حكومة حمدوك وتحديات التطلعات العالية والندرة الحادة

 


 

 

 

 

شاءت الأقدار أن أغادر فى أبريل 1983 مؤسسة التنمية السودانية منتدباً إلى وزارة المالية فى ولاية أو إقليم كردفان لإنشاء إدارة للتخطيط بدعم مالى وفنى من المعونة الأمريكية.وقد لاحظت الغياب شبه الكامل لأبناء جنوب كردفان بين العاملين بالوزارة.ولذلك قررت أن تكون نواة إدارة التخطيط من أبناء جنوب كردفان.وكانت البداية بأربعة هم إسماعيل الراحل ومرغنى عبدالله جلود وصلاح أبوزيد (رحمه الله) وعبدالله آدم حمدوك الذى شاءت الأقدار أيضاً أن يؤدى القسم مساء الأربعاء 21 أغسطس 2019 رئيساً لمجلس وزراء حكومة الفترة الإنتقالية .وهو أهل لذلك .وأتوقع أن يرتقى إلى مستوى عشم وتطلعات السودانيين ولا يخذلهم. فهو شخص غيور على وطنه السودان و يتمتع بذكاء حاد ومعرفة عميقة وواسعة وقدرة على العمل .ويستطيع أن يقوم بعمل كبير لصالح السودان والسودانيين إذا ما وجد الدعم السياسى وكرس جهده على القيام بدور القائد لفريق team leader ؛مهامه الأساسية هى:

أولاً تعيين أعضاء الفريق (الوزراء)من المشهود لهم بالنزاهة(الأمانة والصدق والعدل) والجدارة الإدارية العالية (الفهم والمبادرة والحزم والحسم فى إتخاذ وإنفاذ القرارات).

وثانياً الـتأكد من أن الفريق يلعب وفق خطة وبرامج واقعية وأولويات واضحة تراعى حجم التطلعات وحجم التحديات وندرة الموارد البشرية والمالية الحادة.و أن الفريق يتخذ قرارات مدروسة وشفافة ( معلنة) تأخذ فى الأعتبار آراء كل أصحاب المصالح stake holders .

وثالثاً التنسيق بين أعضاء الفريق لتحقيق تكامل الأدوار وتفادى الصدام.فإن ضعف وأحياناًغياب التنسيق بين أجهزة إدارة الدولة السودانية كان دائماً جرحاً نازفاً.

ورابعاً الإشراف والمتابعة اللصيقة لأداء الوزراء؛ والمساءلة والمحاسبة الصارمة على قصورالأداء وسوء التصرف والفساد.وعبدالله آدم حمدوك الذى أعرفه جيداً شخص ودود ولطيف المعشر وكريم ولكن الأمانة الملقاة على عاتقه تتطلب منه أن يكون حازماً وحاسماً ولا يتساهل مع قصورالأداء وسوء التصرف والفساد وأن لا يتردد فى إبعاد وإستبدال أى وزير يثبت قصور أدائه أو سوء تصرفه أو فساده.

وخامساً التعامل بذكاء مع المحيط الداخلى والخارجى لحشد الـدعم السياسى والفنى والمالى لحكومته التى تواجه بتطلعات وتوقعات عالية وندرة حادة فى الموارد البشرية والمالية وقصر فى مدة ولايته.

ماذا قال حمدوك؟
أجرى الصحفى النحرير فيصل محمد صالح حواراً على تلفزيون النيل الأزرق مع رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبدالله آدم حمدوك. وقد نشر الحوار كاملاً فى صحيفة السودانى عدد الأثنين 26 أغسطس 2019.وقد قال حمدوك حديثاً طيباً قوبل بإستحسان كبير من أغلبية الشعب السودانى.وأعتقد أن أهم ما جاء فى حديث رئيس مجلس الوزراء قوله:
أولاً هناك حاجة لمشروع وطنى يلتف حوله الجميع للنهوض بالسودان؛
وثانياً إننا نطمح لبناء إقتصاد وطنى يقوم على الإنتاج لا على الهبات والمعونات؛
وثالثاً نحن فى أزمة إقتصادية دون شك، لكنها أزمة ممكنة الحل إذا ما توفرت لها مطلوبات أبرزها البيئة السياسية المساندة للقرارات الصعبة والسياسات الحكيمة التى تخاطب جذور الأزمة وأبرزها إيقاف الحرب وتوجيه الموارد للصرف على التعليم والصحة ووضع اللبنات الأساسية للمضى فى الطريق الصحيح.

