبي؟ لا، هل كان مكتب التحقيقات الفيدرالي مخطئًا في الإبلاغ عن البيانات من دراستهم التي أظهرت ذلك دون تقديم سياق إضافي لشرح الإحصائية؟ أيضا لا. ولكن بعد ذلك يكون لديك أشخاص يأخذون الإحصائية ويستخدمونها في النقاشات حول العرق وعلم الوراثة والجريمة؛ في محاولة إما لتضمين الاستدلالات أو جعلها صريحة. هل هذا خطأ وهل هؤلاء الناس أغبياء؟ نعم، لكلا الأمرين". انتهى الاقتباس من الدكتور قاسم.
وعطفا على ذلك يمكننا أن نرد على بعض الأسئلة الشبيهة بالأسئلة أعلاه فيما خص ما سمي بالكتاب الأسود. هل الإحصائيات التي وردت في الكتاب خاطئة؟ على الأغلب لا، وأقول على الأغلب لأنه لم يتسن لي التحقق من صحة الكثير منها، بعضها بالطبع من المعلوم بالضرورة، ولكن دعنا نعتمد الجواب بلا هنا في نفي صحتها، هل هذا غبي؟ لا، هل كان مؤلف الكتاب أو مؤلفوه مخطئا أو مخطئين في نشر البيانات التي نشروها دون تقديم سياق إضافي للشرح؟ الإجابة لا، فالبيانات هي بيانات، (مع الإشارة هنا إلى أنهم قدموا سياقهم الإضافي للشرح الذي تمثل فيما أثبتوه من البداية من سوء الشماليين)، ولكن، وكما أشار الدكتور قاسم، فبعد ذلك يكون لديك أشخاص يأخذون الإحصائية ويستخدمونها في النقاشات حول ظلم الشماليين للآخرين وتعمدهم إقصاءهم وردّ كل ما ألمّ بغرب السودان مثلا بعدها من التخلف وانعدام التنمية إلى هؤلاء الشماليين بالغي السوء؛ في محاولة إما لتضمين الاستدلالات أو جعلها صريحة. هل هذا خطأ وهل هؤلاء الناس أغبياء كما في سؤال الدكتور قاسم؟ بإسقاط السؤال ذاته هنا فالجواب لا، ليسوا أغبياء بالطبع، أما كون ذلك كان خطأ أم لا، فنعم في سياق نظرتنا إليها بعين التفنيد العلمي، ولكن بالنسبة لمتلقٍ أو قارئ آخر فقد تعتمد الإجابة على تبريرات المؤلف وتفسيره لتلك الاحصائيات أولا، ثم إلى تقبل ذلك المتلقي أو القارئ لهذه التفسيرات. ولكن ذلك قد يخرج الاحصائيات من كونها بيانات هي بيانات، إلى مفهوم يتوسل الأخلاقية والمنطقية وهو ما ليس واحدا من أغراض الكتاب في تفسيره للظلم الواقع على غرب السودان بالتحديد.
في الفصل الأول والمعنون " التعريف بالسودان"، يذكر الكتاب أن "الواقع الجغرافي المتميز للسودان أثّر على التركيبة السكانية للسودان وجعل منه بوتقة انصهار تمازجت فيه كافة العناصر الإثنية في المنطقة"، مما أفرز – بحسب الكتاب- "مزجا سكانيا متفردا أعطى السودان ذاتيته الدالة عليه". وهذا القول رغم شاعريته أو قل رومانسيته، إلا أنه غير صحيح على إطلاقه. فدارفور كانت سلطنة مستقلة حتى ضمها الانجليز للسودان التاريخي قبل نحو مائة عام، ونعني بالسودان التاريخي هنا السودان القديم المتشكل من أصحاب الحضارات القديمة من البجا والنوبيين الذين استعرب غالبهم بالإضافة إلى المهاجرين والممتزجين معهم من العرب والقرن الإفريقي. فالثابت والواضح أن السودان القديم، أو النهري في تعبير المفكر الأمريكي محمود ممداني، هذا السودان منتم لحضارات وثقافات القرن الافريقي وشمال افريقيا أكثر منه لغرب القارة التي تنتمي إليها حضارات وثقافات دارفور وغرب السودان على وجه العموم. وقريبا من ذلك في ضحد ما سماه الكتاب بالمزيج السكاني المتفرد ذا الذاتية الدالة عليه، قريبا من ذلك يمكن الرجوع أو النظر للنقاشات التي تتحدث عن تغييب ثقافات بعينها في السودان لصالح الثقافة العربية الغالبة لأسباب متعددة ليس هنا مجال نقاشها، فكيف لك أن تتحدث عن هوية واحدة وأنت تعترف بتعدد الهويات، بل وتعد ذلك صراعا في خريطة بلاد صنعها المستعمر خدمة لأغراضه الخاصة دون مراعاة لخصوصيات السكان وامتداداتهم القبلية عبر الحدود.
وفي ذلك يرى الدكتور حسين آدم الحاج إن عزلة دارفور التاريخية عن السودان الحالي لم تكن أمراً إختيارياً، بل خلقتها عوامل كثيرة أهمها الطبيعة الجغرافية ثم غياب شبكة التداخل وانعدام العلاقات التي تنشأ بين المجتمعات، والتي دائماً ما تؤدى في النهاية إلى تمازجها وتناغم ثقافاتها في أراض ومساحات مشتركة تنسجم مع بعضها البعض. ولكن ذلك تاريخياً لم يحدث بين دارفور ووسط السودان النيلي، إذ عزلت الطبيعة بحسبه دارفور من ثلاث جهات ولم تجد منفتحاً لها إلا من جهة الغرب. وأثر ذلك واضح بالطبع في انتماء دارفور وثقافاتها لغرب القارة لا إلى السودان التاريخي.
