المرحوم يُبعث من جديد: حرب قوات الأشقاء/ الأعداء (٣)

 


 

أحمد ضحية
2 August, 2023

 

لم تتوقف منذ اندلاع الحرب مساعي التوصل لحل، من قبل قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي، والاتحاد الأفريقي و الإيغاد، والثلاثية والرباعية وأصدقاء السودان. وقد أشرنا في المقال السابق إلى (منبر جدة) أو (المبادرة الأمريكية السعودية المشتركة)، والتي رُغم ما صرّح به القيادي بالحرية والتغيير الأستاذ بابكر فيصل؛ أن هناك (تقدُم) في القضايا المطروحة في (منبر جدة)، قُبيل عودة وفد الجيش الأسبوع الماضي —تحت دعاوي المزيد من التشاور— إلا أن ذلك بدا ليس دقيقاً، فتعثر خطوات (منبر جدة)؛ بادٍ بوضوح تام لأي مراقب! ورُبما أن ذلك ضمن أسباب أخرى؛ هو ما حفز الإيغاد والاتحاد الأفريقي؛ على طرح (مبادرة للحل السياسي)، بالتزامن مع عدد من الوقائع المهمّة، التي نتجت عن مجهودات (سرّية) لمختلف الأطراف! والتي صبت جميعها؛ في المجرى العام؛ لمجهودات "خفض التوتر وبناء الثقة" بين الطرفين المتحاربين، بما يفضي لتفاوض ناجح يستهدف "إيقاف إطلاق النار، وإعلان هدنة طويلة" الأمد أو (دائمة)؛ تُمكِن على الأقل من إيصال المساعدات الإنسانية لملايين السودانيين؛ الذين يئنون تحت وطأة الحرب والجوع والمرض!
تمثلت هذه الوقائع في (القرار) الذي أعلنه البرهان، الذي قضى فيه بدمج ٣٤ ضابطاً من "قوات الدعم السريع" في (القوات المسلحة السودانية)، وهو قرار يَجُب ما كان قد أعلنه في بداية الحرب، والذي قضى فيه "بحل قوات الدعم السريع"، وقطع بأن لا مجال لدمجها في القوات المسلحة. جازماً أن الطريق الوحيد إلى القوات المسلحة هو (الكلية الحربية)، والاستيعاب وفق النظم والقوانين الرّاسخة للجيش.
كذلك تم تسريب ما دار في اتصال هاتفي؛ بين الجنرال البرهان و القيادي بالحرية والتغيير المهندس (عمر الدقير). والذي أعرب فيه البرهان عن نيته الصادقة في إيقاف الحرب.
وبقدر ما يتسق كل ذلك مع تصريحات الجنرال كباشي الأسبوع قبل الماضي، بدعمه لمنبر جدة، وأن رغبة قيادة الجيش في إيقاف الحرب صادقة، إلا أنه يتعارض مع تصريحات الجنرال ياسر العطا الأسبوع الماضي. التي جاءت بمثابة "إنقلاب غير معلن"، رداً على قادته (البرهان وكباشي) معاً، فضلاً عن تعبير تصريحاته عن خط (الحركة الإسلاموطائفية!) المنحلة.
وهنا تجدُر الإشارّة إلى النشاط المحموم للفلول، في وسائل التواصل الاجتماعي، للدعاية لياسر العطا؛ كقائد محتمل للجيش، وفي الوقت نفسه التبخيس من شأن القادة المحاصرين في البدروم على رأسهم البرهان، ونعتهم بأسوأ الصفات! الأمر الذي يكشف بوضوح؛ أن ثمّة مياه (وليست أي مياه).. مياه عكرّة نتنة، جرّت تحت جسور العلاقة؛ بين (قادة الحركة الإسلاموطائفية والعطا) من جهة، ومجموعة البدروم؛ التي يتزعمها البرهان من الجهة الأخرى!
يؤكد ذلك أن للعطا تُنسب العديد من المؤامرات؛ للوصول إلى مركز الرجل الأول في الجيش والدولة، آخرها كانت في رمضان الماضي، عندما حاول التحالف مع بعض القوى، لتكون حاضنته حال قيامه بانقلاب على البرهان. كما أنه هو من سرّب عمداً، ما كان يدور سراً داخل قيادة الجيش، للقضاء على الدعم السريع في ستة ساعات!
لذل لم يكن بالإمكان تفسير الخطاب الراديكالي الأخير للعطا، سوى في سياق طرح نفسه تاريخياً كقائد بديل للبرهان، بدعم ومباركة الحركة الإسلاموطائفية. وهذا يعني أن (مركز قيادة الحرب)، قد انقسم بصورّة واضحة للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب، —ولم يعد مجرد شائعات كما كان— إلى إرادتين: إرادة الحركة الإسلاموطائفية؛ التي منحت ثقتها للعطا والتفت حوله، وهي الإرادة التي تريد أن (تفرض على الجميع) استمرار الحرب، بصرف النظر عن أي نتائج؛ أكثر كارثية مما حدث فعلاً! وإرادة البرهان والقادة المحاصرين معه في البدروم، والتي قررت أن تجنح للسلم.
وقد كشفت هذه الوقائع أيضاً؛ أن إرادة البرهان ومجموعته في البدروم، هي الإرادة الأضعف. ومع ذلك من السابق لأوانه؛ وضع استنتاجات تحدد أي الإرادتين ستنتصر؟!
ويبدو أن البرهان لنفي ذلك؛ حاول التأكيد بصورّة غير مباشرّة، على أنه هو الذي لا يزال مسيطراً على مقاليد الأمور، وليس العطا ومجموعته من الإسلاموطائفيين (كرتي، أسامة عبدالله وغيرهم من قادة النظام البائد). وقد بدا ذلك واضحاً من خلال دفعه للسلطات في (كسلا)، وليس السلطات الاتحادية؟! إصدار (أوامر قبض) —شابتها أخطاء إجرائية قانونية، ربما ذراً للرماد في العيون؟!— بحق "قادة النظام البائد" الهاربين من السجون؛ الذين على رأسهم عبد الرحمن الخضر، عوض الجاز، علي عثمان محمد طه، أحمد هارون والفاتح عزالدين وغيرهم.