تركة ثقيلة وتطلعات عالية وندرة حادة:
ورثت حكومة حمدوك من حكم الإنقاذ تركة ثقيلة جداً. حروب تحتاج لأطفاء نيرانها ومظالم تحتاج لأن ترفع وترد الحقوق لأصحابها وعلاقات متوترة مع الخارج وسمعة سيئة تحتاج للترميم.وتفلت وتسيب فى حفظ أمن أرواح وأعراض وأموال الناس والبيئة التى يعيشون فيها. وإنهيار شبه كامل لخدمات التعليم والعلاج .وتصدع شبه كامل للبنيات التحتية وخاصة الطرق .وإقتصاد منهار يعانى من إرتفاع الأسعار المتواصل بمعدلات عالية وصلت إلى (73)%خلال العام 2018 بسبب ممارسة حكم الإنقاذ أقصى درجات السفه وعدم المسؤولية فى طباعة وإصدار النقود لتمويل إنفاق الحكومة.ويعرف القارئ الكريم إن التضخم قد قضى على القيمة الشرائية للجنيه السودانى وأدى إلى إفقار وتجويع أصحاب الدخول الثابتة والمنخفضة وإنهيار سعر صرف الجنيه.كما أدى التضخم إلى فقدان الثقة فى الجنيه السودانى كمستودع للقيمة وهروب الودائع المالية بالجنيه السودانى من المصارف إلى أمان الدولار والعقارات والذهب مما أدى إلى أزمة السيولة التى تعانى منها المصارف السودانية اليوم (وللأسف الشديد يقول بعض الأغبياء أن حل تلك الأزمة يكون بطباعة وإصدار المزيد من النقود).وتقول الأرقام الرسمية أن نسبة البطالة (32)% ولكنها قد تصل إلى ما يزيد عن (70)% وسط الشباب المتخرج من الجامعات . ويعنى الإقتصاد السودانى من ضآلة إيرادات الحكومة( فى حدود 9% فقط من الناتج المحلى الإجمالى) وجلها من الضرائب غير المباشرة بدل الضرائب على الدخول. وهناك عجز دائم فى موازنة الحكومة المركزية يمول من إصدار سندات الدين مثل شهادات شهامة وصرح ومزاحمة القطاع الخاص crowdout كما يمول من طباعة وإصدار النقود وتأجيج نار الغلاء. ويعانى الإقتصاد السودانى من النقص الحاد فى العقول والأيدى الماهرة لتسيير دولاب الدولة والقطاع الخاص.كما يعانى من إنخفاض معدلات النمو.فقد نما الناتج المحلى الإجمالى بالأسعار الثابتة بنسبة (4.8)% فقط فى 2016 و(4.5)% فقط فى2017 و(5.7)% فقط فى 2018.ويعانى الإقتصاد السودانى من عجز متواصل فى الميزان التجارى (الصادرات السلعية ناقصاً الواردات السلعية)وصل إلى (5.2) مليار دولار فى 2016 و(5.1) مليار دولار فى 2017 وإلى (3.5)مليار دولار فى 2018.ويعانى الإقتصاد السودانى من نزيف تهريب السلع المدعومة وخاصة المحروقات والقمح ودقيق القمح إلى الدول المجاورة. وسوف يجد القارئ الكريم صعوبة فى تصديق قيام الحكومة فى العام 2018 بصرف مبلغ(64) مليار جنيه سودانى (بالجديد) أو (64)ترليون جنيه سودانى (بالقديم) لدعم أسعار المحروقات والقمح والكهرباء .وقد شكل ذلك نسبة (41)% من إنفاق الحكومة المركزية على التشغيل أو الصرف الجارى وإستنزف نسبة (51)من إجمالى إيرادات الحكومة المركزية فى عام 2018. فهل هناك عدم رشد وعدم تقدير للمسؤولية أمام السودانيين أكثر من ذلك .وكان يمكن صرف ذلك المبلغ فى التعليم والعلاج وفى إزالة خوانق الإنتاج .