وردت في هذا الفصل معلومة أن القادمين من ولايات الجنوب (قبل انفصاله بالطبع)، والغرب، يشكلون أكثر من نصف سكان الخرطوم الحاليين (في وقت الكتاب)، لنزوحهم من الجنوب بسبب الحرب، وفرارهم من الجفاف والتصحر وانعدام التنمية الكامل في الغرب. بالطبع تقدم وتكرر في الكتاب أن انعدام التنمية الكامل هذا تسبب به قصدا الشماليون، ولكن فات على الكاتب رمي لوم حدوث الجفاف والتصحر على الشماليين الذين لم يقوموا بزرع الأحزمة الشجرية ولم يمنعوا سكان تلك المناطق من الرعي الجائر وقطع الأشجار وغير ذلك من أسباب الجفاف والتصحر بما فيها السباب البيئية. وغض النظر عن مدى دقة المعلومة بأن نصف سكان الخرطوم هم من النازحين إليها، فإنه من غير المنطقي بالطبع أن يعد النازحون نحو مدينة ما من سكانها الأصليين، فالنزوح في أصله حالة مؤقتة تزول بزوال أسبابها، ولكن ذلك بالطبع لا يعني عدم الاهتمام بتوفير الخدمات لهؤلاء النازحين، إنما مصدر التعليق هنا أن يعد النازحون من سكان المدينة، حتى لقد جاء على سكان الخرطوم زمان ظن فيه القادمون الجدد أن الخرطوم مدينة بلا تاريخ وبلا أهل وسكان أصليين، بل إن القادمين من دارفور هذه أنفسهم حين تسنموا السلطة في زمن ما، صرَح غير واحد منهم متحديا: هي الخرطوم دي حقت أبو منو؟ يصعب على العقل النازح أن يتصور أن الخرطوم كمدينة شمالية تقع في شمال السودان لها سكانها الأصليون الذين ليس لبعضهم امتدادات خارجها، وأن بعضهم قد ولد أجداد أجدادهم فيها، فكيف تكون مدينة كوزموبوليتانية بلا سكان اصليين! بالطبع لا تعارض بين وجود السكان الأصليين وأممية المدينة ولكن السياق هنا في نفي الأصالة عن الخرطوم كمدينة من مدن شمال السودان. وفي شأن الجفاف والتصحر الذي أشار إليه الكتاب كسبب للنزوح من دارفور، نجد محمود ممداني (ومن قبله فعل الدكتور محمد سليمان في كتابه: "دارفور حرب الموارد والهوية،" 2004)، قد انتبه لذلك واعتبر التغيير البيئي أو الايكولوجي سببا مهما ورئيسا لم يول العناية في تسببه في الحرب والنزاعات في دارفور، ولكنه بالطبع سبب طبيعي لم يصنعه الشماليون فلذلك ربما لم يكن جديرا باهتمام الكتاب.
يشير الكتاب إلى أن الإقليم الغربي بأكمله "ليس به مشروع واحد يمكن أن يسند محافظة لمدة أسبوع"، وحتى مصفاة الأبيض، يقول الكاتب، تبيع ناتجها في موقعه بسعر السودان كله، أما المجلد وأبو جابرة (مناطق انتاج البترول)، فيذكر الكتاب أن نصيب أهلها كان العمل في حفر خط الأنابيب فقط وحرموا من العمل حتى كسائقين، فالسائقون تم "استيرادهم" من الخرطوم، هم ورجال الأمن الذين كانوا من عنصر واحد، يعني الشماليين بالطبع، والسبب في ذلك حسب تبرير الكتاب: حفاظا على عدم خروج دينار واحد إلى أيد غير ما اعتادت عليه. في الحقيقة لم نسمع أو نقرأ عن أن البترول في أحساء السعودية مثلا يباع بأرخص من سعره في الرياض أو أنه يتفاوت سعره في مناطق الإنتاج في الكويت عن المناطق الأخرى. أما مسألة أن رجال الأمن كانوا من عنصر واحد فذلك مما يسهل قوله، ولكن رجال الأمن والسائقين في الغالب يتبعون للشركات التي تعمل في المجال، سيكون الرد بالطبع أن هذه الشركات ذاتها حكومية أو خاصة يتحكم فيها الشماليون. غير أنه لو كان هؤلاء السائقون وحراس الأمن من مناطق غير الشمال، لقال الكتاب بأن الشماليين من عنصريتهم تركوا الوظائف الهامشية لغيرهم. ولأن الشيء بالشيء يذكر فربما كان من المفيد هنا أن نذكر تجربة العمل في تلك المناطق في فترة الدكتور حمدوك الانتقالية، وأخص بالذكر هذه الفترة فقط لأنني سمعت القصة من مسئول كبير في وزارة النفط وقتها، إذ كانت القبائل في مناطق الإنتاج تقوم بحصار مقار الشركات العاملة هناك ضمن مطالبها بتشغيل أبنائها في تلك المناطق، الأمر الذي كان ينتهي بالتفاوض، ولكن ما كان يحدث أنه بعد خروج القبيلة المعنية يجيء وفد من قبيلة أخرى مطالبا بتشغيل أبناء قبيلته ومعترضا على تشغيل أبناء القبيلة الأخرى لأنهم غير أصلاء في تلك المناطق! يمكن بالطبع إيراد الكثير من مثل هذه القصص وأكثر منها في حقبة الإنقاذ الطويلة، ولكن هذه سمعتها بنفسي. ذكرت هذه القصة هنا فقط للإشارة إلى أن الأشياء ليست دائما كما تبدو أو بالبساطة التي قد تظهر بها. ذلك بالطبع غير أن الوظائف الفنية ترتبط بمهارات معينة ولا علاقة لها بالقبيلة أو الإثنية لشاغلها. وهناك الكثير من القصص التي تروى هنا على لسان المهندسين والطواقم الفنية والهندسية التي عملت هناك في تلك المناطق عن سلوك السكان المحليين هناك ونظرتهم إلى تلك المنشآت والحقول كحق للقبيلة لا الدولة، وما ظلوا يتعرضون له من الحصار والتهديد من قبل الأهالي هناك. من الواضح أن مفهوم الدولة العابرة للقبائلية لم يتطور هناك ولم يبارح مرحلة حق القبيلة وسياسات الحواكير وغير ذلك، مدفوعا بخطابات التهميش ونظريات المركز والهامش واكتشافات الكتاب الأسود!