والذين تواترت أنباء مؤكدة خلال الأسبوعين الماضيين، بأنهم يتمتعون بكامل الحرّية في الحرّكة، وقد نشطوا في لقاء ومخاطبة أعضاء الحركة الإسلاموطائفية، و استنفارهم و تحشيدهم وتعبئتهم للحرب دعماً للعطا؟!
ترافق مع صدور أوامر القبض بحقهم؛ إقالة عدد من مسؤولي الاستخبارات العسكرية بولاية البحر الأحمر، لعدم إلقائهم القبض على هؤلاء المجرمين الهاربين من السجون، بل وتوليهم حماية أنشطتهم غير القانونية، في مخاطباتهم للحشود وتعبئتهم استجابة للاستنفار المعلن؛ وهي مخاطبات جمعتهم كذلك؛ بقادة حزب المؤتمر الوطني المنحل في ولاية البحر الأحمر!
وبطبيعة الحال جاء الرد من حزب المؤتمر الوطني المنحل، في بيان مقتضب تنضح لغته بمشاعر خذلان —ربما زائفة؟!— على عكس ما اتسمت بياناته العدوانية السابقة، أدان في هذا البيان هذه الإجراءات، وأكد أنها لن تثنيه عن دعم القوات المسلحة، في حربها المقدسة، ضد ما أسماه الميليشيا المتمردة!
وسواء كان الأمر برمته مسرحية محبوكة، درجت الحركة الإسلاموطائفية (تاريخياً) على حياكة مثل هذا النوع من المسرحيات أم لا، فإن كل ذلك في التحليل النهائي كوقائع، يشير إلى أن ثمة إرادتين داخل الكابينة القائدة للحرب: إرادة العطاء والإسلاموطائفيين؛ ضد إرادة البرهان؛ التي لا تزال بعض مؤسسات الدولة، تدين لها بالولاء والطاعة!
وعلى الرُغم من أن هذه الوقائع؛ سبقتها وتلتها مباشرّة، حالة من (الهدوء النسبي)، في المنصات الإعلامية والدعائية للطرفين، والتي وشت بنوع من (الانخفاض في حدّة التصعيد الإعلامي والدعائي) بين الطرفين المتحاربين، متصاحبة مع (انخفاض في حدة المعارك). إلا أن كثير من الإشارات، كانت تشي أيضاً؛ بأن هذا في الغالب هو "الهدوء الذي يسبق العاصفة!"، خاصة بعد وصول إمدادات كبيرة، من المقاتلين والعُدة والعتاد، لكل من الطرفين المتحاربين.
في هذه الأثناء كانت الحركة الإسلاموطائفية المنحلة، قد كلفت منذ وقت مبكر وزراء خارجيتها، الدرديري محمد أحمد، إبراهيم غندور وأخرين؛ لإجراء اتصالات إقليمية ودولية، لحجز مقعد لها في (حوار القوى المدنية)، رُغم أنف قرارات وطنية وإقليمية ودولية، كانت قد صدرت تمنع مشاركتها وواجهاتها، في أي حوار من هذا النوع!
هذا هو المناخ العام؛ الذي طرحت فيه الإيقاد والاتحاد الأفريقي مبادرة؛ وصفها بعض قادة الحرّية والتغيير/ المجلس المركزي (بالهامة) نظراً لتأثير المنظمتين؛ على مجلس الأمن والأمم المتحدة.
ولذلك حذر رئيس التيار الثوري الديمقراطي السيد/ ياسر عرمان؛ طرفي المبادرة بالعمل على أن لا تكافئ مبادرتهما الحركة الإسلاموطائفية، في إشارة قاطعة للتوجه الداعي لتأكيد مشاركة الإسلاموطائفيين؛ وواجهاتهم والقوى المعادية للانتقال الديمقراطي؛ في الحوار الذي اقترحته المبادرة.
وبرر عرمان ذلك بأن مشاركة هؤلاء (الفلول) في هذا (الحوار)، لن تؤدي إلى "استقرار السودان أو الإقليم"، بل ستكون بمثابة (انتصار إرادتهم) ومكافأتهم على اختطافهم الدولة ومؤسساتها، وتخريبهم الفترّة الانتقالية؛ واشعال الفتن العنصرية؛ وانقلابهم على حكومة الثورّة، وصولاً إلى اشعالهم هذه الحرب اللعينة.. وهي ممارسات جميعها تقتضي (محاكمتهم) وليس (مكافأتهم).
صحيح أن مبادرّة الإيقاد والإتحاد الأفريقي، السودان بأمس الحاجة إليها، وقد تم الترحيب بها ودعمها من قبل قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي وقوى أخرى. والصحيح أيضاً أنها في حال فتحت الباب للفلول، ستعيد بذلك السودان إلى المربع الأول.. بحيث يقبع في أزمته التاريخية، دون أن يتحرك خطوة واحدة نحو المستقبل. في وقت خلقت فيه الحرب؛ واقعاً يقتضي استلهام شعارات ثورّة ديسمبر المجيدة وتصعيد قيمها، وتحقيقها على أرض الواقع، بالتالي أي مبادرّة سواءاً تمثلت في الأمريكية/ السعودية المشتركة (منبر جدة). أو مبادرّة الإيغاد والاتحاد الأفريقي، لن تحل أزمة السودان العميقة، ما لم تُخاطب الجذور التاريخية لهذه الأزمة، وتعالج قضايا (العدالة والعدالة الانتقالية، المواطنة بلا تمييز، والوحدة في التنوع، واستدامة السلام والتنمية والديمقراطية، وبناء جيش قومي لا يتبع لأي حزب) فهذا هو السبيل الوحيد لحلول مستدامة، لسودان جديد خال من أمراض الماضي وجرائمه!

