المهرجون !!

 


 

 

 

وقف الشباب بكل جسارة في وجه آلة القتل الإسلاموية، أطلقوا هتافهم في وجه الطغيان، وفتحوا صدورهم عارية لرصاص الخيانة والغدر الخسيس، فاستشهد من استشهد منهم وأغرق حياً في النيل من أغرق وأخفي من أخفي منهم ولم يعرف له مكان لتظل أسرَّتهم في منازل أسرهم تشكوا غيابهم. ولكنهم انتصروا بعد ما دفعوا ثمناً غالياً. ولم تكد تجف دماءهم حتى هرع الكبار من دهاقنة السياسة المدنيين والمسلحين يتصارعون على أسلاب النصر ووراثة قصعة السلطة التي كان لعابهم يسيل لها وهي بين أيدي اللصوص. فأي بشر هؤلاء؟!.

(2)
كل شيء مهما صغر شأنه هو محل صراع واحتراب وتآمر بينهم.
- خصصتُّ ملفاً للحاضنة السياسية لأعرف تحديداً ما الذي يختلف جماعة الحرية والتغيير وتجمع المهنيين عليه فيما بينهم. واستمعت إليهم يتحدثون عن خلافاتهم، فوجدت كل منهما يردد ما يقوله الآخر. إنهم يقولون الشيء نفسه عن أنفسهم وعن الآخر الذي يختلفون معه. حاولت أن أعرف ولكن عقلي تقاصر عن فهم السبب الجوهري الذي يختلفون حوله، ولم أجد سوى سبب واحد استطعت فهمه: السلطة، والاستئثار الأحادي بالقرار وإقصاء الآخر. هذا ما يختلفون عليه!.
مع أنها سلطة انتقالية محكومة بزمن محدد ومهام محددة، ليس من ضمنها التقرير في شأن مستقبل السودان.
- قالوا (الحاضنة والحكومة والسلطة السيادية) بأن إقرار السلام وبسط الأمن أولوية. ولكنهم فتحوا للسلام ألف باب ومسار يدخله كل واحد بقضية. فإذا كانت دارفور (على سبيل المثال) ولاية واحدة من ولايات السودان فكيف يمثلها (84) تنظيم مسلح، هل لكل (حِلة) تنظيم مسلح في دارفور يرفع مطالب خاصة/ قومية غير السلام والأمن والعدالة في توزيع الثروة والسلطة؟. أليست هذه هي مطالب كل القرى والحلال والبيوت في كل السودان؟. فلماذا لا يلقي المسلحون سلاحهم طالما هم يطالبون بما طالب به الشباب وأطاحوا بالنظام الذي كان يكرس القتل والظلم وكبت الحريات والإقصاء والعنصرية وسرقة موارد الدولة ووو ..الخ على الشعب كله، والمشاركة في صياغة المشروع الوطني الذي قامت الثورة لتحقيقه على الأرض؟!.
فالمظلومية واحدة، والمسار لتحقيق العدل والمساواة واحد يشمل السودان كله، وما من إقليم استأثر بالتنمية دون الأقاليم الأخرى.

(3)
- ليس ذلك وحسب، بل ويأتيك في الصحف الصادرة يوم السبت 20 يوليو 2020 خبر بالخط العريض عن: " إعلان سياسي مرتقب بين “تجمع المهنيين والحلو” لقيام الدولة العلمانية في السودان. الإعلان يتضمن الإقرار بفشل "الحرية والتغيير" ويشمل تحالف جديد"!.
فصيل مسلح ومعه (شوية) آخرين يريدون أن يحددوا أو يفرضوا على الآخرين هوية نظام الدولة السودانية في المرحلة الانتقالية. (أي عبث هذا)؟.
هب أن حزب الأمة وبتحالف محافظ (ولا نقول إسلاموي) فازوا بالأغلبية البرلمانية في انتخابات ما بعد المرحلة الانتقالية وأرادوا أن يعدلوا الدستور بأغلبية ميكانيكية، فماذا يفعل بعدها هؤلاء الذين جعلوا علمانية الدولة شرطاً للسلام؟. هل سيعودون للخلاء ويحملون السلاح مرة أخرى؟!. ألا يكونوا حينها متمردون على السلطة الشرعية؟!.
ألا يكفي أن تكون الدولة مدنية (لا دخل للدين فيها) تكفل حرية الأديان والفكر والتعبير وكافة حقوق الإنسان، وتقوم على المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات؟.
كيف نحقق السلام إذا نهض من بيننا من ينادي بدولة دينية بالمقابل، ومعه الحق طالما ارتضينا الديمقراطية، هل سندينه إذا حمل السلاح لفرض قناعته؟!. وكيف يكون الكيل بمكيالين وكيف يكون التطفيف إن لم يكن كذلك؟!.
أليس في عقلنا مساحة للصبر ننتظر انتهاء الفترة الانتقالية ويعود المهجرون لديارهم ويتم تعويضهم وتفتح مدارس عيالهم (بالمناسبة: نسبة الاستيعاب في التعليم الأساسي في جنوب دارفور لا تتجاوز 54%) ويستقر المزارعون والرعاة ويتم تنظيف مؤسسات الولاية من بقايا الكيزان في الفترة الانتقالية وتستقر الأحوال الأمنية، وتجرى انتخابات حقيقة، يطرح فيها المتنافسون برامجهم ورؤاهم لتحديد القضايا الكبرى دستورياً؟!.
ألم يسأل أحد نفسه: ما الذي كان يهتف به الشباب الذين صنعوا هذا الحدث العظيم الذي جعل التغيير ممكناً وفتح آفاقاً كانت مغلقة في وجه الساسة وحملة السلاح؟ ما الذي ماتوا من أجله؟. ألم يكن شعارهم الذي لخص رؤيتهم هو: حرية سلام وعدالة ..مدنية خيار الشعب؟.
لم ينادوا بدينية الدولة ولا بعلمانيتها .. بل بمدنيتها.
فما الذي يعطي فصيل مسلح الحق في أن يفرض علمانية الدولة؟!.
هل هم من أطاح بالنظام الإسلاموي بقوة السلاح؟!.

