حامد بشرى والصراع الروسيّ الأوكرانيّ (3 ــ 3)

 


 

 

عرضنا في الحلقتين السابقتين وجهة نظر لعالِمين أمريكيين مرموقين، هما جون ج. ميرسهايمر وتيموثي سنايدر، ونقدم في هذه الحلقة الأخيرة وجهة نظرٍ أوروبية، مع التركيز على ألمانيا.
على الرغم من أنّ الحرب الروسيّة الأوكرانية، لاتزال مُشتعلة ونتائجها مفتوحة تماماً، فقد بدأت الاتهامات المتبادلة، والأسئلة عن الأخطاء التاريخية والنماذج والمذاهب الفاشلة، تصمّ الآذان. ويتواصل الهجوم الصارخ على الدكتاتور بوتين دون هوادة. وعلى الرغم من وجود مقالات قليلة، تتصف بتحليل عقلانيّ ومثيرة للاِهتمام، بإشارتها لمخاطر الحرب المتزايدة و الهستيريا الجماعية للغرب والعقوبات وشحنات الأسلحة، وخطر التصعيد إلى حرب نووية، قلما تجد طريقها إلى وسائل الإعلام، التي تشوّه صورة كلّ شيء يشتبه فيه وجود آثار لفهم الموقف الروسي. ولقد طالت الاتهامات المستشار اُولاف شولتز، ووصفه بالضعف والمتردد في اتخاذ القرارات المصيرية، وصل الإسفاف، بالقول هل هو الآن المستشار المناسب لهذه المرحلة الحرجة من تاريخ ألمانيا؟ ويتناسون بأنّه كان وزير المالية في حكومة ميركل الأخيرة، ورئيس وزراء ولاية هامبورج سابقاً ومتمرّس في العمل السياسي منذ الفترة الشبابية. كما انطلقت الاتهامات والتنديد بتاريخ حزبه (الحزب الاشتراكي الديمقراطي).
لعلنا وسط هذا الجوّ المشتعل، نعود إلى تاريخ ألمانيا القريب، ونتذكّر المستشارين العظيمين فيلي براندت وهيلموت شميدت من الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذين جعلا في فترة ما بعد الحرب، الوضع الأمني في أوروبا وألمانيا ومن قدرة ألمانيا على الدفاع عن نفسها أمراً مهماً في حياتهما. استندت سياسة الانفراج على مسارين، المسار الأول ويقوم به براندت هو الانفتاح على الشرق والتآخي مع بولندا والتواصل مع الاتحاد السوفيتي، لقيت هذه السياسة معارضة شرسة من الحزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي (CDU) ومن حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU) ومن الأمريكان، والمسار الثاني، الذي كان يقوم به هيلموت شميدت هو الاندماج في الناتو.
كان براندت وشميدت يعلمان جيداً، أنه لن تكون هناك فرصة للنجاح في التعامل مع الاتحاد السوفيتي إذا أجريت الحوار من موقف ضعف.
أدى اقتراح هيلموت شميدت إلى ما يسمى بقرار المسار المزدوج لحلف الناتو، والذي اتخذته
الدول الأعضاء في الناتو في 12 ديسمبر 1979 ، والذي نص بإيجاز ما يلي:
يجب فتح مفاوضات مع الاتحاد السوفيتي لتفكيك صواريخ RSD الموجهة إلى أوروبا الغربية،
إذا لم تحقق هذه المفاوضات النجاح المأمول في غضون أربع سنوات، أي بنهاية عام 1983،
فإنّ الولايات المتحدة ستنشر صواريخ نووية متوسطة المدى، بما في ذلك نوع بيرشينج 2 ، في أوروبا الغربية. وتمّ التخطيط لتمركز في جمهورية ألمانيا الاتحادية.
لذلك كان قرار الناتو ذي المسار المزدوج مزيجاً من عرض للمحادثات وتهديد في نفس الوقت.