***
الكثيرون ظلوا عاجزين عن التمييز بين (الجيش المؤسسة)، و(فلول النظام البائد) من جهة. وواجهات الحركة الإسلاموطائفية؛ بما في ذلك حركة عقار، وحركة العدل والمساواة، التي يتزعمها وزير المالية المزعوم جبريل ابراهيم. واللذين (عقار وجبريل) دخلا هذه الحرب لصالح "ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية"، ليس من موقع التعاطف مع "الجيش المؤسسة"، أو بالافتقار إلى المطالب الديمقراطية، وقيم الحرّية أو بناءاً على شعارات "ثورّة ديسمبر المجيدة"، التي منحتهما ما لا يستحقانه، ومع ذلك قابلا كرم الثورة بالخيانة!
لم يخوضا هذه الحرب (حتى) بناءاً على مطالب الهامش، التي لطالما تغنيا بها!. وإنما تنفيذاً لتعاقدات؛ عبر عنها (مناوي) من قبل؛ وسماها (باتفاقيات تحت الترابيزة)، كما عبر عنها (حميدتي) أيضاً في أحد خطاباته، (بالاتفاقيات السرية التي داخل الادراج!).
وبينما أدرك عقار أن الأموال و الإمتيازات التي منحها وسيمنحها له (نظام اللجنة الأمنية الإسلاموطائفي)، لن يستطيع أن يحصل عليها في (دولة الثورّة)، خصوصاً وقد استقر في وّعي الرجلين منذ "الفترّة الانتقالية"، أن (اللجنة الأمنية)، هي التي تملك مفاتيح كل شئ! لذلك راهنا عليها (ضد المكون المدني) الذي لا يملك شيئاً، وقاد هذا النوع من التفكير؛ إلى نتيجة حتمية في قناعاتهما: أن التحول الديمقراطي المدني؛ ليس سوى خطراً يتهدد مصالحهما وامتيازاتهما! يُضاف إلى ذلك في حالة (جبريل)، أنه خريج نفس "مدرسة الإسلام السياسي المتوحشة"، التي يدين لها أعضاء اللجنة الأمنية بالولاء!
ولذلك موجة التنديد بمواقف الرجلين، منذ كانا يراوغان في بداية الحرب، في توضيح موقفيهما بصورة مفهومة.. كانت هذه الموجة تنطوي على (عشّم) في أن يغيرا موقفيهما ويقفان ضد الحرب، وبدأ هذا (العشم)، بمثابة تجاوز (لجوهر النزاع) القائم بين القوى الإسلاموطائفية، وقوى التحوّل الديمقراطي المدني. أي بين (مركز السلطة الإسلاموطائفي) و(قوى الثورّة).
ومن جهة أخرى، بدا هذا (العشم)؛ أشبه بقبول لتجميد كل (الخلافات الجوهرية) في مواجهة الحرب، مع أن هذا مستحيل فالخلافات بالأساس كانت ولا تزال إبتداءاً مع (مركز السلطة)، ومركز السلطة هو من (انقلب) و(افتعل الحرب)، بالتالي عبر هذا (العشم) عن فهم ملتبس، لطبيعة تفكير الرجلين (عقار وجبريل)، تجاه الحرب.
وقياساً على ذلك موقف (مناوي)؛ الذي بدى مشوشاً وضائعاً في المنزلة بين منزلتين، لا هو داعم لأحد (طرفي الحرب)، ولا هو داعم بصورة جادة وقاطعة للموقف (ضد الحرب!)

