جدلية الدولة العميقة والدولة الظاهرة . بقلم: دكتور سعد حسن فضل الله الأمين/استاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
ظهر فى الفترة الأخيرة مصطلح الدولة العميقة وأصبح على كل لسان ويستخدم احياناً فى غير مكانه وزمانه , وله مسميات كثيرة تختلف بحسب الاستخدام من بلد إلى آخر حسب ظروف كل بلد وتكوينه السياسى وظروفه الإجتماعية وتضارب المصالح , وهى دائما ماتقيف عقبة أمام التحول السياسى وقد تضطر الى الظهور الى السطح بعد ان تنبذ ثقافة التآمر وتشعر بالأمان , ونناقش فى هذه المقالة المفهوم وتتبع مراحل إنشائه وجدلية العلاقة بين الدولة العميقة والدولة الظاهرة وذلك من منطلق اكاديمى بحت.
مفهوم الدولة العميقة
الدولة هى المحور الأساسى فى مجال العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية وتختلف الدول بحسب موقعها وقوتها ونظام الحكم فيها , فهنالك الدول التى تعمل بالنظام الجمهورى وأخرى بالنظام الملكى ونجد مسميات شائعة للدولة مثل الحكومة , الأمة , الحكومة الراشدة , الحكومة الفاسدة وغيره مما لايسع المجال لذكره.
الدولة العميقة من المفاهيم الحديثة والتى لا يوجد لها تعريف واحد معتمد فى أصوله وابعاده ومحدداته وأحيانا نجده يحمل صيغ مختلفة مثل الدولة الموازية , الحكومة البديلة , الحرس القديم , مراكز القوى , الدولة المزدوجة , حكومة الظل, الدولة داخل الدولة , والسدنة.
نشأة المفهوم
ظهر المصطلح فى بداياته فى تركيا فى نهاية القرن العشرين , وكان يطلق على الأفراد اللذين اخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية, بعد قيامها على يد كمال أتاتورك بهدف محاربة أى فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية , وقد عرفت هذه الشبكة بإسم (Derin Devlet).
بمرور الوقت إنتقلت الفكرة من تركيا إلى روسيا وبعض دول الإتحاد السوفيتى سابقاً حيث كانت الشرطة السياسة السوفيتية تعمل سراً كدولة عميقة للسيطرة على الحزب الشيوعى والحكومة السوفيتية , وقد تم وصفها آنذاك بأنها دولة داخل دولة , وكان للدولة العميقة أجهزة سرية تعمل بطرق مشروعة وغير مشروعة للحفاظ على الدولة القائمة , وبمرور الوقت إنحرفت الفكرة وظهرت تحالفات عميقة , وكيانات تسعى إلى استغلال أجهزة الدولة لتحقيق مصالحها .
- 1 -
نجد ان مجموعات الضغط (اللوبى ) فى الولايات المتحدة هى إمتداد لظاهرة الدولة العميقة , والتى تضم مجموعة واسعة من الشبكات ذات المصالح المختلفة , والتى تستفيد من الوضع القائم فى تحقيق مصالحها بأى إسلوب كان.
انتشر المصطلح فى الدول العربية بعد نجاح ظاهرة الربيع العربى والتغير الذى حصل فى مصر وتونس واليمن وليبيا والجزائر والسودان , حيث نجده متدوال بكثافة وسط أجهزة الإعلام ووسط المواطنين أكثر من غيره فى باقى الدول التى لم يحدث تغيير فى نظام الحكم فيها.
تعريف الدولة العميقة
توجد تعاريف كثيرة ومتشبعة للدولة العميقة , فقد عرفها محمد شرفى بقوله" محموعة من المصالح السياسية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية يسيطر عليها عدد من الأشخاص واللوبيات أو المؤسسات للحفاظ والدفاع عن مصالحهم المكتسبة بطرق غير قانونية أخطرها ذات المدى السياسى لانها تقوض العملية السياسة"(1) .
أما زهير حامدى فقد فصل اكثر من ذلك عندما ذكر " بانها شبكة من التحالفات النافذة والمناهضة للديمقراطية داخل النظام السياسى , وهى تتكون من عناصر رفيعة المستوى داخل أجهزة الدولة المختلفة ومجموعات المصالح وتستخدم هذه الشبكة نفوذها فى مفاصل الدولة علاوة على العنف من أجل التأتير بطرق خفية أغلب الأحيان فى النخب السياسية والإقتصادية لضمان تحقيق مصالح معينة" (2).
وفى تعريف أخر " الدولة العميقة غير المنتخبة هى المؤسسة الدائمة التى تسير الإدارات المنتخبة" (3) .
"الدولة العميقة هى التى تضع السياسات وتقرر من سيكون رئيساً وتضع له البرامج والأجندات وتمول حملاته الإنتخابية"(4) .
تعريف مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث " هى التحالف العميق الذى يجمع فى طياته بنيان الدولة المختلفة من جهاز إدارى وسياسى وإعلامى ومؤسسات أمنية وقضاء ومثقفين ورجال دين وشيوخ قبائل ورجال أعمال ....." (5) .
بالنظر للتعاريف السابقة يتضح لنا أن الدولة العميقة ليست دولة داخل دولة كما يحلو للبعض قوله بل هى الدولة ذاتها بتكوين مؤسساتها وتنظيمها المتجزر والممتد أفقياً وراسياً وبقدراتها القمعية والإكراهية وبأدواتها التضليلية والتجسسية وإطارها الإعلامي والثقافى والدينى والقبلى التى تبنى لها الشرعية الزائفة وتزين لها سلوكها المشين .
نجد أن الدولة العميقة هى تركيبة معقدة ومتداخلة أشد التداخل , تجتهد ألا تترك مجالاً إلا وأعملت فيه أدواتها وبسطت أذرعتها فيه سواء كان هذا المجال سياسى أو إقتصادى أو ثقافى وبإختصار كل مجالات قوى الدولة الشاملة , مهما صغر حجمه أو قلت قوته.

وعندما تتجزر الدولة العمقية فإن الدولة الظاهرة لا تستيطع أن تفرض سلطتها وهيبتها علي هذه المنظومة المتشعبة والغامضة والمراوغة والتي يتحكم فيها أساطين المال ورجال الأعمال وكبار السماسرة والمضاربون وجماعات الضغط السياسي التي تعمل من وراء ستار في حين يقبع موظفو الدولة في مكاتبهم ومواقعهم وتنفيذ التوجيهات والتعلميات والأوامر الصادرة إليهم من مراكز صنع القرار التي لايعلمون شيئاً عن دهاليزها وكهوفها المعتمة.
صفات الدولة العميقة
على الرغم من عدم توحيد مصطلح الدولة العميقة في كل الدول إلا أننا نلاحظ أن أدواتها تكاد تكون متشابهة في كل الدول كونها تتفق في الهدف الأسمى لها , وهو المحافظة علي مصالحها من الإضمحلال وهذه السمات المشتركة يمكن تتبعها كالآتى :
1. أنها كيان غير قانوني وذلك لأن مجال عملها خارج القانون ولها ممارسات تعارض القانون وتخرق الدستور بشكل ظاهر ويتجلى ذلك في عمليات الفساد والتهرب الضريبي والإستثناءات والإعفاءات والحيازات والإغتيالات للمعارضين كما وأنها لاتخضع للمحاسبة ولايطبق القانون فيما تغترف من جرائم فهي لاتخاف من ذلك لأن لها سند يحميها وهذا السند ظاهر ومعلوم للجميع .
2. يلفها الغموض والسرية وهذا هو الفرق الرئيسي بينها وبن الدولة الظاهرة فالدولة الظاهرة أعمالها مكشوفة ومرئية بينما الدولة العميقة تحيط نفسها بهالة من الغموض والسرية والعمل في الظلام .

- 3 -

3. تهدف الي حماية وتنفيذ مصالحها لأن هذا هو هدفها في المقام الأول حتي وإن تعارض ذلك مع المصلحة العامة وفي سبيل ذلك يمكن أن تتبع الطرق الملتوية والرشاوي وأعمال العنف مثل عصابات المافيا تماماً .
4. بناء شبكة من المصالح المشتركة يظهر ذلك في البناء والتنظيم والذي يوفر حماية كل فريق للآخر واعتماده عليه في تحقيق هدفه دون تعارض أو تقاطع في الأهداف وبالتالي تكون المسؤلية مشتركة والحماية جماعية ويتم تدعيم ذلك بواسطة العلاقات الجماعية
كالزواج والمصاهرات والشراكات التجارية بين أفراد تلك المجموعات .
5. تحالف واسع المدى فهو لايقتصر علي الجهاز الحكومي فقط بل يشمل منظمات المجتمع المدني والأهلي وقد يكون هذا التحالف بين أفراد القبائل أو أصحاب ديانات أو رجال أعمال أو أحزاب .