ولقد حددت اليد الممدودة نحو موسكو، الخطّ الأساسي للحزب الاشتراكي الديمقراطي لفترة طويلة.
سياسة الانفتاح، الذي عارضها الحزب الاتحادي الديمقراطي المسيحي، سار على منواها لاحقاً رئيس الحزب، المستشار الأسبق كول، ثم المستشارة السابقة أنجيلا ميركل طيلة حكمها (16 عاماً). وكان ثمرة هذه السياسة الواعية العقلانية، هو توحيد الألمانيتين.
والآن وكأن التاريخ يعيد نفسه، ويتم اتهام الحزب الاشتراكي الديمقراطي والمستشار أولاف شولتز بالتقاعس في مساندة الشعب الأوكراني ضد الهجوم الروسي، لا يأتي الهجوم فحسب من المعارضة، بل حتى من بعض أعضاء حزب الخضر والحزب الديمقراطي الحرّ (FDP )، وهما الحزبان الذين يشاركان في الحكومة الاتحادية الائتلافية برئاسة شولتز.
لقد ذكرنا في المقدمة الهستيريا التي تثيرها وسائل الاِعلام المختلفة حول الحرب الروسية الأكرانية، والمقالات العديدة، نقدم بعضاً منها بإيجاز، والتي تتناول القضية من زوايا مختلفة، بعضها بموضوعية وعقلانية وبعضها يحفل بتأويلات وتحليلات ما أنزل الله بها من سلطان.
ــ تكتب سابينا فيشر الباحثة في مؤسسة العلوم والسياسة - المعهد الألماني للسياسة والأمن الدولي - برلين، الذي يديره فولكر بيرتس، والذي يشغل حاليا منصب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، في "بعثة الأمم المتحدة بالسودان" (يونيتامس)، بحثاً بعنوان " روسيا في طريقها إلى الديكتاتورية،
الآثار المحلية للهجوم على أوكرانيا"
دفع الهجوم على أوكرانيا في 24 فبراير 2022 روسيا من الاستبداد الصلب إلى الدكتاتورية، والنزعات الشمولية في العلاقة بين الدولة والمجتمع آخذة في الازدياد.
ونعرض الفقرة التالية:
التغيير السياسي في روسيا - متى وفي أي اتجاه؟
قاد فلاديمير بوتين ومن حوله، بقرار غزو أوكرانيا، بلدهم من الحكم المطلق إلى الديكتاتورية وإلى حافة الهاوية. تتعرض روسيا لضغوط هائلة لأن العقوبات الغربية ستغرق الاقتصاد الروسي في ركود عميق في الأشهر المقبلة. ظلت الظروف المعيشية للسكان الروس في حالة تدهور منذ أكثر من عشر سنوات - وستستمر في التدهور بشكل كبير في سياق الأزمة الاقتصادية. الأرباح من صادرات المواد الأولية، التي أرضت النخبة الروسية حتى الآن، بإعادة التوزيع بطرق غير رسمية، ستتقلص بشكل كبير. كلما طال أمد الحرب، زاد عدد العائلات الروسية التي يلفها الحزن على الجنود الذين سقطوا. نجحت القيادة السياسية في موسكو حتى الآن وبشكلٍ شبه كامل في تفويض التعامل مع خسائر الحرب الروسية إلى المستويين الإقليمي والمحلي. وهم بدورهم يمارسون الضغط على العائلات المتضررة، حتى لا يتم ذلك بصورة علنية. ويبقى أن نرى إلى متى يمكن أن يستمر هذا.
ينشأ هذا السؤال فيما يتعلق بالعلاقة بين الدولة والنخب والمجتمع ككل أيضاً. العنف والقمع والدعاية الشمولية هي أدوات الهيمنة الوحيدة التي يمكن للنظام الروسي استخدامها الآن لتحقيق الاستقرار. من المرجح أن تستمر الحرب ضد أوكرانيا. وسوف يشتد القمع في روسيا. لقد أظهر الشهر والنصف الماضيان، أنّ موسكو يمكن أن تنجح في هذا على المدى القصير. ولكن على المدى المتوسط، سوف يتعرض النظام الروسي لخطر أكبر مع مرور كلّ يوم تستمر فيه الحرب.