ما المطلوب من حكومة حمدوك؟
لا تستطيع أية حكومة أن تتصدى للخراب والدمارالموروث من نظام الإنقاذ وتقلبه إلى عمار خلال (39) شهر هى عمر حكومة الفترة الإنتقالية.والمطلوب من حكومة حمدوك الحيلولة و أكرر الحيلولة دون المزيد من الخراب والدمار. ويكون ذلك بإتخاذ سياسات وإجراءات تصب فى مشروع وطنى لإخراج السوان من مستنقع الفقر والضعف والهوان إلى بر الثراء والقوة والعزة والرأس المرفوع عالياً.وقد كتبت مقالاً بعنوان: ( أفكار متواضعة فى شأن ثورة ديسمبر2018)نشر فى منتصف أبريل 2019 فى صحف الإنتباهة والجريدة وبعض الصحف السودانية الالكترونية. وقد قلت فى ذلك المقال إن الخروج من مستنقع الفقر والذل والهوان الذى نرزح فيه اليوم يتطلب القيام بعملين أساسيين الأول هو قهر التضخم أوالإرتفاع المتواصل لأسعار السلع والخدمات بتخفيض معدله السنوى إلى أقل من (2%) وإبقائه على ذلك المستوى إلى يوم الدين.والعمل الثانى هو بناء طاقات السودانيين الإنتاجية برفع معدل الإستثمار السنوى الإجمالى (الحكومى زائداً الخاص) إلى على الأقل(30%) من الناتج المحلى الإجمالى وإبقائه على ذلك المستوى إلى يوم الدين.وأرى أن تتخذ حكومة الفترة الإنتقالية، إذا لم تكن لديها إجراءات أنجع،أن تتخذ الإجراءات التى كنت أنادى بها ولم تجد أذناً صاغية لأنها كانت تتعارض مع مصالح رموز النظام المخلوع . وتلك الإجراءات هى:
أولاً قهر التضخم و إيقاف إرتفاع الأسعار المتواصل لحماية ما تبقى من دخول الناس من المزيد من تآكل قيمتها الشرائية وحماية القيمة الشرائية للجنيه السودانى وسعر صرفه .ويكون ذلك بإجراء واحد أساسى هوالتوقف الكامل وأكرر التوقف الكامل عن طباعة العملة السودانية وإصدارها لتمويل صرف الحكومة أو أية صرف آخر. وتعديل المادة (48) من قانون بنك السودان المركزى التى تتعلق بإقتراض الحكومة من البنك لتنص المادةعلى أن لا تتجاوز السلفة التى يمنحها البنك المركزى إلى الحكومة (10%) من الإيرادات المتوقعة وأن تسترد السلفة فى نفس العام الذى منحت فيه .وإلغاء البند رقم(2) من المادة(48) الذى ينص على جواز تحويل السلفة إلى قرض متوسط أو طويل الأجل (جعل هذا البند السياسة النقودية مسخرة وهو بدعة إنقاذية). وإضافة نص يلزم البنك المركزى بإنتهاج سياسات نقودية رشيدة و مسؤولة تحول دون تجاوز نسبة التضخم (2%)فى العام.وإختيار وتعيين محافظ للبنك المركزى ونوابه بنفس مطلوبات إختيار الوزراء المذكورة أعلاه .
وثانياً مراجعة موازنة العام 2019 لتحقيق (أ) إزالة العجز وتحقيق توازن المصروفات والإيرادات و (ب) تحويل الأموال التى كانت تقلع من جيب المواطن السوانى الغلبان وتذهب إلى جيوب رموز ومناسيب ومحاسيب ومراديف الحركة الإسلامية من خلال الصرف على مؤسسات إدارة الدولة المترهلة ومؤسسات الرمتلة مثل الصناديق الموازية للوزارات ومثل إتحادات الطلاب والشباب والنساء والجمعيات التطوعية والخيرية التى يملكها رموز الحركة الإسلامية والدستوريون والشركات الرمادية، والصرف على دعم إستهلاك الرغيف والوقود ؛ وتحويل كل تلك الأموال إلى الصرف على العلاج والتعليم وفى إزالة خوانق زيادة الإنتاج والإنتاجية عن طريق الإستثمار فى البنيات التحتية والتدريب.
وثالثاً تحريك دولاب الإنتاج لتوفير فرص العمل المنتج وذلك عن طريق إطلاق الطاقات الإنتاجية لكل السودانيين رجالاً ونساء ، فى عدل ومساواة ،وبدون محاباه أو مضاداه على أساس الإنتماء القبلى أو الحزبى أو الجهوى أو الدينى (بدون تمكين)،عن طريق منح كل السودانيين الحرية الكاملة لإنتاج كل السلع والخدمات المشروعة دينياً وعرفياً وتبادلها بيعاً وشراءً بالأسعار التى يتراضون عليها.
ورابعاً التحرر من وهم توطين زراعة القمح فى السودان وتحويل مشروع الجزيرة إلى أكبر مزرعة فى العالم للمنتجات الزراعية الشتوية القابلة للتصدير من بقوليات وخضروات وبهارات.
وخامساً التوقف عن عبث تحديد سعر صرف الجنيه السودانى بقرارات إدارية إعتباطية لمصلحة المتنفذين الذين بوسعهم الحصول على الدولار بالسعر الرسمى الذى تحدده الحكومة ويكون دائماً اقل كثيراً من سعر السوق الموازى. وتحرير سعر الصرف تحريراً كاملاً ليحدد سعر الدولار والعملات الأجنبية الأخرى بالتفاعل الحر بين البائعين والمشترين.
وسادساً القيام بإصلاح ضريبى شامل وعادل يجعل الضرائب المباشرة على الدخول هى المصدر الأساسى لإيرادات الحكومة.
وسابعاً تطوير القطاع المصرفى وتحريره من القيود التى تحد من حركته وقدرته على حشد المدخرات وإتاحتها لتمويل الإستثمار.
وثامناً إستعجال تطبيع علاقاتنا مع الدول الغربية ذات النفوذ الكبير لإزالة موانع تدفق الإستثمارالأجنبى المباشر ولإزالة عبء القروض.
وقد قلت أعلاه إنه من المهام الأساسية لرئيس مجلس الوزراء التعامل بذكاء مع المحيط الداخلى والخارجى لحشد الدعم السياسى والفنى والمالى لحكومته.والدكتور عبدالله آدم حمدوك يدرك أهمية تلك المسألة وهو قادر على القيام بها إذا ما ساعدته مكونات إعلان الحرية والتغييرولم تشوش ولم تزايد بالشعارات ودغدغة مشاعر الناس للكسب الحزبى ولم تضع أمامه المتاريس.


s.zumam@hotmail.com

 

آراء