في الفصل الثالث والذي عنون ب “صور من اختلال ميزان تقسيم السلطة"، ذكر الكتاب أنه وبعد فرحة استقلال البلاد "تمحورت الإدارة الشعبية في قطبين طائفيين تسلماها على أطباق الذهب وبدأت كل قيادة تتحسس سبل الاستفادة من هذه القوة الجديدة"، يعني بالطبع طائفة الختمية وطائفة الأنصار. وذلك بالطبع تفسير للتاريخ وتحوير له بما لا يخلو من الغرض. صحيح أن الختمية والأنصار كانتا الطائفتين الأكبر وقتها، وذلك لأسباب تاريخية يمكن الرجوع إليها، ولكن ما يجدر ذكره هنا أنه وفي حين كانت طائفة الختمية تمثل شمال ووسط وشرق السودان، فقد كانت طائفة الأنصار تاريخيا تمثل غرب السودان. وعلى ذلك يصبح من الغريب هنا الاستشهاد بذلك للتدليل على هيمنة الشماليين بعد الاستقلال. كما أنه من الغريب الاستنكار الذي ورد عن الطائفتين بأنهما سعتا لتحسس سبل الاستفادة من القوة الجديدة، إذ أن ذلك هو بعض مفهوم الأحزاب السياسية، باعتبار أن الختمية تمثلت في الحزب الاتحادي الديمقراطي بينما تمثل الأنصار في حزب الأمة. وعلى كل حال فعند خروج الاستعمار كان الشماليون هم الأكثر تعليما ومناطقهم الأكثر تطورا نسبيا لاستثمار الانجليز في تلك المناطق في خدمات التعليم والتنمية.
ويذكر الكتاب في هذا الفصل كذلك، أنه وعلى الرغم من الكسب المعرفي لأبناء الأقاليم، ورغم التحولات الفكرية التي طرأت على الساحة الفكرية، فإنه لم يحكم السودان قط رئيس من خارج الإقليم الشمالي منذ فجر الاستقلال، وأن الانقلابات التي فشلت إنما فشلت لأنها تُقاوم إذا عُلم أن قائدها ليس من الإقليم الشمالي. لم أستطع فهم ما يعنيه الكتاب بالتحولات الفكرية، ولكن الإشارة إلى الكسب المعرفي تشير إلى حسن نية في اعتبار أن من حكموا السودان تمتعوا بالكسب المعرفي، وذلك بالطبع مما يمكن مغالطته بسهولة، ولكن المسألة المهمة هنا أن السودان من بعد استقلاله وإلى حين صدور الكتاب، حكمه بالانقلابات العسكرية ثلاثة فقط من الرؤساء، وذلك لتطاول فترات الحكم العسكري، وهم الرئيس إبراهيم عبود بانقلاب نوفمبر 1958، ومن بعده الرئيس جعفر نميري بانقلاب مايو 1969، ثم أخيرا الرئيس عمر البشير بانقلاب يونيو 1989، فالإشارة هنا إلى أن السودان منذ استقلاله لم يحكمه غير الشماليين تفقد قوتها بالنظر إلى عدد الرؤساء الذين حكموا، أي ثلاثة رؤساء، وهؤلاء أنفسهم ورغم أنهم من الإقليم الشمالي إلا أن واحدا منهم ، النميري، تعود أصوله لقبيلة غير عربية، أي الدناقلة. الفترات الديمقراطية في السودان كانت قصيرة جدا كما نعلم جميعا، وفي هذه الفترات تولى السيد الصادق المهدي من حزب الأمة رئاسة الوزراء لمرتين، وبالطبع فحزب الأمة من الأحزاب ذات القاعدة الدارفورية الكبيرة، فيمكن والحال كذلك لوم الحزب على عدم تقديم رئيس وزراء من غرب السودان مثلا وليس لوم الشماليين.
تغيرت الأحوال كنتيجة طبيعية مع مرور الزمن، وشهدت بعض الولايات الشمالية حكاما من غرب السودان، دون أن يثير ذلك لدى السودانيين الشماليين أي امتعاض، بينما ظلت دارفور على حالها من رفض أن يحكمها أو يتولى المناصب فيها من كانوا من خارج إثنيات الإقليم، وذلك سلوك سابق لصدور الكتاب الأسود، ففي العام 1980 وبعد تولي السيد أحمد إبراهيم دريج حكم الإقليم الغربي كأول حاكم من السكان الأصليين صرّح السيد شريف حرير السياسي الدارفوري المعروف بأن ذلك سجّل نهاية الاستعمار الداخلي! وكان ذلك قد حدث بعد معارضة شعبية سماها الدارفوريون بالانتفاضة، ضد قرار النميري بتعيين حاكم من خارج دارفور أولاً قبل رضوخه لمطلب المتظاهرين بتعيين السيد دريج (محمود ممداني، دارفور منقذون وناجون، ص 233).
يستعرض الكتاب بعد ذلك التمثيل الجهوي في توزيع المناصب الدستورية في الحكومات السابقة بذكر كل إقليم ونصيبه من المناصب الدستورية، ولأجل ذلك تم تقسيم الأقاليم إلى الشرقي والشمالي والأوسط والجنوبي والغربي. متبعين ذلك بتوزيع السكان وفق إحصاء 1986 للأقاليم المذكورة، ليخلص إلى أن ما نسبته 5,4 % فقط من جملة السكان في ذلك الوقت يمثلون في السلطة التنفيذية بنسبة 79,5 % طيلة خمس حكومات متعاقبة، ذكرها بالاسم، من العام 1954 إلى العام 1964، بزعامة الأزهري في ثلاث منها، ثم بزعامة عبد الله خليل فالفريق إبراهيم عبود في الأخيرتين. في الحقيقة من الصعب لوم الأحزاب في الفترات الديمقراطية على اختياراتها لتولي المناصب الدستورية مثلا، ولكن يجدر بالذكر هنا أنه ولطبيعة تكوين الحزبين الكبيرين في ذلك الوقت، فقد كان الحزب الاتحادي الديمقراطي ذا قاعدة انتخابية من سكان شمال ووسط وشرق السودان، فيصبح من المنطقي والحال كذلك أن تكون غالب اختياراته من قاعدته الانتخابية. أما في فترة عبد الله خليل المحسوب على حزب الأمة ذا القاعدة الانتخابية الكبيرة في غرب السودان، فإن التساؤل هنا قد يصبح أكثر منطقية، ذلك بالطبع مع الأخذ في الاعتبار أنه من غير المنطقي بل من غير المعقول محاسبة الفترات التاريخية في وقت ما بمفاهيمنا الحالية للتمثيل الجهوي وتمثيل المرأة على سبيل المثال، آخذين في الاعتبار بالطبع الصراعات السياسية وقتها وسوء ممارسة السياسة السودانية على وجه العموم. وفيما خص السيد إسماعيل الأزهري بالذات، نجد البروفيسور عبد الله علي إبراهيم يستغرب إصرار الكتاب على نسبته إلى الشمالية، وفي ذلك يقول عبد الله:" فالأزهري معروف أنه من الغرب، ولكنه ولد وترعرع في العاصمة. وقد رحل أهله عن الشمالية قبل قرون. ومع ذلك فهو عند الكتاب شمالي برغم مهاجر أهله العديدة اللاحقة. ولذا يستغرب المرء قول الكتاب إنه لم يكن بين من تقلدوا رئاسة السودان رجل من الغرب. فإن لم يكن أزهري من الغرب صار من العاصمة. وستكون نسبته للشمالية مشتطة إلا إن كانت النسبة للشمالية عاهة لا تبرأ". وهي بالحق كذلك عند من كتبوا الكتاب: عاهة لا تبرأ. وتأكدنا من ذلك بعد حرب الخرطوم الأخيرة وخطابات منسوبي قوات الدعم السريع الجهلاء منهم والمتعلمين، بل والمتعاطفين معهم من حواضنهم الاجتماعية وإن بلغوا في التعليم شأوا. واستمرارا مع البروفيسور عبد الله نجده يستنكر إصرار الكتاب كذلك على نسبة غير واحد إلى الإقليم الشمالي وهم ليسوا منه، ويسمي ذلك بالتوزيع العشوائي، فالكتاب يرُدُّ عبد الباسط سبدرات شماليا وهو من القطينة على النيل الأبيض، والمتعافي أوسطيا وهو من الدويم، وأبو القاسم محمد إبراهيم أوسطيا بينما عاش أهله لأجيال في بري والهاشماب بأم درمان، بينما أصلهم لو بحثت عنه فهو في كمير ود هاشم بدار الجعليين. وقال الكتاب بأن غازي العتباني أوسطي بينما هو عاصمي لأهله أحياء معروفة باسمهم مثل تلك التي في أم درمان وبحري، وغير ذلك من المغالطات التي يمكن الرجوع إليها في مقال البروفيسور عبد الله.