إذا كان هناك تغيير سياسي في روسيا نتيجة للهجوم على أوكرانيا، يستوجب على المرء أن يتوقف عند سيناريوهات مختلفة - والسيناريوهات الإيجابية ليست هي الأكثر منطقية. هناك ثلاثة جوانب يجب تأملها:
1 - إن القوة الرأسية مُعرّضة لخطر الانهيار الشديد، إذا تعثرت من الأعلى. إذا لم يعد النظام السياسي الروسيّ قادراً على تحمّل الضغط والانفجار الداخلي، فلا بدّ من توقع زعزعة استقرارٍ بعيدة المدى في البلاد. حركات الانسحاب الإقليمية والعنف وحتى الحرب الأهلية، لا يمكن استبعادها. فالخطر الأكبر في هذا السياق هو نظام رمضان قديروف الإرهابي في الشيشان.
2- تشترك الأغلبية الساحقة من النخبة السياسية الروسية مع فلاديمير بوتين في رؤيته للعالم وبالتالي، فإن الانتقال السياسي الذي تفاوض عليه مجموعات النخبة، لن يضمن تغييراً جوهرياً في السياسة - لا سيما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية وأوكرانيا والجوار الروسي.
3 - أدّى الانتقال إلى الظروف الديكتاتورية إلى تفتيت المجتمع الروسي إلى أقصى الحدود. لم تعد هناك أية هياكل أفقية يمكن من خلالها اتخاذ قرارات مجتمعية مخالفة وتصبح فعالة سياسياً. وصلت القدرة على التنظيم الذاتي الاجتماعي إلى الصفر. لذلك، هناك احتمال ضئيل لدور بناء للمجتمع الروسي في عملية التغيير السياسي - حتى أقل مما كان عليه في أواخر الاتحاد السوفياتي.
لا تعتبر أي من هذه الحجج ضد العقوبات. يجب على ألمانيا وشركائها بذل كل ما في وسعهم لحرمان روسيا من القدرة على شنّ حرب ضدّ أوكرانيا. يجب في الوقت نفسه، أن يكون المرء مستعداً لحقيقة، أن التغيير السياسي في روسيا، إذا حدث، سيعني المزيد من التحديات الكبرى. العمل مع السياسيين الديمقراطيين الذين فروا من روسيا ووسائل الإعلام المستقلة والجهات الفاعلة في المجتمع المدني، ودعمهم النشط وغير بيروقراطي في إقامة هياكل المنفى، هو أحد طرق الاستعداد لهذه التحديات.
ــ نشر السياسي الألماني المشهور، رئيس الحزب الاشتراكي الديمقراطي الأسبق، ووزير مالية سابق،
أوسكار لافونتين، مقالاً في الصحيفة السويسرية "الأسبوع العالمي رقم 17.22، بعنوان:
" تقود أمريكا أوروبا إلى حربٍ نووية"
المستشار أولاف شولتز في قبضة لاعبي واشنطن الخانقة: السلام التفاوضي مع موسكو أصبح ملحّا بشكل متزايد".
نقدم هنا مقتطفات:
تدور حرب أوكرانيا في الواقع، حول نزاع بين الولايات المتحدة وروسيا. أشاد زبيغنيو بريجنسكي ، المستشار الأمني السابق للرئيس الأمريكي جيمي كارتر، في كتابه" القوة العالمية الوحيدة" ، الذي نُشر عام 1997 ، بالجهاز العسكري الأمريكي غير المسبوق باعتباره الجهاز الوحيد الذي يتمتع بنطاق عالمي. لا تتفق روسيا والصين بالطبع، مع الهيمنة الأمريكية. لذلك، يتعيّن على الولايات المتحدة أن تفعل كلّ ما في وسعها حتى لا تسمح لحدوث منافس أوروبي آسيوي يمكن أن يجلب قارة أوراسيا تحت سيطرته.
