النابليونيون واليسار والأيديولوجيا

 


 

معتصم أقرع
3 February, 2021

 

 

 

elagraa@gmail.com

الأيديولوجيا مصطلح متعدد الدلالات في الفلسفة السياسية.

المعنى الأول للمصطلح تمت صياغته قبل المفهوم الماركسي علي يد الفرنسي دي تراسي الذي عرف الأيديولوجيا علي انها علم الأفكار.

وتحور المعني وتطور لاحقا ليعني المصطلح أن الأيديولوجيا عبارة عن حزمة من أفكار واعية أو قابعة في اللاوعي ومعايير متماسكة وافتراضات ابيستيمية مسبقة توفر منظور ذهني/معرفي يرتب وينظم رؤية الفرد أو الجماعة لقضايا الكون المتشعبة ويفسح المجال لنمو أفكار لا حصر لها تتسق كمجموع داخل إطار الأيديولوجيا المعينة بهدف تفسير العالم وتغييره بالذات فيما يتعلق بعلاقات القوة الاجتماعية.
وبهذا المعنى الأيديولوجيا أصلا ليست عيبا ولا سبة في حد ذاتها ولا يمكن وصفها مسبقا بالخطأ أو الصواب.

النهج الثاني يعرف الأيديولوجيا كوعي زائف او - في النسخة المتطرفة كنقيض للعلم - وهذا هو المعنى الذي استعمله هيغل وشاع بين فلاسفة الماركسية من ماركس، الِي غرامشي وغيرهم الذين تداولوا مصطلح الأيديولوجيا على أنها تعبير عن الهيمنة الفكرية للطبقة المتحكمة اقتصاديا.

فمن يملك أدوات الإنتاج المادي/الاقتصادي/الثروة أيضا يتحكم في انتاج الفكر والمعرفة والثقافة السياسية والثقافة العامة ويقلوظها لتخدم مصالح الطبقة الحاكمة وتوفر لها الحماية والديمومة.

في النسخة الغرامشية يرتبط المصطلح بأفكاره حول أهمية الهيمنة الثقافية للطبقة الحاكمة التي تتيح لها تزييف وعي الطبقة العاملة لتنشغل بقضايا لا تهدد مصالح الطبقة المهيمنة.

الإضافة الهامة للفكر التي اتي بها غرامشي هي توسيع المفهوم الماركسي للأيديولوجيا واخراجه من دائرة الوعي الزائف الِي إطار الهيمنة الثقافية الأوسع.

تتجلى عبقرية غرامشي لو استخدمنا أطروحته في تحليل ايمان الطبقة العاملة الأمريكية الأحمق بدونالد ترامب الملياردير اللص وايمانها بالحزب الجمهوري الذي لا هدف له سوى تقوية طبقة المليونيرات بخفض الضرائب عليها وسلب الطبقات العاملة وتدمير البيئة الطبيعية.

التفسير الوحيد لمأساة مساندة ابيض فقير للحزب الجمهوري قبل وبعد ترامب هو انه تعرض لغسيل مخ شامل.

في النسخة الماركسية الأولى هذا العامل يملك وعيا زائفا، أي ان أفكاره خاطئة ولكن في المنظور الغرامشي, الأكثر دقة, هذا العامل تمت الهيمنة علي وعيه بخطاب الطبقة السائدة بمعنى ان الخطاب زرع فيه وعيا ليس بالضرورة خاطئا ولكنه يشتت وعيه بعيدا عن تناقض مصالحه مع مصالح الطبقة الحاكمة التي يدافع عن برامجها بلا وعي.
هذا العامل, بالتعريف الأوسع للعاملين الذي يشمل الكثير من الموظفين واصحاب الياقات البيضاء, الْمُهَيْمَن عليه ربما يختار أوليات حياتية مثل التقوى المسيحية أو محاربة الإجهاض أو كراهية السود أو المهاجرين أو المسلمين وربما تطرف حد الهوس في مناصرة فريق بيسبول أو فوتبول.

والاحاسيس الحارة والحقيقية لهذا الكائن تجاه كل هذه القضايا ليست خاطئة بالضرورة ودائما وفي حد ذاتها. فهي أحيانا خبيثة وأحيانا نبيلة واحيانا بريئة.

والنقطة المهمة هي ليست سلامة أولويات الكائن المستلب ـ أو خطئها من عدمه كما في الماركسية السابقة.