***
تحت وطأة مناخ الحرب، وفي سلوك يعبر عن الانحدار الأخلاقي الشديد، وجدت بعض (القوى المنسوبة للثورّة)، في الأخطاء التي ارتكبتها قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي؛ على عهد الحكومة الانتقالية برئاسة حمدوك، فرصة لإستغلال (خطاب الفلول)، في التشهير بصورة غير رسمية، ببعض قادة المجلس المركزي، باتخاذها من هجوم الفلول الكاسح، ذريعة لاغتيال شخصيات بعض قادة المجلس المركزي، بتحميلها المسؤولية عن اندلاع الحرب، فكانوا بمثابة الصدى لصوت الفلول، على عكس ما هو متوقع منهم في ظروف الحرب، باعتبارهم (قوى ناضجة)؛ تدعي أنها ذات قيم أخلاقية ووطنية لا يتخللها الشك!.. فمناخ الحرب عادةً ما يكون منبعاً لقيم التضامن العفوي الجماعي، الذي يقف حائلاً أمام التحريض؛ ضد من يفترض أنهم يناضلون من ذات الموقع؛ لأجل ذات القضايا العادلة؛ التي تناضل هذه القوى من أجلها، وقدمت في سبيلها التضحيات الجسام!
وبطبيعة الحال نال الأستاذ/ ياسر عرمان القدح المعلى من هذا الهجوم، الذي وقف خلفه الفلول وبعض القوى والأفراد الأدعياء؛ الذين يصنفون أنفسهم ضمن الصفوة وقوى الثورّة، حتى بدا وكأن مشكلة السودان كلها تتمحور حول (شخص واحد هو السيد عرمان)، باعتباره سبب الحرب وأُس المشاكل المتراكمة، لعقود تفوق سنوات عمره هو نفسه!
وكل ذلك بالنسبة لهذه القوى؛ كان لتحقيق هدف واحد: طرح الخصم السياسي على المحك، واغتيال شخصيته! فبالنسبة للفلول، الحقيقة هي أنهم فشلوا في شرائه، بعد أن نجحوا في شراء آخرين من قادة الكفاح المسلح وغيرهم، لم يكن يخطر على بال أحد؛ أنهم قابلين للبيع والشراء! لكن بالنسبة لهذه القوى؛ فقد دفعتها الغيرة السياسية العمياء، للقضاء على خصم سياسي عنيد، شعرّت بتصدره للمشهد السياسي، خصماً على نضالاتها التي لم ينكرها عليها أحد!

***
ما لم يضعه الفلول في اعتبارهم، أن إطالة أمد الحرب، شيئاً فشيئاً؛ ستجعل هؤلاء وأولئك ممن التفوا حولهم، وقاتلوا معهم —بما في ذلك حركتي عقار وجبريل وبعض مجموعات شرق السودان— عندما يشعرون أنهم يخسرون كل شىء، سيتخلون عنهم! وقد يذهبون إلى أبعد من ذلك؛ "بتجميد المطالب القبلية"، التي لطالما تغنى بها بعضهم في "الترتيبات الأمنية"، بل وقد يصلون في لحظة ما، إلى قناعة مدى خطورّة موقفهم على مصالحهم ومصالح "المجموعات القبلية" التي يمثلونها، فلا يجدون مناصاً سوى (الوقوف ضد الحرب)، التي أخطأوا إبتداءاً بالمشاركة فيها بـ مقاتليهم؛ في جبهة واحدة مع ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية، التي انتحلت اسم الجيش، بالتالي وقفوا بذلك ضد ارادة الشعب السوداني؛ في السلام والتحول المدني الديمقراطي!

***
مثل هذه المواقف وغيرها، وجدت الكثير من الانتقادات من قبل الناشطين، وبعض الشجعان في قواعد قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي. ولعل النشاط السياسي الفاعل لقيادة قوى الحرية والتغيير/ المجلس المركزي، منذ مغادرتها السودان، كانت أولى أجنداتها إزالة آثار الجولات المكوكية، والاتصالات التي قام بها وزراء خارجية "الحركة الإسلاموطائفية".
ولذلك كان قيامهم بجولات استهدفت الدول جوار السودان، لشرح طبيعة ما جرى ويجري، وآفاق الحلول المقترحة، بالتزامن مع "تهاوي مركز السلطة في الخرطوم"، و الذي كانت دول كمصر تعقد عليه الآمال، في القضاء نهائياً على الروح المدنية والنزوع الديمقراطي للسودان، حتى يظل تابعاً لها وضامناً لمصالحها، خصوصاً تلك التي تتعارض مع مصالح الشعب السوداني، طالما استمر مركز السلطة بذات بنيته العسكرية الإسلاموطائفية القديمّة!
ولعل انهيار كل التكتيكات المخابراتية المصرية بهذا الخصوص، منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، وفشل خُطط المخابرات المصرية منذ الشهور الأولى لاندلاع الحرب.. لعل كل ذلك كان بمثابة درساً مفيداً لمصر، لإعادة قراءة التغييرات التي ظلت تجري في السودان، خلال ما يزيد عن ثلاث عقود؛ من حكم النظام الإسلاموطائفي البائد، وتحرّي الدقة في رهاناتها على من يحكم السودان وكيف يُحكم السودان، وتهيئة نفسها للتعايش مع دولة جارة (ند) ديمقراطية ومدنية، لا يمكن حكمها بالمليشيات وأجهزة المخابرات والعملاء والطائفة الدينية والأفندية الموالين للخديوي، والاعلاميون البائسين وعطالى كناتين السياسة، الذين يتقاضون رواتبهم من الكباشي و سفارة القاهرة في الخرطوم!