اهتم الكتاب باستعراض نصيب كل إقليم اثنيا من المناصب الدستورية في الحكومات التالية من النميري، فالمجلس العسكري الانتقالي، فالديمقراطية الثانية وأخيرا مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني بحكوماتها المختلفة. وفي ذلك يذكر الكتاب أنه في عهد النميري فإن النميري آثر الحفاظ على التركيبة الجهوية كما هي، ما أدى إلى تركيز التنمية في الشمال والوسط وإغلاق الباب أمام المبادرات الفردية المستقطبة لمشاريع التنمية من الخارج إن كانت لغير الشمال، وضرب مثلا لذلك طريق الكفرة الفاشر الذي قال الكتاب إنه ليس بخاف على أحد! في الحقيقة لم أكن سمعت من قبل بمسألة طريق الكفرة الفاشر الذي وُصِف في الكتاب بأنه لم يخف على أحد، ولكن بالبحث في شبكة الانترنت وجدت مقالا لكاتب من دارفور يشير إلى أن عقيد ليبيا وقتها معمر القذافي كان قد تبرع برصف الطريق المذكور، ولكن الشماليين في الحكومة حولوا الطريق ليكون هو طريق العيلفون في شرق النيل بالخرطوم (الذي شيد في عهد الإنقاذ وليس النميري!). بالطبع لم أتوفر على تبرير لهذه المسألة إن حدثت، ولكن مسألة الطرق القارية أو العابرة للحدود لها حساباتها المختلفة، خاصة عند التعامل مع نظام كنظام عقيد ليبيا، ولكن للوصول إلى حقيقة هذه المسألة كما كثير من المسائل التي ردّها الكتاب للاستهداف الشمالي لدارفور كان ينبغي الاستماع إلى الطرف الآخر، ولكن ذلك لم يكن غرض الكتاب بالطبع. والغريب أنني وببحثي عن هذه المسألة وجدت مقالا لكاتبه من منطقة العيلفون يقص فيها قصة الطريق، فذكر أن الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم وكان وقتها محافظ الخرطوم في العام 1974 كان قد زارهم في مدرستهم الابتدائية، وهو كان قد حضر لوضع حجر الأساس لطريق العيلفون- أم دوم - الخرطوم، الذي لم يتحقق إلا بعد 26 عاما من ذلك، عند زيارة العقيد القذافي رفقة الرئيس وقتها عمر البشير. وذكر المقال أن القذافي وقتها تبرع بتشييد الطريق وسفلتته، ولكنه فوجئ بعد ذلك عند الافتتاح بأن الطريق لم يكن بالمواصفات التي اتفق عليها! يذكر الكاتب ذلك ويعزو السبب إلى أن الأموال المرصودة للطريق قد حُوِّل نصفها لتشييد طريق شريان الشمال أو التحدي، الرابط بين الخرطوم وشندي. ويتساءل كاتب المقال: لماذا؟ ولمصلحة من؟
قبل ذلك ذكر الكتاب أن من تم اختيارهم للمناصب في فترة الديمقراطية الأولى من الإقليم الأوسط كانت أصولهم من الإقليم الشمالي! وهذه في الحقيقة نظرية أو فكرة ربما لم تخطر ببال سكان الإقليم الأوسط أنفسهم. وعلى كل حال فمسألة القبلية الحادة قد انتهت في السودان الشمالي إلى حد كبير، بحيث لن يؤثر على واحدهم بأن من تولى أمر ولايتهم هو من تنقسي أم من القرير أو من عبود بالمناقل. ولكن سؤالا يبرز هنا، لماذا لم يعترض أهل الإقليم الأوسط على ذلك ويعدونه تعديا على حقوقهم؟ من الواضح أن فكرة الدولة القومية العابرة للقبائلية أكثر ترسخا في وسط وشمال السودان لأسباب مختلفة. وثمة سؤال آخر هنا، هل تم اختيارهم لتولي أمر الإقليم قصدا لأن أصولهم تعود للإقليم الشمالي وليس لأي سبب آخر؟
يورد الكتاب أنه في المجلس العسكري الانتقالي الأول كانت نسبة تمثيل الإقليم الغربي 3.3%، والشرقي صفر، والأوسط 10%، والجنوبي 16.7% بينما الشمالي 70%. في الحقيقة لا يمكنك أو من الصعب أن تطالب انقلابا عسكريا بأن يلتزم بالتوزيع الاثني العادل أو المقبول في تمثيل أقاليم البلاد، فالانقلاب بطبيعته يقوم على الثقة والمعرفة والزمالة وقبل ذلك العقائدية إن توفرت، وهذه مسائل لا علاقة لها بالتوزيع الجغرافي بل بالعلاقات الشخصية، ذلك عدا غلبة العنصر الشمالي في الرتب العليا في القوات المسلحة السودانية وقتها، لأسباب مختلفة من بعد خروج الانجليز ولفترة بعدها. يمكن للكتاب بالطبع رد هذه الغلبة إلى هيمنة الشماليين، ولكننا هنا في شأن تفنيد اعتراضه على التمثيل الجهوي للمجلس العسكري الانتقالي. وغير ذلك فإنه من غير الوارد وقتها أن السودانيين أنفسهم نظروا للمسألة بتلك الحدة في ذلك الوقت.