أوكرانيا هي المحور الجيوسياسي في السعي لتحقيق هذا الهدف. من دون أوكرانيا، لم تعد روسيا إمبراطورية أوراسية. ومع ذلك ، إذا استعادت موسكو السيطرة على أوكرانيا بمواردها الطبيعية الكبيرة والوصول إلى البحر الأسود ، فستكتسب روسيا تلقائياً الوسائل لتصبح إمبراطورية قوية تمتد عبر أوروبا وآسيا".
إذا استكمل المرء هذه الأفكار بالرسالة الرئيسية للمحاضرة التي ألقاها رئيس ستراتفور جورج فريدمان في 3 فبراير 2015 في شيكاغو، والتي بموجبها كان الهدف الرئيسي لسياسة الولايات المتحدة لعدة قرون هو ضمان عدم وجود تعاون بين روسيا وألمانيا، فأنت تعرف بعد، ما كان الهدف من توسع الناتو شرقاً.
يمكنك أن تفهم أيضاً، لماذا اعترفت نائبة وزير الخارجية الأمريكية ، فيكتوريا نولاند، بحرية قبل سنوات، بأن الولايات المتحدة أنفقت 5 مليارات دولار على تنصيب حكومة دمية في كييف كانت تريدها. ثم يتضح بعد ذلك سبب قيام واشنطن بكل شيء منذ سنوات لمنع تسليم الفحم والنفط والغاز من روسيا إلى أوروبا.
في ظلّ هذه الخلفية، من المعقول أن يحذر الخبير الاقتصادي الأمريكي الشهير جيفري ساكس أيضاً، من أنّ استراتيجية الولايات المتحدة، تقود إلى حرب طويلة في أوكرانيا تسفرت عن سقوط آلاف القتلى. وهو يوصي بأن تسير أوروبا في طريقها الخاص وأن تجلب أوكرانيا المحايدة، مع حكم ذاتي لدونباس كحلّ تفاوضي. إنه لأمر مدهش إلى أيّ مدى لا يعترف السياسيون والصحفيون في أوروبا، وخاصة في ألمانيا، بهذه الروابط الجيوستراتيجية، ويتبعون بشكل أعمى استراتيجية الولايات المتحدة الخطيرة للغاية المتمثلة في زيادة تسخين حرب أوكرانيا. حريق خطير، لأن الولايات المتحدة من الواضح أنّها لا تريد أن تستجيب لنصيحة رئيسها السابق جون إف كينيدي، لا ينبغي أبداً السماح لقوة نووية بالدخول في موقف لم يعد بإمكانها إيجاد طريقة لحفظ ماء الوجه.
لا يكفي في هذه الورطة، أن يقوم أولاف شولتز بتأخير تسليم الأسلحة. ارتفاع شحنات الأسلحة هو شعار إدارة بايدن، التي تريد إضعاف روسيا بأيّ ثمن، بغض النظر عن الوفيات التي ستنجم عن استمرار شحنات الأسلحة.
هل يعتقد أي شخص بجدية أنّ القوة النووية لروسيا يمكن أن تخسر حرب أوكرانيا بالنظر إلى الوضع السياسي العالمي؟ إن موردي الأسلحة المتعصبين في البوندستاغ، سواء أدركوا ذلك أم لا، مسؤولون بشكل مشترك عن العدد المتزايد للوفيات اليومية. ما هي مدّة الحرب المفترض أن تستمر؟ مثل الحرب في أفغانستان؟ لماذا لا تتعلم السياسة الألمانية من إخفاقات حروب التدخل التي قادتها الولايات المتحدة والتي شارك فيها البوندسفير (الجيش الألماني ــ المترجم)؟
تجري حالياً مناقشة مليئة بالمغامرات في ألمانيا. أن سياسة الانفراج، ومحاولة التعاون الجيد مع روسيا، كانت هي سبب التطور الحالي. نادراً ما انقلبت الحقيقة هكذا رأساً على عقب. لم يكن واضحاً أبداًّ من قبل، إلى أي مدى تحدد الدعاية الأمريكية الإعلام والنقاش السياسي في ألمانيا. ولكن الحقيقة مختلفة.