***
ظلت مصر تتدخل في الشأن السوداني منذ عقود طويلة، تعود جذورها إلى الاحتلال التركي المصري، وبالرغم من أن صورة مصر في أذهان الأجيال السودانية الجديدة؛ الفاعلة في المشهد السياسي السوداني، ليست هي الصورة نفسها، التي لطالما حملتها الأجيال الفاعلة، في السياسة السودانية؛ حتى في فترة حكم مجرم الحرب، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية (عمر البشير)، إلا أن مصر عجزت عن رؤية ذلك!
لم تنتبه أن ثمّة تياراً قوياً، بدأ ساعده يشتد وينتشر ويفرض نفسه داخل صفوف القوى السياسية المختلفة، تيار جياش بالمشاعر الوطنية؛ تجاه استقلالية وسيادة السودان، ولا يخفي رهانه على إرادة الشعب؛ في استثمار كل شبر من هذه الأرض المعطاءة، لتنعم بالاستقرار والرخاء والمواطنة بلا تمييز. ولسان حاله يقول: إن فشل الساسة السودانيين منذ الاستقلال، في بناء الدولة؛ أو تحقيق الإصلاح والتغيير والحفاظ على السيادة الوطنية الكاملة؛ على كامل أراضي السودان، إنما في أحد أسبابه يعود للعلاقة المختلة بدول الجوار، ما جعل السودان عرضة للضغوط والابتزاز، خصوصاً من قبل (مصر)؛ وخير شاهد على ذلك، احتلالها لمثلث حلايب!
لذلك الرّهان على تمتين سيادة السودان الوطنية، بمنأى عن التدخلات الدولية والإقليمية، على رأس ذلك النفوذ المخابراتي المصري، يظل هدفاً استراتيجياً لسد الفجوات؛ التي نجحت الأنظمة المتعاقبة منذ ١٩٥٦ في صنعها، فجعلت من السودان بلداً مستباحاً في أرضه بالاحتلال والغزو، و مستباحاً في موارده بالنهب والتهريب. ومنتهكاً في سيادته وفي انسانه بالغزو والاحتلال والقتل المجاني!
ومثلما يعتز هذا الجيل الجديد بثورته المجيدة، فهو يدرك ضرورة أن تتمخض ثورته؛ التي قدم فيها تضحيات غالية؛ عن حكومة مدنية ذات علاقات إقليمية ودولية متوازنة؛ لا تخطئ في تقدير (أهمية دول الجوار)، بما يُعزز مصالح السودان وشعبه، ويعزز كذلك مواقف هذه الدول، من قضايا السودان وشعبه، في إطار الاحترام لسيادته الوطنية الكاملة.

***
بقدر ما أن (الاستبداد والوصاية) على الشعب، من قبل النظام الإسلاموطائفي البائد، ارتبط ارتباطاً عضوياً بالرأسمالية الإسلاموطائفية الطفيلية المتوحشة، ورهن موارد الشعب لإرادته، أثبتت الانقسامات في الفترّة الانتقالية بقيادة حمدوك، أن شرط (معارضة وطنية ديمقراطية)، لا يتحقق إلا بتحقق (مركز سلطة ديمقراطي)، والعكس صحيح!
ومن المؤكد أن قسماً كبيراً من المثقفين والسياسيين، الذين يقفون الآن مع ميليشيا الحركة الإسلاموطائفية، بذريعة دعمهم للجيش؛ هم بالأساس مدفوعين بهاجس وطني وانتماء إسلاموطائفي؛ صور لهم أن موقفهم يحد من تدهور الوضع الوطني الأمني. وربما حلموا أن يكون بإمكانهم، استغلال أجواء الحرب؛ لانتزاع تنازلات من قبل المركز الإسلاموطائفي؛ لصالح (الحوار الوطني)؛ الذي يهدف إلى (قطع الطريق) على الاحتراب الأهلي. دون يدركوا أن هذا المركز الذي يدعمونه، هو بالأساس يتغذّى على الميليشيات؛ ويقتات على الحروب الأهلية، وإلا كيف يفسرون أن كل الحروب؛ التي خاضها هذا (الجيش) هي ضد مواطنيه في الجنوب ودارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان؟
ولا يختلف هؤلاء في مواقفهم؛ عن موقف بعض الأفراد في (لجان المقاومة)؛ والقوى التي لم تكف عن إصدار البيانات المذيلة باسمها الرّسمي، أو باسم واجهاتها النقابية، إدانةً لانتهاكات (هذا المركز) بحق المناضلين والثوار والمواطنين البسطاء منذ ٣٠ يونيو ١٩٨٩، وحتى الآن؛ بعد اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل، ومناشدتها المنظمات الحقوقية والسياسية الدولية للتدخل، كيما يصبح تحقيق الإصلاحات الضرورية ممكناً، وبالتالي بدء مسيرّة (المصالحة الوطنية)؛ التي تحصن البلاد تجاه الضغوط الخارجية، وتقطع الطريق عليها.
وبالمثل أن من يطالبون بالتدخل الدولي الآن، هم داخل هذا السياق التاريخي، الذي لطالما تم التسليم به من قبل قوى وأفراد اعتبروه شراً لا بد منه، متنازعين بين قبول التضحية بالسيادة الوطنية والاستقلالية.
انتقاد أمثال هؤلاء للموقف الشعبي المعارض للتدخلات الاقليمية والدولية، لا يتضمن التخلي عن فكرّة التضامن؛ الإنساني أو التنكر لها. فهما موقفان وفكرتان مختلفتان. لذلك الذين يراهنون اليوم على (منبر جدة)؛ أو الضغوط الإقليمية و المصرية والأمريكية وإيغاد والاتحاد الأفريقي؛ لإحداث تغيير في الأوضاع، رُبما لا تهدف إلى (إضعاف موقف السودان)، أو تعريض سيادته للخطر. لكن ما هو مؤكد أنها تتعلق بتقديرات سياسية، تتفاوت في درجة اقترابها من الخطأ أو الصواب!
من نسميهم أشقاء وأصدقاء في الاقليم والعالم، ممن اعلنوا تضامنهم مع شعبنا في محنته. أو أولئك الذين ذهبوا إلى (جدة) للتفاوض على مصيرنا ومصير بلادنا، جميعهم يعبرون عن المأزق، الذي تجد فيه القوى السياسية والرأي العام السوداني برمته، نفسيهما على مفترق طرق الاختيار، بين التحالف مع بقايا المركز الإسلاموطائفي المنهار؛ بإعادة ترميمه مع بعض التعديلات، أو المراهنة على حُسن نوايا القوى الاقليمية الأفريقية والعربية، أو الدولية الأميركية و الأوروبية، لتحقيق وقف لإطلاق النار وهدنة طويلة الأمد، تسمح بتدفق المساعدات الإنسانية، لشعب على وشك الانقراض، على مرأى ومسمع من كل العالم، الذي يتفرج دون فعل ملموس، يوقف أنهار الدّم التي تسيل في كل لحظة!