(4)
- ويختلفون حول الإستوزار وتعيين الولاة.
قالوا بعد توافق أن السلطة في الفترة الانتقالية ستكون بحكومة كفاءات ديكنوقراط لا نصيب للأحزاب فيها، لأن لكل حزب توجهاته ورؤاه، وبما أن المرحلة الانتقالية ستعنى بمعالجة القضايا العاجلة الآنية فإن اختلاف الرؤى الحزبية سيفسد عملها. وهذا رأي سديد. ولكنهم عند منعرج اللوى نكصوا عن ما تعاهدوا عليه. فمد كل حزب يده إلى من يواليه ودفع به إلى وزارة أو منصب قيادي، وتم تغييب الشباب (أصحاب الراس).
- وسمعنا من وزير الاعلام حديثاً عن أن بعض القوى ترفض تعيين النساء في مناصب قيادية. ولا تملك إلا أن تسأل نفسك: حكومة من هذه الحكومة؟. برأي من تعمل؟. هل يحكون عن قوى التخلف التي ثار الشباب عليها؟. هل يخططون للمستقبل أم يخططون للعودة إلى الوراء؟!. وهل هذه الثورة صنعها ومات من أجل تحقيق أهدافها رجالات الإدارة الأهلية أم الشباب؟!.
الحق أنني لم أشهد سرقة وتزويراً في رابعة النهار مثل هذه السرقة !!.
سرقة دماء الشهداء ليست مثل أي سرقة!!.
سرقة أحلام الناس ليست مثل أي سرقة!.
- يقول الصادق المهدي، وهو ذاته الذي أحنى هامته للبشير اللص القاتل ليقلده وساماً ما، والذي ارتضى أن يكون ابنه (الأمير) معاوناً للبشير، والذي وقف معارضاً تسليم البشير للجنائية "لأنه من جلدنا وما نجر فيه الشوك"، والذي وصف هبة الشباب الشجاعة ضد النظام الاستبدادي بـ"مرقة البوخة" (أو شيء من هذا القبيل)، بأنه أصدر تعليماته لأعضاء حزبه ممن تم اختيارهم ولاة بالانسحاب من هذا التكليف الوطني، لأن رئيس الوزراء لم يعمل بما أشار به عليه !!!!.
أخطأ حمدوك حين جعل الأمر محاصصة حزبية .. رغم أن الأحزاب ليست هي التي أحدثت هذا التغيير وبالتالي ليس لها الحق لها في ترتيب أوضاع ما بعد التغيير.
وأخطأ المهدي حين أوهم نفسه بأن له من الأمر شيء، أو أن الأمر له وحده، ونسي في غيبوبة هذه الأبوية المتوهمة أن السودان ليس حزب الأمة ليديره كيفما شاء.
ولو أعاد الرئيس حمدوك قراءة الماضي القريب ورسخ لديه أن ذات المهدي كان رئيساً لأفشل مرحلتين في الديمقراطية الأخيرتين انتهت كل واحدة منهما بانقلاب عسكري، نتيجة لفشله في إدارة الدولة لما أصغي إليه وأخذ له بمشورة.
أو لو أنه أصغى بالفعل للثوار الشباب الذين صنعوا هذا الحدث العظيم لما أفسح للأحزاب كل هذه المساحة، ولنصحهم بأن ينصرفوا إلى تعديل أوضاع أحزابهم وإصلاحها من الداخل وأشاعوا فيها الديمقراطية وتقاليد العمل السياسي الحزبي الصحيحة، فحالتها الراهنة، والتي ظلت عليها منذ نشأتها، تجعلها لا تنتمي لمفهوم الحزبية بأية صلة، فهي أقرب ما تكون إلى الطوائف الدينية والكيانات القبلية والعشائرية.

(5)
تجيل النظر حولك في هذه الساحة الحزبية الخربة فلا ترى سوى فوضى عارمة ورجال كبار يُفترض فيهم الوقار والرشد والمسؤولية يتصارعون مثل الصبية على قطعة (حلاوة قطن). يتنازعون، وقد انصرفوا بكلياتهم على "سلطة مؤقتة" لم يتبق من عمرها سوى عام ونصف، ذاهلين تماماً عن الوطن، وعن ما بُذل من دم وعرق ودموع في سبيل تحريره من أعتى وأشرس قوى شيطانية سلطها الله – بغفلتنا – علينا. رغم أن الخطر ماثل أمام أعينهم ويكشف كل يوم عن وجهه لهم، ولكنهم، وقد غشت أعينهم شهوة صغائر قلوبهم وأعمتها، لا يبصرون.
لقد ظل هذا دأبهم دائماً منذ الاستقلال.
يتحدثون عن الحرية كأبلغ ما تكون الخطابة .. وهم مستبدون كأبشع ما يكون الاستبداد.
يجيدون الحديث عن الديمقراطية كأجمل ما يكون التغني .. وهم إقصائيون كأقبح ما يكون الإقصاء.
يحدثونك عن العقلانية والموضوعية .. وهم غرقى (لشوشتهم) في مستنقع ذواتهم كأسوأ ما تكون النرجسية.
هل تريد أن تعرف إلى أين قادنا وسيقودنا هؤلاء؟.
تابع

izzeddin9@gmail.com

 

آراء