بدأت سياسة الانفراج في منتصف الستينيات، مما أدى إلى سلام مستقر في أوروبا وأدى إلى سقوط جدار برلين وانسحاب القوات السوفيتية من ألمانيا وأوروبا الشرقية.
بدأت سياسة المواجهة في التسعينيات، مع توسع الناتو باتجاه الشرق وتزايد تطويق روسيا. أدى ذلك إلى نشوب الحرب في يوغوسلافيا، التي كانت غير قانونية بموجب القانون الدولي، وإلى غزو أوكرانيا من قبل القوات الروسية، وهو أمر بموجب القانون الدولي غير قانوني أيضاً.
إذا لم يكن من الممكن التوصل إلى سلام يتم المتفاوض عليه قريباً، فسوف يزداد خطر نشوب حرب نووية، لأن المسؤولين في موسكو يسندون ظهرهم للجدار، والمقامرين في واشنطن يعتقدون منذ سنوات، بأن الحرب النووية ممكن أن تقتصر على أوروبا فقط.
ــ قام 28 مثقفاً وفناناً بكتابة رسالة مفتوحة بتاريخ 29 أبريل 2022 ،إلى المستشار الألماني أولاف شولتز. نعرضها هنا بإيجاز:
نحن نحيي ونقدر نظرتك الدقيقة حتى الآن للمخاطر: خطر انتشار الحرب داخل أوكرانيا ؛ خطر التوسع في جميع أنحاء أوروبا ؛ نعم ، خطر نشوب حرب عالمية ثالثة. لذلك نأمل أن تتذكر موقفك الأصلي ولن تزود أوكرانيا بأي أسلحة ثقيلة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. على العكس من ذلك، نحثك على بذل كل ما في وسعك لضمان إمكانية التوصل إلى وقف لإطلاق النار في أسرع وقت ممكن؛ كحل وسط يمكن للطرفين قبوله.
إننا نشاطر الحكم على العدوان الروسي باعتباره انتهاكاً للمعايير الأساسية للقانون الدولي. نشارك في الاقتناع بأنّ هناك واجباً سياسياً وأخلاقياً أساسياً بعدم التراجع عن العنف العدواني دون مقاومة أيضاً. لكن كل ما يمكن أن يُشتق من هذا، له حدود في ضرورات أخرى للأخلاق السياسية.
نحن مقتنعون بأنه تمّ الآن الوصول إلى خطين فاصلين: الأول، الحظر القاطع على قبول أي خطر واضح من تصاعد هذه الحرب إلى صراع نووي. ومع ذلك، فإن تسليم كميات كبيرة من الأسلحة الثقيلة يمكن أن يجعل ألمانيا نفسها طرفاً في الحرب. ويمكن أن يؤدي هجوم روسي مضاد بعد ذلك إلى إثارة قضية المساعدة بموجب معاهدة الناتو ومعها الخطر المباشر لحرب عالمية. الخط الثاني هو مستوى الدمار والمعاناة الإنسانية بين المدنيين الأوكرانيين. وحتى المقاومة المشروعة ضد المعتدي هي في مرحلة لا يطاق.
نحذر من خطأ مزدوج: أولاً: إن مسؤولية خطر التصعيد إلى نزاع نووي تقع على عاتق المعتدي الأصلي فقط، وليس على عاتق أولئك الذين يزودونه علناً بدافع للقيام بعمل إجرامي أيضاً. ومن ناحية أخرى ، فإن قرار المسؤولية الأخلاقية عن "التكاليف" الإضافية في الأرواح البشرية بين السكان المدنيين الأوكرانيين، يقع حصرياً في اختصاص حكومتهم. القواعد الملزمة أخلاقيا عالمية في طبيعتها.