***
الحالة السودانية أياً كان ما ستؤول إليه الحرب، يجب أن يدرك الجميع، أنه لن يجدي معها أي نوع من برامج الإصلاحات، الحل الوحيد لأزمة السودان التاريخية، يكمن في تحقيق تحولات ديمقراطية ووطنية، وإعادة البناء وليس الترميم. وهو مأزق بالنسبة (لأصحاب الامتيازات التاريخية)، أقل ما يوصف به ينطوي على مخاطرة كبيرة. لكن لو فكروا قليلاً لاكتشفوا أن إعادة البناء، افضل من التحول إلى دويلات مدن، كالتي تمخضت عنها الحرب الأهلية اللبنانية.
رُبما يدرك داعمي مليشيا الحركة الإسلاموطائفية، أنهم يدافعون عن نظام، ناصب الغالبية العظمى من الشعب السوداني العداء، وقتل المواطنين ونكل بهم واعتقلهم وعذبهم واغتصبهم وأهدر كرامتهم، وأحدث فيهم إبادات جماعية ومجازر، ولأنهم يعلمون كل ذلك، يحاولون تبرير موقفهم، بأنهم إنما يدعمون (الجيش الوطني)، وليس الميليشيا الإسلاموطائفية، دون أن يتأملوا أن الجيش نفسه مختطف "تديره الميليشيا الإسلاموطاىفية"، وفي ظني أنهم لا يشعرون بالرّاحة من موقفهم هذا، في قرارة أنفسهم! لأنهم يخشون بالفعل أن لا ينتج عن موقفهم هذا، سوى تعزيز الموقف السياسي لبقايا نظام إسلاموطائفي وحشي منهار، لم ينجح خلال ثلاث عقود في التصدي لقوات أجنبية احتلت جزءاً من ترابه الوطني، أو قصفت قلب عاصمته بصواريخ كروز توماهوك، بذريعة إنتاج مصانعه الدوائية لأسلحة كيميائية.
نعم في قرارة أنفسهم يدركون أنهم يدافعون، عن نظام هرّب أسره وعائلاته قُبيل الحرب إلى مصر وتركيا والخليج وأوروبا وأميركا، بل وهرب عدد كبير من ضباط قواته النظامية، بما في ذلك قادة عظام إلى خارج الحدود، دون أن يأبهوا لشرفهم العسكري، أو نداء الواجب الوطني!
نظام انهارت قياداته أسرع من انهيار دفاعاته العسكرية. ولا يقل عن ذلك حرج أولئك الإعلاميين المزعومين، الذين قبلوا على نفوسهم الوضيعة، الترويج لانتصارات زائفة مقابل ٣٠٠ ألف جنيه في الشهر!
هؤلاء وأولئك؛ في قرارة أنفسهم يدركون؛ أنهم ليسوا أكثر من كونهم تبرير بائس؛ لعملية ثأر وتدمير لوطن بكامله، من قبل تنظيم لا يتورع في سبيل العودة إلى السلطة مرّة أخرى؛ عن هدم المعبد بمن فيه وكل ما فيه!