في الديمقراطية الثانية كانت النسب مختلة أيضا برأي الكتاب، ولكنها الديمقراطية على أي حال! ولكن الإقليم الغربي هذه المرة وصلت نسبته إلى 22,4%، مما حدا بالكتاب القول بأن السيد الصادق المهدي كان هو الوحيد الذي قارب الكمال في تحقيقه المشاركة الكاملة في الحكم والتمثيل الشامل لجميع أقاليم السودان في حكومته. فرغم احتفاظ الإقليم الشمالي بتفوقه، يقول الكتاب، إلا أنه وللمرة الأولى تولى واحد من أبناء الغرب والوسط منصب وزير المالية وهم إبراهيم منعم منصور والدكتور بشير عمر والدكتور عمر نور الدائم. وبذكر السيد إبراهيم منعم منصور فقد كان من أميز وزراء المالية في السودان، وربما يجدر بي القول إنني وإلى وقت قريب لم أكن أعرف ولم أهتم في الحقيقة بمعرفة إلى أين تعود أصوله، ولولا قراءتي لمذكراته الثرة والغنية بالمعلومات لما عرفت انتماءه لعرب غرب السودان. ولكن السؤال الذي لابد من طرحه هنا هو هل تم تعيين السيد إبراهيم منعم منصور فقط لأنه من غرب السودان؟ وهل إبراهيم منعم منصور نفسه تعامل باعتبار أنه من غرب السودان؟ أي أنه تم اختياره لغرض التمثيل الجهوي لا لكفاءته؟ ثم هل تعامل معه الوزراء وعموم الشماليين كوزير قادم من غرب السودان متعديا على حقهم في الحكم والوزارة؟ بقراءتي لمذكراته الثرة وبحضوري لعدد من الحلقات التي وثق له فيها الأستاذ غسان علي عثمان في قناة سودانية 24، وبغير ذلك من أسباب أخرى، لا أظن أن كل ذلك كان في بال السيد إبراهيم ولا في بال الشماليين أنفسهم.
عن مجلس قيادة ثورة الإنقاذ يقول الكتاب أن "الثورة لم تجد بدا من تمثيل هذه المجموعة بما يتناسب مع عطائها"! ولكن التمثيل لم يكن على حساب الإقليم الشمالي بل الأقاليم الأخرى. ولكن الإنقاذ " تنكرت لذلك وسلكت مسلك الحكومات السابقة في تعزيز وجود ممثلي الإقليم الشمالي في حكوماتها المختلفة والمحافظة على غلبتهم، فمكنت عنصرا جهويا لا مبادئ وشعارات". ثمة نقاط هنا يمكن الوقوف عندها، فالكتاب يشير إلى ما سماه بعطاء تلك الفئة، في إشارة ضمنية إلى أن عطاءهم هذه المرة كان أكثر من ذي قبل، وذلك ينسف بطريقة أو بأخرى أو قل يقدح، في حجة أنهم استبعدوا قبلا للعامل الجهوي وحده على الأقل. المسألة الثانية أن نظام الإنقاذ كان واحدا من أسوأ الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت السودان، فتلك الفئة إذن لم يكن لديها مانع من التعاطي مع الدكتاتورية في سبيل الوصول للمناصب الحكومية. لا يعني ذلك بالطبع تبرير ذلك للشماليين الذين أيدوا أو عملوا مع الأنظمة الدكتاتورية، ولكن المسألة هي في عدم الاتساق.
وفي هذا الإطار يرى الكتاب أن "مصير 78.8 من سكان السودان كان معلقا بإرادة 12.2% فقط من السكان هم الشماليون"، ولكن هذه النسبة الضئيلة نفسها بداخلها مجموعات تعاني التهميش مثل "المناصير الذين مثلوا المهمشين من العناصر العربية والمحس الذين مثلوا المهمشين من القبائل النوبية". لا يمكن بالطبع أخذ الإشارة إلى المحس والمناصير هنا إلا في إطار المزايدة، فالفكرة الأساسية من الكتاب هي التهميش الواقع على دارفور وغرب السودان من قبل الشماليين الذين يعتبر المحس والمناصير منهم دون شك. وفي الحقيقة فإن التهميش الواقع على الشماليين من النخب الشمالية ذاتها ليس بأقل من الحاصل في أجزاء البلاد الأخرى، وقد أذكر هنا ما رواه لي الصديق البروفيسور نصر الدين محمد أحمد شريف مرة، من أنهم في المدرسة الابتدائية في السبعينات في عبري بشمال السودان كان يتم جلدهم إن تحدثوا بلغتهم النوبية في المدرسة، ومثل هذه القصص تجدها مبذولة في بعض الكتابات، ولكن ذلك وكما نرى لم يدفع المحس للتمرد على الدولة وحمل السلاح، بل وإضافة إلى ذلك كانوا يتقبلون السخرية من لغتهم العربية بصدر رحب. أما المناصير الذين سامتهم الحكومة في عهد الإنقاذ سوء عسفها وهجرتهم من أراضيهم لصالح تشييد سد مروي فلا تزال ظلاماتهم تراوح مكانها.