إن تصاعد التسلح تحت الضغط، يمكن أن يكون بداية سباق تسلح عالمي له عواقب وخيمة، ليس أقلها على الصحة العالمية وتغير المناخ. على الرغم من كلّ الاختلافات، من المهم السعي من أجل السلام في جميع أنحاء العالم. النهج الأوروبي للتنوع المشترك هو نموذج لذلك.
نحن مقتنعون بأن المستشار الألماني يمكن أن يقدم مساهمة حاسمة في حل يصمد أمام حكم التاريخ. ليس فقط في ضوء قوتنا (الاقتصادية) الحالية، ولكن في ضوء مسؤوليتنا التاريخية أيضاً - وعلى أمل مستقبل سلمي معاً.
نأمل ونعتمد عليك!
ـــ نشرت مجموعة أخرى من المثقفين والكتاب والسياسيين في صحيفة دتسايت الأسبوعية بتاريخ 5 مايو 2022خطاباً مفتوحاً وموجهاً إلى المستشار شولتز أيضا، ومخالفاً تماماً للخطاب أعلاه، نقتطف منه:
بالنظر إلى تمركز القوات الروسية في شرق وجنوب أوكرانيا ،مع استمرار قصف السكان المدنيين، والتدمير المنهجي للبنية التحتية، والوضع الحرج الإنساني، مع أكثر من عشرة ملايين لاجئ ، والاضطراب الاقتصادي لأوكرانيا نتيجة للحرب، لا يتطلب الأمر أي خبرة عسكرية خاصة، لإدراك أن الفرق بين الأسلحة "الدفاعية" و "الهجومية" ليست موضوع تساؤل: في أيدي المدافعين، تعتبر الدبابات ومدافع الهاوتزر أسلحة دفاعية لأنها تستخدم للدفاع عن النفس أيضاً.
يجب على أي شخص يريد سلاماً عن طريق التفاوض، لا يؤدي إلى خضوع أوكرانيا للمطالب الروسية، تعزيز قدراتها الدفاعية وإضعاف قدرات الحرب الروسية قدر الإمكان. وهذا يتطلب إمداداً ثابتاً بالأسلحة والذخيرة لقلب ميزان القوى العسكري لصالح أوكرانيا. ويتطلب تمديد العقوبات الاقتصادية لتشمل قطاع الطاقة الروسي، شريان الحياة المالي لنظام بوتين.
هناك أسباب وجيهة لتجنب المواجهة العسكرية المباشرة مع روسيا. لكن هذا لا يعني ولا يجب أن يعني أن الدفاع عن استقلال أوكرانيا وحريتها ليس من شأننا. إنه معيار لمدى جديتنا أيضاً. يملي التاريخ الألماني كلّ جهد ممكن لمنع تجدد حروب الإبادة والطرد. وهذا ينطبق بشكل أكبر على بلد بطشت به القوات المسلحة وقوات الأمن الخاصة في الدولة النازية بكلّ وحشية.
تحارب اليوم أوكرانيا من أجل أمننا والقيم الأساسية لأوروبا الحرّة أيضاً. لهذا السبب يجب علينا، ويجب على أوروبا، ألا ندع أوكرانيا تسقط.
ــ نشر يورجن هابرماس Jügen Habermas (92 عاما) أحد أكثر الفلاسفة تأثيراً في عصرنا الحالي،
مقالاً طويلاً في صحيفة سودديتشه تسايتنج بتاريخ 29 أبريل 2022 عن الحرب الأوكرانية بعنوان "حرب الغضب".
"في ضوء الهستيريا الألمانية، ودعاة الحرب اليمينيين، ودعاة السلام اليساريين، والتردد الوجداني، والذي يجعل المشككين يجادلون حول الإجابة الصحيحة على الحرب الأوكرانية، وأكثر من ذلك، إلى جانب وصف المعضلة التي تعاني منها الحكومة الائتلافية الفدرالية، فيما يتعلق بتسليم الأسلحة".