***
دفع السودان وسوف يدفع ثمناً باهظاً، للتخلص من كل هذه الأورام السرطانية. مهماً اعتقد هؤلاء وأولئك؛ أن المكاسب التي سيحصلون عليها، تعادل إن لم تفق الخسائر المنتظرة من موقفهما. وقد رأينا كيف أسهم مثل هذا النوع من المواقف، في تعميق الانقسامات والتحشيد القبلي في الشرق والغرب، ليضع البلاد على حافة الاحتراب الأهلي.
أن قبول البعض الاتهام بالتعاون مع الميليشيا الإسلاموطائفية، في سبيل تأكيد قيم التضامن مع مركز السلطة، والعداء للدعم السريع. كقيم أولى ومحورية. كما قبل البعض الاتهام بالعمالة، لقاء إسكات صوت البنادق، وجعل وصول المساعدات الإنسانية ممكناً، لشعب على وشك الانقراض، بسبب طغيان ميليشيا اختطفت الجيش، وسخرته لخوض معركة بقائها مقابل بقاء الوطن. في الواقع كل ذلك يطرح هذا الوضع المأزقي، الذي تجد فيه قوى الثورة نفسها ك"مسألة وجود".. كقوى بذاتها.. وقدرتها على العمل والاختيار!
كما يطرح مسألة تحديد معنى (قوى الثورة) ومعنى (القوى السياسية) ومعنى (قوى المجتمع المدني) ومعنى (الإدارة الأهلية) ومعنى (لجان المقاومة) ومعنى (غاضبون)، إلخ..
وبالتالي تبيان الاستراتيجيات الصحيحة، التي يتوجب على كل هؤلاء بلورتها وتطبيقها، ورُبما أكثر من ذلك (معنى الوطنية) نفسها اليوم في واقع الحرب وعصر المليشيات السوداني، وحركات الهامش المتفسخة، التي اتضح أن بعضها ملكياً أكثر من الملك. والتي يباع بعضها في أسواق النخاسة الإسلاموطائفية، كما حدث قُبيل التوقيع على اتفاقية سلام جوبا في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠ وقُبيل فجر ١٥ أبريل لحظة اندلاع الحرب المباغتة، التي فاجأت الجميع، للقضاء على كل مظاهر ثورة ديسمبر المجيدة، والبناء على أنقاض شعاراتها (نظام إسلاموطائفي جديد)، يبقى إلى الأبد! قوامه فلول النظام البائد، و بعض الرقيق من المهمشين السابقين، الذين اشتراهم النظام الإسلاموطائفي ببذل الأموال والامتيازات، لأداء الأعمال القذرة، ضد شعوبهم في الأطراف.

***
الحرب بين مليشيات الحركة الإسلاموطائفية، وقوات الدعم السريع في مركز السلطة، ليست هي المثال الوحيد، الذي ظلت تتعرض فيه قوى الثورّة السودانية لمثل هذا المأزق والإحراج العميق. فقد حدث الشيء نفسه من قبل في الأطراف، وانتهى باتفاقية نيفاشا ٢٠٠٥، وحدث في دارفوروانتهى باتفاقية الدوحة ٢٠١١ وحدث في كل الاطراف مجتمعة وانتهى باتفاقية جوبا في ٢٠٢٠
الجديد هو إن الحرب الآن ليست في (الأطراف)، بل في (مركز السلطة). وهذا بحد ذاته يفتح الباب أمام حقبة من الضغوطات الشديدة، التي ستتعرض لها كل المجتمعات السودانية، فقد عرّت الحرب الأجهزة القيمية؛ ونظم الإدارة الأهلية، و فقدت في هذا السياق الكثير من الكيانات السياسية والثقافية والاجتماعية والمدنية مصداقيتها.
وكل ذلك يجب أن يقود في التحليل النهائي، بعد أن تتوقف هذه الحرب، إلى إخضاع سياسات هذه الكيانات؛ بشكل كلي لحاجات الإستراتيجية الوطنية، في سعيها لإعادة بناء (مركز السلطة) على نحو يعالج كل الاختلالات، التي كانت في المركز القديم المنهار.
فما هو أصل هذا المأزق؛ الذي تجد فيه قوى الثورة نفسها؟ وكيف يمكنها الخروج منه، حتى تتحوّل إلى قوّة مستقلة وقادرّة، وتستحق المراهنة عليها من قبل الرأي السوداني العام، لإحداث التغيير المنشود، بدل التموضع كطفل أنابيب في أرحام المبادرات الأجنبية، أو العيش والاحتماء في أحضان هذه الأرحام، أو استجداء الأحزاب الإسلاموطائفية، واسترحامها لتحقيق بعض الإصلاحات، أو الاستنجاد بالسعوديين والأمريكان والإماراتيين و الأوروبيين وطوب الأرض والروس، واللجوء إليهم —كما فعل البشير من قبل— للخلاص من ضغوط الأمريكان!
يجب أن تفكر كل هذه القوى منذ الآن، في واقع ما بعد الحرب، وتسأل نفسها ما هي المواقف التي يتوجب عليها اتخاذها، والإستراتيجيات التي يتوجب عليها تطويرها، حتى لا تصبح بالفعل أداة في يد قوى الاقليم والعالم والميليشيات الفاسدة في الهامش أو المركز، أو غطاء للتدخلات المصرية أو تدخلات القوى الأجنبية؟
وتجيب على وجه السرعة الآن قبل الغد، عن سؤال هل تكمن الوطنية في جعل المطالب بمدنية و ديمقراطية الدولة، محور الجهد الرئيسي للتغيير، وبالتالي إخضاع كل الأهداف الأخرى، بما فيها السيادة الوطنية لهدف التغيير المدني الديمقراطي، أم أنها تكمن في حماية السيادة، والدفاع عن الاستقلال الوطني، وتدعيم أي قوى حاكمة مهما كان نظام حكمها إجرامي بربري متوحش، ما دامت تتمسك أو لا تزال تتمسك بمثل هذه السيادة؟
ينبغي إدراك أن القوى السياسية لا توجد بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا في نظام ديمقراطي يضمن لها موقعاً ودوراً ومكاناً ووظيفة واضحة، تجعلها جزءاً مكملاً للنظام و متفاعلاً معه، فهي بالأساس ليست أشخاصاً مختلفين (أو) مع النظام أو منتقدين له، ولكنها وظيفة سياسية تستجيب لحاجة جوهرية وبنيوية في النظام.
إن التدخل الإقليمي والدولي في السودان، يفتح بحد ذاته الباب أمام حقبة من الضغوطات الشديدة، التي سيتعرض لها أي نظام يحكم السودان مستقبلاً، وبالتالي فقدان القوى السياسية للمصداقية في الخارج والداخل، لأن سياساتها ستخضع بشكل كلي لحاجات الإستراتيجيات الاقليمية والدولية.