6. محاربة التغيير كل حكومات الدولة العميقة لاتحب التغيير خاصة في المجال الإقتصادي والسياسي لأنه يفقدها إمتيازاتها وبالتالي فهي تعمل في سرية تامة لإبقاء الوضع الحالي الملائم لها ولمصلحتها لأطول فترة ممكنة , وتسعى بكل ما أوتيت من قوة لإفشال أي محاولة من شأنها تغيير هذا الوضع وهذا مايفسر عدم وجود تغيير حقيقي في الديمقراطيات الحديثة وأن التغيير بواسطة الثورات يكاد يكون شكلياً , ويرجع ذلك إلى تجزر الدولة العميقة في كافة أجهزة الدولة وإحكام قبضتها علي كل المؤسسات لفترة طويلة من الزمن بشكل يجعلها تنجح في إفشال التغيير, أنظر إلى ما حصل في بعض الدول الأفريقية . فالدولة العميقة تنشط في مراحل التحول الديموقراطي ففي مرحلة التجهيز والتحضير للإنتقال الديموقراطي تستغل التحالفات والشبكات التي أقامتها في السابق لإجهاض الإنتقال الديمقراطي .
أدوات الدولة العميقة
1. الإعلام والتعليم . فهي مكونات بالغة الأهمية بالنسبة لها فهي قادرة علي بناء التصورات والإدراكات في المجتمع مما يخدم الدولة العميقة.
2 التحالفات الإقليمية والدولية. يظهر ذلك في الأحزاب والجماعات ذات الإمتدادات خارج الوطن فهي توفر لها التفاهمات والدعومات وبالذات من التي تتفق معها أيدولوجياً(الإشتراكية وغيرها).
3. الموظفون الحكوميون السابقون. فهم يتفقون علي تقاسم الثورة والإمتيازات والتنافس علي السلطة .
4. رجال الأعمال . وهم أصحاب الشركات والرأسمالية الذين لهم إرتباطات مع الموظفين الحكومين ومعهم يحاولون إقتسام الإستثمار و ضمان استمرارية إمتيازاتهم المالية.
5. المثقفون والتكنوقراط . وهم الذين يعرفون كيفية السيطرة علي الدولة من خلال صياغة الدستور ووضع القوانين والتشريعات الأخرى وإستغلال الموجود منها لتحقيق مآربهم .
6. الإدراكات والتصورات المشتركة . وهي تجمع بينهم وتوحدهم وتدلهم علي أهدافهم كما أنها معيار الضم والتجنيد وتسهل التواصل فهي الأيدولوجيا التي يتم إشاعتها ونشرها في المجتمع ويتم ذلك عبر التراكم التاريخي كما أنها تمثل أرضية خصبة لبناء تحالفات
مستقبلية.
خاتمــــــة
يتضح لنا مما سبق إتساع وضابيبة تعريف مفهوم الدولة العميقة وعدم ثبات إستخدامها بل يتم توظيفها بشكل عشوائي وفضفاض .
يستطيع الأفراد والفاعلون داخل الدولة العميقة من أن يطبقوا مجموعة من الإجراءات ضد الحكومة والمجتمع وإقناع الأخرين بأنها ضرورية للدفاع عن الوطن والهوية الوطنية.
الدولة العميقة ضعفها كامن في عدم مشروعيتها وبالتالي فإن عنفها سببه احساسها بقرب النهاية وكلما تجزرت الديمقراطية الحقيقية والمحاسبة والعمل بأحكام القانون وإحترام الدستور كلما ضعفت الدولة العميقة وإضمحلت بسبب الحكم الراشد وتجسيد دولة الحق والقانون .
المراجع:
(1) محمد شرفى , ماهى الدولة العميقة فى الجزائر , مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية, 2015م.
(2) زهير حامدى , انقلاب مصر : مقارنات تاريخية بتجارب أخرى , مجلة سياسات عربية العدد (4) 2013م.
(3) عبد الحى زلوم , هل هنالك فى الولايات المتحدة دولة عميقة ؟ www, raial youm.com 1 /4/2020.
(4) عبد الحى زلوم , المرجع السابق.
(5) مركز صناعة الفكر للدراسات والأبحاث , الدولة العميقة فى اليمن . www noonpost.com10/4/2020م
(6) إبراهيم السيد ، ما هي الدولة العميقة ، مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية 2015م .
(7) الدولة القائمة والدولة العميقة ، مجلة الناقد للدراسات السياسية المجلد الرابع العدد الأول 2020م .

Yassir Saeed <yasatti@gmail.com>

 

آراء