يأتي مقال هابرماس في وقت مناسب، وأكثر إلحاحاُ.
إنه لا يحتوي على توجيهات سياسية - حتى لو دافع عن تردد وقوة ضبط نفس المستشار شولتز، الذي يُقيم كمسؤول سياسي ومستنير، الوقائع بشكل شامل، ولكنه في نفس الوقت مع مواجهة معركة حادة مع الآراء التي تغذيها أصوات الصحافة حول نوع ومدى المساعدة العسكرية لأوكرانيا المحاصرة، أو الاِشارة إلى "خطاب الصدمة، المثير للحرب!" والذي تبدو فيه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، فصيحة وبليغة، ولكنه دليل على أخلاقية مشكوك فيها، بسبب حماسته الفائقة ومباشرته.
يكتب هابرماس: "بعد 77 عاماً من دون حرب و 33 عاماً على نهاية السلام، الذي كان ثابتاً فقط، من خلال توازن الرعب، وإن كان مهدداً، عادت صور الحرب المزعجة - على أعتابنا، بسبب الحرب التي شنتها روسيا بشكل عشوائي. إن الحضور الإعلامي لحدث الحرب هذا، يهيمن على حياتنا اليومية كما لم يحدث من قبل.
تجد المشاهد الجديدة اليومية للدمار الوحشي والمعاناة المثيرة، صدى يعزز نفسه في وسائل التواصل الاجتماعي الغربي.
إن الجديد في النشر والدعاية المحسوبة لحرب لا يمكن تقدير حدثها، ننفعل بها نحن كبار السن أكثر من الشباب، الذين اعتادوا على وسائل الإعلام".
يقول هابرماس، إن قرار عدم الانضمام إلى الحرب له أساس أخلاقي جيد، ولكنه قيد يدي الغرب في نفس الوقت. ويرى أن الدول الغربية في مأزق، بعد أن تعلمت من الحرب الباردة أن الحرب بالأسلحة النووية "لم يعد من الممكن" كسبها "بأي معنى معقول". كما لا يمكن للمرء قبول خطر استخدام روسيا
أسلحة ABC رداً على دخول الغرب الحرب إلى جانب أوكرانيا. ولكن المشكلة، هي أن بوتين هو
الذي يقرر "متي يتجاوز الغرب العتبة التي حددها القانون الدولي، والتي يعتبر بعدها رسمياً، بأن الدعم العسكري لأوكرانيا، بمثابة دخول الغرب في الحرب.
إن خطر اندلاع حريق عالمي لا يترك "مجالاً للعبة البوكر المحفوفة بالمخاطر".
من ناحية أخرى، لا يمكن للغرب أن يسمح لنفسه "بالابتزاز لكل من يشاء" كما أن ترك أوكرانيا لمصيرها لن يكون "فضيحة من وجهة نظر سياسية وأخلاقية فحسب، بل لن يكون في المصلحة الذاتية". وبعد كل شيء، أليس من المتوقع أن تتكرر الحالة كما في جورجيا أو جمهورية مولداو - "ومن سيكون التالي؟ لهذا السبب لا يعترض هابرماس على دعم أوكرانيا - أي حتى المشاركة المباشرة.
يقول هابرماس، إن الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي "يعرف قوة الصور" (الاِشارة إلى أنه ممثل ـ المترجم) يُضمن رسائل مؤثرة ويصف خطابه المنقول بالفيديو إلى البوندستاغ (البرلمان الألماني ــ المترجم ) بأن "الأحكام السياسية الخاطئة والمسار الخاطئ الذي حددته الحكومات الفيدرالية السابقة" بأنها "أوامر أخلاقية" ويتم "تحويلها من دون مزيد من اللغط، إلى ابتزاز أخلاقي" من قبل الجانب الأوكراني.