ولكن الإنقاذ، ولحسرة الكتاب وحسب لغته، هدمت بيدها ما بنته من سنين، وأسقطت الراية التي جمعت لها كل السودان! فقدّمت الولاء قبل الكفاءة وآثرت الأقربين من الأهل دون الأبعدين، وحتى عندما أرادت تعميم تمثيل الأقاليم في المحافظات والوزارات لجأت إلى اختيار عناصر استوطنت تلك الأقاليم ولكن أصولها من الإقليم الشمالي! ويرى الكتاب أن الإنقاذ فعلت ذلك لتوهم البعض بعدالتها في توزيع السلطة وحرصها على الحكم الفدرالي، وسبب ذلك في رأيه ألا يصب أي درهم دعما لحكومات الأقاليم غير المرضي عنها من القصر الجمهوري. ويستنكر الكتاب أن المجموعة الحاكمة قد يكون فيها من لم تتح له الفرصة لرؤية ثلث مساحة السودان، ناهيك عن رؤيته كاملا! ثم يتساءل عن دور الجيش الجرار من المستشارين بالقصر إن لم يكن للترضيات وحفظ أغلبية التمثيل للإقليم الشمالي! من الواضح هنا أن هذه كتابة لا تخلو من البعد الحزبي، فما هي الراية التي رفعتها الإنقاذ وجمعت بها كل السودانيين إن لم تكن شعارات الإسلاميين في أول عهدهم قبل المفاصلة؟ ثم إنه من الغريب أن يستنكر الكتاب أن يحكم البلاد من لم تتوفر له الفرصة لرؤية ثلث مساحة السودان، وفي ذلك شطط غريب، بالطبع يعني الكتاب هنا بثلث السودان غربه، قاصدا بذلك الشماليين لا أحد غيرهم.
الفصل الخامس كان بعنوان "صور من اختلال الميزان في تقسيم الثروة"، وفيه يذكر الكتاب أن تقسيم الثروة بدأ حين فكر نظام الفريق عبود في تعميم التنمية فأوصل قطار الغرب إلى نيالا، وأقام مدرستين مهنيتين بكل من الجنينة ونيالا، وثانوية بالأُبيض وبورتسودان، ومن ثم، يقول الكتاب، وجّه كامل التنمية إلى الوسط والشمال، وذكر من الأمثلة خزان خشم القربة وحلفا الجديدة بمصنع سكرها تعويضا من الشعب السوداني وعلاجا منه لأخطاء القادة ومال الشعب السوداني الذي سمح به لإعادة توطين أهالي حلفا، مع إشارة الكتاب إلى أنه ما كان سينفق بتلك الصورة إن كان الأمر سيعني أيا من باقي الأقاليم. من الصعب ربما الرد على مثل هذه المقولات فاقدة المنطق، إن ذلك ممكن ولكن لا جدوى منه. ومن مثل ذلك القول أيضا ما تكرر في الكتاب، ومنه ما ذكر أنه باستثناء بعض مدراء الإدارات في وزارة المالية فإنك لن تجد ما نسبته 5% من العاملين من خارج الإقليم الشمالي، أما البقية فنصيبهم خدمات الشاي والنظافة، إذ حتى السائقين سيتم احتواء الفاقد التربوي من الإقليم الشمالي من أسر في تلك المواقع. وعندما تتقدم أي مؤسسة من غير الإقليم الشمالي بطلب يتم عرقلتها ويكون هناك حلفان بالطلاق وحياة الشيخ فلان وتبليغ عم فلان وزعل حاجة فلانة! هكذا بالنص في الكتاب.
يقول الكتاب إن هذه الظاهرة أوضح ما تكون في تمويل الجامعات والمعاهد العليا، وضرب مثلا لذلك بقوله قارن بين جامعة كسلا أو جامعة كادقلي مع جامعة شندي أو عطبرة من حيث الإمكانيات المتاحة. ورد بأنه سيقولون لك مساهمة شعبية، وهذه المساهمة نفسها من تصديقات المسئولين التنفيذيين من أبناء الشمال بالخرطوم ومن أموال المؤسسات التي يديرونها وهي مؤسسات تتبع للشعب السوداني ومن ماله. في الحقيقة هذا قول مخاتل لحد بعيد، فبذات المنطق لا يمكنك المقارنة بين جامعات في الإقليم الشمالي مثل شندي ونهر النيل (عطبرة) على سبيل المثال مع جامعتي نيالا والفاشر، إذ ستكون المقارنة لصالح الجامعتين الغربيتين، ولكنه غمض العين. ذلك بالطبع عدا البساطة التي ترقى للسذاجة في مثل هذه المقارنة، ولكن في الحقيقة ليس هناك أي مجال للسذاجة هنا، بل قصد وتعمد.
يناقش الكتاب سمات البرنامج الثلاثي الذي أجازته حكومة الإنقاذ للأعوام 1999 إلى 2002، لتعين، كما قال، في اقتفاء مظاهر اختلال ميزان الثروة وخلل توزيع مشاريع التنمية.
ففي القطاع الزراعي المروي يرى الكتاب أن مشاريع مثل تعلية خزان الرصيرص والمسوحات الجديدة لخزان مروي ومكافحة الهدّام لحماية الأراضي الزراعية وتأهيل جسور النيل الأبيض، كلها لا تضيف شيئا مقنعا يستوجب استمرار دخل الأموال للإقليم الشمالي بتلك الكثافة، فعائدات السمسم والذرة والفول السوداني والكركدى وحب البطيخ والصمغ العربي و مشاريع زهرة الشمس اضافة الى المشاريع الجديدة مثل القوار والحرير الطبيعي، كل هذه مضافة اليها في الثروة القادمة لمناطق الزراعة المطرية كل هذه، يقول الكتاب، تجعل من مشاريع توطين القمح في الشمالية مع الهجرات السكانية المعاكسة من أهل الاقليم الى العاصمة والخارج بلا جدوى. ليس نقد مشاريع التنمية مما يسهل فيه الكلام بهذه البساطة، ولكن ثمة نقطة هنا ذكرها الكتاب، تتعلق بهجرة أهل الإقليم الشمالي إلى العاصمة، فلماذا يهاجرون طالما أن التنمية والثروة قد وجهها المتنفذون من أبنائهم لمناطقهم هذه.
يستمر الكتاب في ذات النهج التجريمي المسبق برد كل مشاريع التنمية في السودان التي أقيمت في الشمال إلى رغبة الشماليين وتقصدهم إفقار غرب البلاد، ومرة مرة يذكر أقاليم البلاد الأخرى، ومن ذلك ما سماه بإيقاف زراعة القمح في الجزيرة والسعي لتوطينه في الشمالية تسويقا وتبريرا لإقامة خزانات كجبار، الحمداب ومروي كما قال. في الحقيقة لا يمكن التعرض لمسألة توطين زراعة القمح في السودان بهذه البساطة، خاصة مع كم الدراسات والمناقشات التي أثيرت في هذا الأمر من تمزيق فاتورة استيراد القمح ومن تغير نمط غذاء السودانيين، ومن ارتباط القمح بالهيمنة الدولية على اقتصاديات الشعوب وغير ذلك، ولكنه الكتاب الأسود على أي حال.
على كل حال يرى الكتاب ويصرح بأن "إدارة الثروة بهذه الطريقة تأكيد على رغبة الجهات المعنية على بقاء المال في أيد محددة، حسب المقررات الثلاثة للمنفستو الخاص بهم" (لم أعرف ولم أجد هذه المقررات أو هذا المنفستو المشار إليه). ومن الأمثلة التي يوردها الكتاب كدليل على ذلك مسألة مياه الأُبيض التي يقول الكتاب إنه عندما تحرك واليها الشيخ ابراهيم السنوسي على درب حلها " كان لزاما وعهداً وميثاقاً الا يظفر بهذا الشرف أحد من غير أبناء الاقليم الشمالي". في الحقيقة أظن أن الكتاب يتوهم منافسة غير موجودة وحرصا متخيلا من أبناء الإقليم الشمالي على منافسة الآخرين، في الحقيقة لا يحفل الشماليون كثيرا بهذه المسألة، أما إن حدث ذلك فهو في غالب الأمر نتاج للمنافسات داخل حزب الإسلاميين الحاكم وقتها أكثر منه منافسة عرقية كما يشي الكتاب. وإبراهيم السنوسي الذي يصفه الكتاب هنا بالشيخ، هو والي الأبيض في فترة من الفترات وهو خليفة الدكتور الترابي في رئاسة حزب المؤتمر الشعبي الذي انقسم من حزب المؤتمر الوطني الحاكم بعد مفاصلة الإسلاميين الشهيرة في السودان. لم أجد معلومات تذكر عن مسألة مياه الأبيض عند البحث عنها في شبكة الانترنت، بعض ما وجدته كان اتهاما من منظمة تدعى زيرو فساد للسيد إبراهيم السنوسي بالفساد في هذا الملف، ولكن دون تفاصيل مرة أخرى. يدلل الكتاب على تكالب الشماليين ورغبتهم في نسبة الفضل إليهم عِوَض أهل الغرب مرة أخرى بما حدث من سحب ملف السلام بعد جولات أبوجا من الدكتور علي الحاج المنتمي إثنيا لغرب السودان وتسليم الملف إلى غيره، ويصف علي الحاج بأنه " قومي التفكير والنزعة ولا يعترف بالجهوية والعنصرية مهما كلفته من غال ومرتخص، ورغم الشواهد التي يسمعها ويراها تمارس أمام عينه ومن رفقاء دربه". بدا لي أن ذلك مما لا يستحق الرد عليه بالنظر إلى ما صاحب ملف تلك المحادثات من التقلبات والتعقيدات التي لازمتها.
من الأدلة التي يوردها الكتاب لتدعيم وجهة نظره في مجال الخدمات الزراعية ما أشار إليه من أن نتائج البحوث لم تتجاوز القطاع المروي. وذلك في أحسن الأحوال شطط في القول دون ذكر مصادر أو إحصائيات أو حتى مؤشرات لتدخل الدولة المهيمن عليها بواسطة الشماليين في تحديد اتجاهات البحث العلمي! على كل حال لن يعني مثل قولنا هذا شيئا لمؤلف الكتاب أو مؤلفيه، فالكتاب يقطع بكل وضوح أن "السبب أن المواطن في الشرق أو الغرب أو الجنوب غير مؤهل للاستفادة من قدرات تلك المؤسسات رغم إنه اغلب الاحيان لم يسمع بها البتة. أما توفير وحدات الخدمات المتكاملة لصغار المزارعين فهذا شان من شئون الاقليم الشمالي فقط".
يرد في الكتاب استنكار إعلان الإقليم الشمالي منطقة خالية من أمراض الثروة الحيوانية متسائلا عن كم انتاجها من صادر السودان من الماشية والإبل والضأن وما نسبة اسهامها فيه، وذلك بالطبع أمر غريب، فاعلان خلو منطقة ما من مرض معين لا علاقة له بما تساءل عنه الكتاب، ولكنه الغرض مرة أخرى، فهو يرد ذلك إلى أن برنامج مكافحة الأوبئة قومي التمويل شمالي الإدارة. أما في القطاع الصناعي كما سماه الكتاب، فهو يرى أن الزمان سيطول قبل ان نرى مشروعا صناعيا في المناطق الاخرى غير الوسط. حيث تحققت فيه هيمنة الشمال على كل مرافق هذا القطاع، ويضرب مثلا لذلك بالتصنيع الحربي ومطبعة العملة والكهرباء ومصانع السكر. في الحقيقة ثمة مسألة جديرة بالاهتمام هنا، وهي أن مشاريع التنمية حين بدأها الانجليز في السودان بدأوها في ذات المناطق التي يشكو الكتاب من هيمنتها على بقية السودان، واستمرت هذه المسألة لحد ما لأسباب عديدة منها الاستقرار النسبي في هذه المناطق وتوفر البنى التحتية التي تركها الانجليز وقتها.
في الكتاب ثمة مغالطات لا معنى لها ولا تفسير سوى التحيز ومحاولة الظهور بمظهر الإنصاف والحرص على حقوق بقية أجزاء السودان غير غربه أو دارفور على وجه التحديد، فتحت العنوان الجانبي قطاع الطاقة والمياه، يذكر الكتاب أن مياه الخرطوم يتم تطويرها لأن المدينة تمددت، بالطبع في ذلك مغالطة لا تخفى هي أيضا، ولكن ما يهمنا هنا ما ذكره الكتاب على سبيل المقارنة من أن الشرق والوسط يعانيان من الكلازار والبلهارسيا والملاريا لسبب نقص خدمات المياه! وذلك بالطبع هراء لا أكثر ولا أقل، فليس ثمة علاقة مباشرة للإصابة بالكلازار الذي تنقله الذبابة الرملية وينتشر في القضارف بينما ينتشر نوعه الجلدي في الخرطوم وشمال السودان (وفي غربه)، لا علاقة مباشرة بينه وبين المياه. ذات الأمر ينطبق على الملاريا بالطبع، إلا إن كان القصد هو المياه الراكدة التي تتوالد فيها يرقات البعوض، ولعل مشكلة البلهارسيا في مشروع الجزيرة مثلا هي الأقرب ارتباطا بمسألة المياه واستخداماتها والتعامل معها، ولكن ذلك ليس بالبساطة والسطحية التي وردت بها في الكتاب. من الواضح أن الكتاب وضع النتائج نصب عينيه ثم سعى لتبريرها بعد ذلك بتبرير معد مسبقا هو الآخر.