***
النظام الإسلاموطائفي العسكري، الذي جاء بانقلابات في ١٩٥٨ و ١٩٦٩ و١٩٨٩، والذي استولى على معظم تاريخ السودان المعاصر، وحكم عملياً منذ الاستقلال حتى فجر ١٥ أبريل ٢٠٢٣، لا يمثل سوى أقلية على درجة أو أخرى من التنظيم، ليس لها دور ولا موقع ولا وضعية قانونية أو سياسية واضحة.
فهي أقلية ظلت تدين بالولاء والتبعية لمصر وتحالفاتها الإقليمية والدولية، وغني عن القول أن مصر ظلت منذ ١٩٥٢ "عرابا للبزنس السياسي في العالم العربي" وحتى الآن، رغم ما شهده دور السمسار الذي تلعبه من تراجع، مقابل صعود خليجي في العقود الثلاثة الأخيرّة.
زبدة القول هنا، أن هذه الأنظمة العسكرية الثلاثة، التي حكمت السودان لعقود طويلة، لم يحدث أن عملت كقوة سياسية وطنية، والأمر نفسه ينطبق على الأحزاب السياسية الأساسية وروافدها. فقد فشلت في عقابيل الحكم الديمقراطي ١٩٥٦ و ١٩٦٤ و١٩٨٥، وذلك لأنها لم تكن يوما مؤهلة لأن تتحول سياسياً، من حالة (الأقلية) لحالة (الأغلبية)، وأن تحل محل القوة العسكرية الحاكمة وتخلفها، مما ينمي لديها الاستعدادات لقيادة الدولة، وتحمل المسؤولية واحترام النظام العمومي.
والشاهد أنها ظلت عندما تجد نفسها في موقع المعارضة تعمل في مواقع متعددة، هدفها الحد من الاجتياح الكامل من قبل نخب السلطة العسكرية او المدنية للمجتمع؛ بعد السيطرة الكلية على الموارد المادية والمعنوية للدولة. الأمر الذي جعل هذه القوى السياسية بلا استثناء، أشبه بمقاتلين (حروب الغوريلا)، يعكسون روح المقاومة، ويرفضون استسلام الجماعة للنظام المفروض بالقوة، وفي أقصى حالات التحفز لزعزعة استقرار النظام.
وهنأ بالتحديد أعني أن لكل نظام سياسي، نوع المعارضة الذي يتفق ومنطق ممارسة السلطة وتداولها فيه، أو الحفاظ الأبدي عليها. وبالتالي هذا النظام الإسلاموطائفي المنهار، تم تصميمه بمواصفات القوى التي تعارضه نفسها، وهذا يطرح أسئلة حول ضرورة إصلاح هذه القوى نفسها، والتحوّل إلى (قوى ديمقراطية حقيقية)، إذا أرادت فعلاً أن تبني مع هؤلاء الثوار الشباب اليافعين (دولة مدنية ديمقراطية).
فالديمقراطية لا يأتي بها اليسار أو اليمين العقائدي والشمولي، والديمقراطية لا تأتي بها القوى الطائفية الطفيلية وقوى الإسلام السياسي المتوحشة، حتى لو ناضل كل هؤلاء واولئك و استرخصوا أرواحهم، في سبيلها، وتمسكوا بأستار الكونجرس ومجلس العموم. فكل ذلك لن يلغي حقيقة كونهم: "ألد أعداء الديمقراطية والتحول المدني!"
نواصل
١ أغسطس ٢٠٢٣
لانسينغ، ميتشيغان

ahmeddhahia@gmail.com

 

آراء