بـل القضية الاهم عند غرامشي هي ان هذه القضايا التي يتبناها هذا الكائن المستغل ليست بالضرورة زائفة ولكنها تمت زراعتها في عقله بعناية عن طريق آلة الطبقة المهيمنة الضاربة - المتحكمة في التعليم والثقافة العامة والسينما - بهدف صرف أنظاره عن ظلم الأقلية التي تستفرد بالثروة والسلطة علي حساب حياته وكرامته. وهدف الهيمنة الاخير هو تمكين نظام علاقات القوة الاجتماعية من إعادة إنتاج نفسه.


ويأتي التنظير الهام من نعوم تشومسكي وايد هيرمان - حول غسيل المخ في النظام الرأسمالي – علي خطي المفاهيم الغرامشية حول الهيمنة كما يتضح في كتابهما المسمى "صناعة الإذعان: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام".

ويعطي توم فرانك تفاصيل أكثر حول القضية في كتابه المعنون "ما الأمر مع كانساس؟: كيف فاز المحافظون بقلب أمريكا" الذي يحلل التناقض ويجيب علي سؤال لماذا يصوت الكثير من الأمريكيين ضد مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية.

وهكذا حل تشومسكي وهيرمان وقبلهم غرامشي اللغز أو المعضلة التي أشار اليها ارسطو حول لا منطقية تزامن الديمقراطية مع عدم المساوة. فلو كانت هناك ديمقراطية حقيقية لفرض أهل القاع المساوة علي النظام الاجتماعي وخلص ارسطو الِي ان الديمقراطية واللا مساواة لا يمكن ان يتعايشان فأما ان تتحقق المساواة أو تنحسر الديمقراطية. وحسب تشومسكي وهيرمان وقبلهم غرامشي وماركس وهيغل فان التلاعب بالوعي يتيح ازدهار ديمقراطية صورية في ظل عدم مساواة فاجر.

وقيل انك قد تقضي حياتك في دفاع باسل عن افكارك ومبادئك ثم تكتشف في النهاية انك تدافع عن قيم زرعها اخرون في راسك بدعاية اخترقته في طفولتك وصباك وكهولتك.

وبتعريف الأيديولوجيا كوعي يفتقد السلامة العلمية لا يوجد دليل علي ان اليسار وعيه أكثر زيفا وضلالا من الاخرين كما ان طروحات الاخرين ليست كلها علما وانما خيارات اجتماعية تأتي في سياق تاريخي معين وبالضرورة تتضمن وتدفع بـمصالح طبقية واضحة أو كامنة.

اذا يتضح ان مفهوم الأيديولوجيا يتم استخدامه بمعاني متعددة تختلف وعادة ينطلق الشاتمون بـالأيديولوجيا من تعريفها الماركسي كنقيض للعلمية ولكنهم يحصرون السباب علي أهل اليسار كأنما السلفية والفكر الجمهوري والاخواني والمهدوي والختمي والسنبلي أكثر علمية من نعوم تشومسكي وماركس وغرامشي وعبدالخالق محجوب ويانس فاروفاكس.

والطريف ان أول من استعمل الأيديولوجيا كشتيمة هو نابليون بونابرت الذي كان يقذف بالتهمة ضد خصومه الليبراليين.

عموما حسب كل تعريفات مصطلح الأيديولوجيا لا يوجد دليل علي ان اليسار اكثر أدلجة من غيره وفي كل الحالات اتهام اليسار بالأيديولوجية اتهام لا معنى له خارج غرف التحقيق البوليسي.

فاذا كان جميع الفاعلين السياسيين ينطلقون من أيديولوجيا واعية أو لا واعية، صريحة ام كامنة فان التهمة تصبح فارغة.

وحين تطلق التهمة علي فاعل واحد ويتم اعفاء الآخرين تصير في حد ذاتها أداة ايدولوجية لقمع اليسار والتمكين لأيديولوجيات منافسة بكوار لا يجوز للفكر الأمين الجاد.

وهذا المسار الاتهامي يضعف الحوار الفكري الجاد لأنه يكتفي بـالنفي المسبق لليسار بتهمة الأيديولوجيا التي تسحب المشروعية قبل الحوار بدلا عن مواجهة حجج اليسار بأحسن منها واجباره أو مساعدته علي تطوير نفسه ان كان علي خطأ أو القبول بأطروحاته إن أصاب.

من حق أي فرد أو مجموعة ان تدعو لبراغماتية أو حزب برامجي أو ما شاءوا من التَسَيُّس ولكن لا يجوز لهم اتهام الاخرين بـالأيديولوجيا أو الذهول عن كونهم أيضا مسكونين بـأيديولوجيا لا يرونها من فرط الكيل بمكيالين ومن التفريط في صرامة الفكر.

 

آراء