وصف الكتاب قطاع المصارف في السودان بأنه "من القطاعات خلف الشريط الاحمر الذي لا يمكن تجاوزه أو الدخول إليه (إلا) عبر ميزات محددة وتصنيف حاد، فمن جملة ١٥ (خمسة عشر) منصبا لمحافظ بنك السودان في الفترة ١/١٢/١۹٥٦م حتى اليوم (تاريخ الكتاب في العام 2000)، لم يجلس أحد في المنصب من الاقليم الشرقي أو الغربي (أو) الجنوبي، وحتى المنسوب للإقليم الاوسط من أصول شمالية قريبة عهد بالوفود الى الاقليم الاوسط. والحديث موصول لمديري بنك الخرطوم والبنك الزراعي وبنك التنمية الصناعية بعد سودنة أصولهم الأولى). على كل حال ودون الرد والتبرير على هذه المسألة فقد جرب السودانيون في عهد البشير وبعده ولاية أبناء غرب السودان على المال العام في وزارة المالية وبنك السودان وفي العديد من البنوك، والتجربة خير برهان فيما خص هذه المسألة! ولولا عدم الرغبة في الدخول في مجادلات إحصائية نستنكرها على الكتاب بطريقته في التبرير لها، لولا ذلك لكان من الممكن السعي خلف الإحصائيات الإثنية وعرضها، ويقيني أنه من المهم فعل ذلك لا للرد على الكتاب ولكن كمسعى لكشف عوار التمكين الجهوي المتجاوز لشروط الكفاءة. فبعد ما عرفت باتفاقية جوبا من بعد سقوط الإنقاذ ودخول حركات دارفور المسلحة إلى الحكومة، عين السيد جبريل إبراهيم زعيم حركة العدل والمساواة وزيرا للمالية، المنصب الذي تمسك به ورفض التنازل عنه في الحكومة الانتقالية الثانية. ذكر الدكتور عمر القراي أن أول ما بدأ به جبريل هو التمكين لأسرته ولحركته، وذكر ما لا يقل عن المناصب الخمسة التي عين فيها السيد وزير المالية أحد أقاربه، إضافة إلى تعيين بعض من أقاربه وأعضاء حركته المقربين كأعضاء في مجالس إدارات المؤسسات الكبرى، كالضرائب والضمان الاجتماعي، وبرنامج ثمرات، والعون الإنساني، وغير ذلك من الوظائف في أجهزة الدولة (وهذه التعيينات مذكورة بالاسم في مقال الدكتور القراي)! ليس السيد وزير المالية نسيج وحده في ذلك، فهناك الكثير من أمثلة التمكين الجهوي التي مارسها ذات من كانوا خلف الكتاب الأسود (ولو بالدعوات والترويج) ومن لم يكونوا خلفه حين آلت الأمور إليهم. جبريل إبراهيم على كل حال كان هو القائد الذي خاطب جنود حركته ذات يوم بأن يستولوا على عمارات الخرطوم عوض تدميرها قائلا: العمارات ما تدمروها: شيلوها.
في حديثه عن ديوان الزكاة قال الكتاب إنه لم يسلم من سياسات الشقشقة والجعللة والدنقلة، في إشارة إلى قبائل الشايقية والجعليين والدناقلة، كان من الممكن بالطبع مناقشة هذا القول المتهافت كما غيره في الكتاب، ولكن ما حدث من بعد تولي من اشتكى الكتاب تهميشهم واستبعادهم من المناصب من فساد ومحاباة كان كفيلا بالرد على ذلك.
لا يلغي ذلك بالطبع حقيقة ضعف التنمية وغيابها، في دارفور وفي مناطق أخرى من السودان بالتأكيد، ولكنه يلغي الفكرة المركزية للكتاب من أن الشماليين قصدا قد أفقروا دارفور وهمشوها. وفي الحقيقة ثمة مؤشرات أخرى لغياب التنمية أكثر وضوحا مما ذكره الكتاب الذي بدا غالب همه التركيز على المناصب، في سلوك ريعي لازم المتعلم السوداني كما في تعبير الدكتور صديق أمبدة، الذي ذكر في كتابه "قلم التعليم وبلم المتعلمين" مؤشرات أكثر حدة ووضوحا فيما خص غياب التنمية في دارفور، ولكنه يرد ذلك إلى أن جل النخبة المتعلمة الحاكمة التي تولت أمر السودان كانت تصدر قراراتها ومواقفها عن حسابات ربما غلب عليها الشخصي على العام، وكانت الأغلبية منهم غير مؤهلة لتبوُّء المناصب القيادية. ويرى أمبدة أنه في بعض المؤشرات فقد كانت هناك أقاليم ربما أسوأ حالا من دارفور، وأنه على وجه العموم فقد تركزت الخدمات في الخرطوم التي استحوذت على نحو 70% منها. وهو حين يذكر الخرطوم فهو يتحدث عنها باعتبارها العاصمة وليس باعتبارها جزء من شمال السودان، فهي في نظره ليست (أم زول) أو محسوبة لجهة أو قبيلة معينة.
إذا كان الكتاب الأسود عند عبد الله علي إبراهيم هو (صورة برجوازية دارفور لإشكالية الهامش والمركز التي تمثلت في "جوع" للوظيفة العامة والديوانية التي رأينا كيف دبجوها بالامتيازات والسيارات والتأمين الصحي الخارجي والسفر في إجازات مدفوعة ... الخ)، فهو عندي بعض دليل على أن السودان ما كان له أن يستقيم وطنا واحدا لولا إصرار الانجليز. كان يمكن الركون إلى رأي البروفيسور عبد الله في وصفه لصورة برجوازية دارفور والاكتفاء به، لو كان الكتاب مما تبنته الصفوة الدارفورية وحدها دون قواعدها. ولكن القواعد تاجرت بالكتاب وبغلبة العرق وأذكت خطاب الكراهية المصحوب بالرغبة في الإيذاء الذي وصل حد القتل كما في حرب الخرطوم الأخيرة. سيكون من سوء الطالع وبؤس المطالع ألا تدفعنا قراءة الكتاب في ظل حرب الخرطوم الأخيرة إلى تغيير طريقة تفكيرنا في شأن الخريطة المسماة بالسودان من صنع الانجليز.

wmelamin@hotmail.com

 

آراء