حرب إسرائيل على غزة.. تحليل من منظور علم الحد من مخاطر الكوارث

 


 

 

د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
تهرع إسرائيل جزِعةً فزِعةُ كلما وقعت كارثة طبيعية على دولة ما لتظهر وجهاّ إنسانياً تُحسِّن به سمعتها في الأسرة الدولية، فتراها تحرك فرق الإنقاذ بما فيها الكلاب المدربة لمحاولة إنتشال الضحايا من تحت ركام الزلازل، أو تقدم المساعدات الإنسانية لمنكوبي الفيضانات أو البراكين أو وغيرها من الكوارث.
إن حس التضامن الإنساني لابد في الأصل أن ينبع من ضمير حي يقظ. يقدر الحياة البشرية من حيث هي حياة. ويقدم المساعدات للمتضررين بصورة لا تبقي على حياتهم فحسب، وإنما تحافظ أيضاً على كرامتهم. وهذا ما يؤكد عليه مشروع أسفير Sphere Project للتدخلات الإنسانية.. إذن فقطب الرّحى في أي تدخل إنساني هو الإبقاء على حياة وكرامة المتضررين.
بالنظر لما تقوم به إسرائيل من محارق وإبادة على سكان غزة يتنافى مع تلك الروح.. فالكوارث التي تتدخل إسرائيل للتخفيف من آثرها على المتضررين في الغالب الأعم هي كوارث طبيعية، غير أن ما تفعله الآن ضد سكان قطاع غزة هو كارثة من نوع آخر وهي كارثة من صنع الإنسان. فالنوعان يشتركان من منظور علم الحد من مخاطر الكوارث في بعض السمات العامة.. غير أن تلك التي من صنع الإنسان في الغالب تكون أكثر ضراوةً وأوسع أثراً وأكبر فتكاً وأحد مُضياً. تلك السمات المشتركة بين نوعي الكوارث تتمثل في وجود (الخطر والهشاشة والمخاطر والقدرة)
بملاحظة عامة فإن الكوارث الطبيعية ومهما كانت حدتها أو طبيعة الأخطار المسببة لها، يمكن من خلال بعض الإجراءات الإحترازية التقليل من آثارها التدمرية بشكل كبير، فعلم الحد من مخاطر الكوارث يفرض ضرورة بعض الإجراءات الإستباقية، كتقييم للمخاطر Risk assessment. وتخريط الأخطار Hazard mapping وخلق نُظم للإنذار المبكر Early warning systems فعندما تقع الكارثة يقضي هذا العلم أيضاً بضرورة وجود نوع من التآذر synergy بين المجتمعات لتقليل الخسائر والأضرار بإنقاذ الأرواح والممتلكات وتقديم المساعدات الإنسانية. غير أن الحال يختلف بشكل كبير في حالة الكوارث التي يصنعها الإنسان خاصة الحروب. فالحروب هي أكبر خطر كوارث يمكن أن تحيق بمجتمع ما، ذلك أن مستوى الويلات (المخاطر) يتم التحكم فيه برغبة جامحة بإيقاع أكبر قدر من الخسائر.. وهذا بالضبط ما تفعله إسرائيل بقطاع غزة وسكانه... فهي تنزل بهم كارثة أكبر من أي كارثة طبيعية، بل ويمكن الزعم أن ما فعلته إسرائيل في غضون ثلاثة أسابيع في قطاع غزة يفوق زلزالاً بقوة تتجاوز الثمانية درجات على مقياس رختر.. والأسؤ من ذلك فإنها تمنع وبالقوة حس التآذر الذي كانت تسرع بموجبه في أي ركن من العالم لتنقذ الأرواح بفنييها وكلابها المدربة. فالقصف الذي تباشره بطيرانها ومدفعيتها وزوارقها الحربية قد قضى في فترة وجيزة على أحياء ومربعات سكنية بالكامل. وقتل وشرد أسر بحالها.. ونزعة الشر في ذلك تدفع إسرائيل لمنع أي تدخلات إنسانية من أجل تخفيف تلك الويلات على ضحاياها.. فأعداد من هم تحت ركام المباني المنهارة بفعل القصف الجوي قد فاقت أكثر من ألف قتيل في حين أنها تمنع عمل الطواقم الإنسانية من رجالات الدفاع المدني أو المسعفين من التدخل، بل وتقوم بقصف هذه الأطقم وسياراتهم.