ويواصل في فقرة أخرى، فإن "الدافع الأخلاقي المتهور للقيادة الأوكرانية المصممة على الانتصار" و "الواقع الجديد تماماً للحرب" قد انتزع الشباب للتو "من أوهامهم المسالمة".
إن الاستخدام المحتمل للأسلحة النووية "الصغيرة"، التي كما أشار هابرماس، قد تم تطويرها فقط، لجعل الحروب بين القوى النووية ممكنة مرة أخرى ، يجعل الموقف محفوفاً بالمخاطر. كما أن التركيز على شخص بوتين "يؤدي إلى تكهنات جامحة، تنشرها وسائل الاِعلام الرائدة لدينا اليوم.
ويثيره "خداع الذات" الذي يحلم به دعاة الحرب المحبون للسلام، وهم جالسون على" منصة المتفرجين" بانتصار أوكرانيا على الجنود الروس القتلة، دون الاضطرار إلى حمل السلاح بأنفسهم.
ويشير هابرماس من ناحية أخرى، إلى أنه "يجب التفاوض مع بوتين على إنهاء الحرب، أو على الأقل وقف إطلاق النار. وهو يرى أن "قلق بوتين بشأن الاحتجاج السياسي في دوائر التفكير الليبرالي التقدمي بشكل تدريجي في مجتمعه" هو عامل محفز يدفعه للتفاوض.
بوضوح مقنع، يلخص مرة أخرى مواقف الأسابيع القليلة الماضية ويظهر أن البدائل البسيطة، مثل النصر مقابل الهزيمة أو الصراع الإقليمي مقابل الحرب النووية لا تساعد كثيراً في عملية صنع القرار.
وكطريقة بناءة للخروج من المعضلة، يرى يورغن هابرماس، وبصياغة حذرة، لما يمكن أن يكون عليه هدف تصرف الدول الغربية، أي "ألا تخسر أوكرانيا الحرب".
هذا عرض مكثف جداً لمقال هابرماس الرحب والعميق، وربما نقدمهم بنصه الكامل لاحقا، والذي أشار إليه أحد المعلقين بقوله:
"إذا تم البحث في المستقبل البعيد عن وثيقة تعطي مثالاً وتجسد الانقسام اليائس في هذا الوقت"، أنه مقال هابرماس.
ــ بعد هذا العرض يظهر للقارئ بوضوح مدى انقسام المجتمع الألماني حول الاتفاق على هذه القضية المعقدة والذي لا يخلو من تناقضات بأي حال من الأحوال: فالأغلبية تؤيد حالياً تسليم الأسلحة الثقيلة، بينما يعتقد الكثيرون، أن النهج الحذر للمستشار كان صائباً. هذه المواقف تعكس الحالة الذهنية والنفسية لأجزاء كبيرة من السكان. لا أريد المواصلة في التعليق، فالعرض طال، وكانت هناك صعوبة في اختزاله، ولكنني أود أن أطرح سؤالين، كمدخل للنقاش نشارك فيه جميعا في حلقة لاحقة:
ــ السؤال الأول: ما هو موقف الصين الآن، بعد أن أصبحت القضية واضحة، فالحرب الآن تدور بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، الذي أصبح الآن في قبضة أمريكا وبين وروسيا؟ وبعد أن أصبح الاِجراء الروسي الحالي في أوكرينا مختلف تماماً، هل تتمكن الصين من تجاهله، بحكم العلاقات الوثيقة بين البلدين والرئيسين؟ أم أنها تتمسك بالصيغة المتبعة حتى الآن:" أبداً ليس ضد بعضنا البعض، ولكن ليس دائماً مع بعضنا البعض".
ــ السؤال الثاني: ما هو موقف العالم الثالث، أي العالم النامي؟ وكيف يمكن أن يلعب دوراً واضحاً، ليس بمعنى التكتل، وإنما بموقف عقلاني يخدم قضايا بلدانهم ويشارك في بناء السلام العالمي.

hamidfadlalla1936@gmail.com
///////////////////////

 

آراء