قد يكون مفهوم أنه وفي خضم الحروب عادة ما يقع ضحايا من المدنيين فيما يعرف بالخسائر الجانبية Collateral damage غير أن الحال فيما تقوم به إسرائيل يستهدف المدنيين بشكل مباشر وهذا ما يفسر القدر الكبير من الخسائر في الأرواح وسط المدنيين خاصة الأطفال والنساء والمسنين.
ينظر علم الحد من مخاطر الكوارث لكل كارثة بناءً على الخطر الذي يسببها لكي يتم التعامل معه بحسب مقتضيات ذلك الخطر... غير أن ما تقوم به إسرائيل فإن الخطر فيه مركب ومتراكب complex & cascading بمعنى أنه معقد بدرجة تتداخل فيه عدة عوامل منها إستخدام القوة المميتة والتكنولوجيا المعقدة Sophisticated technology والأسلحة المحرمة دولياً وطائرات وسفن ووسائل تحديد الأهداف بنظم تحديد المواقع الجغرافية ، وتدمير ممنهج بتلك القوة لعناصر الحياة من بنى تحتية. والتحكم بقطع إمدادات الوقود والكهرباء والمياه والإتصالات والإنترنت وقصف المستشفيات. وفوق ذلك كله هنالك خطرٌ آخرٌ وهو وجود عقلية ونفسية مُلتاثة على مستوى القيادة العسكرو- مدنية تُوِلغ في الدماء كلُما رأت منها قدراً حملها لسفك المزيد لإثبات التفوق العسكرى ليس فقط أمام عدوهم، بل أمام الرأي العام الإسرائيلي.. ثم أن هنالك خطر آخر هو الدعم الدولي من كل القوى الكبرى الذي أعطاها ضؤاً أخضراً بدعوى (الدفاع عن النفس) لإطلاق يدها لضمان أن تكون الكارثة ماحقة .. وهنا تتجلى الفوارق بين الكوارث الطبيعية وتلك التي من صنع الإنسان.. فالكارثة الطبيعية كالزلزال على سبيل المثال قد لا تزيد على الأرجح لبضع ثواني. أما ما تفعله إسرائيل فمستمر لأيام وليالي وتهدد بأنه قد يطول مشفوعاً بغاية أساسية إما الموت الجماعي أو التهجير الجماعي.
إن أهم ما يميز ما تفعله إسرائيل ككارثة بالفلسطينيين من وجهة نظر علم الحد من مخاطر الكوارث أنها جمعت بين عنصرين قاتلين في الكوارث هما الخطر والمخاطر (لمعرفة المزيد عن الفرق بين الخطر والمخاطر أنظر د.محمد عبدالحميد ود.زاهر حسن. كتاب الحد من مخاطر الكوارث... دليل تدريبي. منشورات مركز الفيصل الثقافي ٢٠١٦م ).. فضلاً عن حالة الهشاشة العالية لمجتمع غزة. فالخطر هنا معروف وهو إستخدام الأسلحة الفتاكة ممثلاً في الحرب.. أما المخاطر فهي كلما ينجم عن الحرب من موتٍ وإصاباتٍ وتدميرٍ وتهجيرٍ وترويعٍ وتجويعٍ والمأساة أنها عمدت لأن تجتمع في المخاطر أسؤ عنصرين هما(Intensity & extensivness ) فالملاحظ أن إستخدام القوة المميتة يتسم بالعمق و الكثافة highly intensive بشكل مرعب كما وأنه ممتد extensive بشكل يشمل القطاع من أوله لآخره دون إستثناء. وتلجأ في ذلك لاستخدام حيلة خادعة تزيد بها من رهق الضحايا فهي إذ تطالبهم بالتوجه لجنوب غزة بإعتباره أكثر أمناً ولا تنوي استهدافه تقوم فيه بغارات على جماعات النازحين المستجيبين للتوجه جنوباً.. ثم تعمل خطراً آخراً هو الإغلاق blockade لضمان خنق السكان وحرمانهم من تلقي المساعدات الإنسانية بما فيها الطبية.
إن الكارثة التي تصنعها إسرائيل على قطاع غزة تنفي عنها صفة الإنسانية المجردة، وتحيلها من دولة يسكنها بشر، لدولة تسكنها ذئاب بشرية، وهي ممارسة تجردها أخلاقياً في المستقبل من القيام بأي دور إغاثي. فمن يتمتع بحس التآذر الإنساني لا يمكن أن يسمح لدولته أن تُعمِل آلة القتل بتلك الصورة التي تجعل الكوارث الطبيعية أمامها تبدو أقرب للبشريات الإلهية الرحمية.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء