حنين جارف إلى عصيدة

 


 

جعفر خضر
25 March, 2024

 

جعفر خضر

يناولني خالد بتيخ عصيدة التقلية، لصانعتها بنت الجزيرة، ملعقة ملعقة حتى أشبع، ثم يتناول هو الفول لقمة لقمة حتى يشبع. لا يشاركني خالد العصيدة، التي لا يُحبّذها، وأنا لا أقرب الفول طالما هنالك عصيدة؛ ليس ثمة نزاع محتمل يحتاج لمفاوضات أو بعثة لفض النزاعات، كان ذلك في رمضان الفائت بامتداد ناصر في مدينة الخرطوم.
***
رغم أن رمضان يتطلب الامتناع عن المأكل والمشرب بين الخيطين الأبيض والأسود، غير أنه أكثر الشهور التي تنماز بأنواع الأطعمة والمشروبات، فالآبري الأحمر (الحلو مر) والآبري الأبيض يظهران فقط في رمضان الذي تنتظم فيه العصيدة أو القراصة.
‏ قال الأديب الطيب صالح متذكرا "ﻛﺎﻥ ﻳُﺴﻤﺢ ﻟﻨﺎ ﺑﺸﺮﺏ ﺍﻟﻘﻬﻮﺓ ﻓﻘﻂ ﻓﻲ ﺷﻬﺮ ﺭﻣﻀﺎﻥ ، ﻓﺎﻟﻘﻬﻮﺓ ﻋﺪﺍ ﺫﻟﻚ ﻟﻠﻜﺒﺎﺭ ﻭﺣﺪﻫﻢ. ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺫﻟﻚ ﻧﻮﻋﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﺤﻈﺮ ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﻗﺒﻴﻞ ﺍﻻﻗﺘﺼﺎﺩ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﻔﻘﺔ، ﻓﻘﺪ ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﻦ ﺃﻏﻠﻰ ﻣﻦ الشاي". يبدو أن ذلك السلوك الاقتصادي الذي حكاه الأديب الأريب قد تحوّل إلى عادة رمضانية في بعض مجتمعات تلك المناطق. لقد كانت القهوة تنتظم في منزلنا بالقضارف يوميا بعد الإفطار طوال الشهر الكريم، أما بقية أشهر السنة فإن القهوة تلتئم - من وقت إلى آخر- في جلسات النساء الخاصة في حضرة أمي، وقد تُعد لضيفٍ بعينه.
لكن للقهوة في شرق السودان شأن آخر ذو طقوس وأبعاد، وقد تفوق في أهميتها، عند بعض البجا، الطعام نفسه..
فنجان جبنة بي شمالو
يسوى الدنيا بي هالو
***
لم ينشئ الاستعمار الانجليزي مشروع الجزيرة إلا لتوفير القطن لمشاريعهِ المبجّلة في لانكشير، وليس لخدمة السودانيين والقاطنين في أرض الجزيرة المعطاءة.
عندما قدم الشاعر محمد المكي إبراهيم من غرب السودان، ممتطيا نصه "قطار الغرب" ، ووصل إلى أرض الجزيرة، وجد الحال يغني عن السؤال، فأنشد قائلاً ..
ها نحن دخلنا ما بين النهرين
الناس هنا جنس آخر
فقراء وثرثارون ولهجتهم فى لين القطن
والباعة مِلحاحُون وحلاّفون
ولهم آذان تسمع رنة قرش فى المريخ
***
ربما يكون صديقي اللدود عمر كتة، هذا الكائن التراثي، الذي نومتو سنة وقومتو سنة، قد امتطى "قطار الغرب" هذا، بعد أن قطع تذكرة في الدرجة الثانية، وذلك عندما قدم من نيالا إلى الخرطوم للدراسة في الجميلة ومستحيلة في مطلع تسعينات القرن الماضي، "فالسكة حديد قرّبت المسافات وكثيرا".
بعد ثلاثة عقود من الزمان، وبعد أن اشتعل رأسه شيبا، أضحى عمر مواطنا خُرطوميا كامل الدسم.
كأني أنظر إليه آتيا إلينا في رمضان بملاحه ومُلَحِهِ الطريفة التي لا تنتهي. وقد يدور الحوار التالي:
عمر كتة: يا سلام على قطر نجالا
عثمان جبرس: انت ما جيت في عربة الدرجة الثانية.. جيت راكب سطوح فوق
عمر: جيت في قَمَرَه في الدرجة الأولى .. انت قايلني هين وللا ليّن
عثمان: زول جايي بي شنطة حديد لو ما السطوح إلا عربة الحيوانات
وتستمر الونسة هكذا يتخللها شراب الشاي وتقطعها القهقهات.
وتتكرر ونسة شبيهة في دعوة إفطار عثمان جبرس بأمدرمان وقد يكون طرفها الثاني التجاني صالح وتتخللها تعليقات عثمان التي هي ألذ وأكثر حموضة من سلطة الروب.
لكن تبخّرت كل تلك الونسات وتاهت في السديم.
***
سكب فقراء الجزيرة العرق فلاحةً للأرض وتجارة مثابرة مِلحاحة، واغتراباً ممضاً طويلاً، فستروا حالهم. اشتهر أهل الجزيرة عموما بالكرم، أما في رمضان فهم كما الرياح المرسلة، يقطعون الطريق على المارة، مع سبق الإصرار والترصد، لإطفاء ظمأهم وسد جوعتهم.
صُمتُ الرمضانات الثلاثة الأخيرة في الخرطوم. كانت عصيده ليمياء ابو سن، بنت المسيد بولاية الجزيرة، تشق طريقها إلينا، من بيتها في الخرطوم، إلى حيث نقيم في مقر حركة بلدنا بالمعمورة طوال شهر رمضان العام 2022م، يوميا، بلا كلل أو ملل. كان صحن العصيدة بملاح التقلية يجيء ويجر معه الفول والبليلة والبلح والابري والعصائر وخالد بتيخ. وقد استمر الحال على ذات المنوال طوال رمضان اللاحق 2023م الذي قضيناه في المقر الجديد بامتداد ناصر، لم تضل العصيدة طريقها إلينا أبدا.
تضيق مائدتنا لتقتصر علينا الثلاثة خالد بتيخ ورامي وانا، يتوسطها صحن العصيدة الساخنة. وغالبا ما تتسع لتضم وجدي خليفة يساري الهوى، أو أحمد التاي الجمهوري النبيل، أو التجاني صالح الذي لا يزال حتى كتابة هذه الكلمة، متواجدا، مثله ومثل متوكل كولا، في أمدرمان الجريحة.
وقد يتضاعف عددنا بقدوم حاكم الطائي، الذي يُدعى حاكم صديق، أحد أبناء شرق سنار، بإفطاره الرمضاني. أما إفطاراته، غير الرمضانية، التي جاءنا بها فلا تُعد ولا تُحصى.
***
قبل سنين طويلة، ربما في حوالي العام 2010م، قصدتُ جامعة الخرطوم بعد غيبة، وساقني الحنين إلى الإنمائية التي يتقاطر إليها قدامى الخريجين، ثم تحركتُ في الطريق المؤدي إلى مكتب القبول وانعطفت يمينا ناحية داخلية امتداد ترهاقا، حيث سكنتُ عندما كنت طالبا في الفترة من 1991 الى 1996م. لمحتني خديجة ست الشاي فعبرتْ الشارع مسرعة من حيث تجلس جهة مركز الدراسات الإضافية لتقابلني في سعادة غامرة وتسلم علي وتدعوني إلى كوب من الشاي، ما أنبل هؤلاء البسطاء، رحمها الله.
وتصادف أن مرّ بنا صاحب (هدوءٌ ولكنه عاصفة) الشاعر عالم عباس، الذي تهللت اساريره لرؤيتنا. تجاذبنا أطراف الحديث، ودعاني لزيارة اتحاد الكتاب السودانيين. قلت له: عندما اتي الى الخرطوم درجت على أن أحج إلى الجامعة، يبدو أنني من هنا ولاحقا ساعمّر في اتحاد الكتاب. قال لي: بل تحج الى الاتحاد وتُعمّر في الجامعة.
دعوته إلى تناول البارد أو الشاي، قال لي انت الضيف البدقوهو (الذي يجلدونه) وعرّفه بأنه الشخص الذي يحل ضيفا ويعزم أهل الدار.
كنت أهل الدار في مقر حركة بلدنا، بحكم أنني أنام في المكان المخصص لي فيه. وعليه كان الجميع يستحقون "الدق" إذ أنهم يعزمونني في داري لا سيما في رمضان.
يستحق "الدق" الدكتور عبد الرحمن أدروب، وخالد كدز، ونزار كوكو، وأسامة الحاج، وسامي النحاس، وعثمان الشيخ، ويوسف الامين، ومبارك مكاوي، ومصعب حسن، وغيرهم وغيرهم.
أما لمياء ابو سن وخالد بتيخ فهؤلاء ينبغي أن يدقوا دق العيش.
ومن الطرائف، هلّ علينا ذات مرة الباشمهندس علي دردق بإفطاره الرمضاني، واستغربت للمسجّل الذي أتى به، وتساءلت في قرارة نفسي هل يريد أن يسمعنا مديحا رمضانيا أو غناءاً عاطراً خلفية للإفطار؟ ولكنني سرعان ما اكتشفت أنه لم يكن مسجلا، بل هي حلّة ذكية!
اتى بالحلّة لأن بعض طعامه لم ينضج، وموعد الإفطار قد أزف. ولا غرابة فهو الأب والأم لعياله الصغار، الذين فقدوا والدتهم قبل ردح من الزمن، ثم هُجّروا من منزلهم قسرا الآن.
بعثت لنا سمر ابو شوك بالموائد في رمضان وغير رمضان بل واكرمتنا أكثر من ذلك. أما عُلا النقر فجاءت مع المأدبة التي أعدتها وشاركتنا الطعام بمعية صغارها "نضاف وظراف بلا النسمي" .
ونضاف وظراف يس ويزن أطفال هيثم ياسين الذي يكثر من اكرامنا بالمندي - خارج رمضان - والذي يعجب الكثيرون، أما أنا فلا أقارنه بالعصيدة. لكن طعامه الأكثر لذة هو إفطار رمضان القادم من المنزل بمعية الصغار.
أما الدكتور محمد عبد الرحيم فهو الذي نال شرف تدشين التركين (الملوحة) في المقر.
***
تجيء إفطارات مأمون علي الرمضانية عادة إلينا في مكاننا، ولكن دعواته في غير رمضان قد تقتضي ان نذهب إليها.
عندما دعانا مامون لحضور مأدبة الأقاشي على شرف جاليلو، القادم من أمريكا، ازداد حرصنا على الحضور، ليس بسبب الأقاشي، الذي وإن كان يسيل له اللعاب فإنه يأتي في الدرجة الثانية بعد عصيدة لمياء؛ وإنما بسبب جاليلو.
إن الطالب عادل عبد الجليل (جاليلو) هو أحد مؤسسي حركة الطلاب المحايدين بجامعة الخرطوم في منتصف الثمانينات، والسكرتير العام لأول رابطة أكاديمية يسيطر عليها المحايدون، ألا وهي رابطة طلاب كلية الاقتصاد، وهذه قصة طويلة لم تُحك بعد.
عند حدوث انقلاب الجبهة الاسلامية القومية صبيحة الجمعة 30 يونيو 1989م، كان جاليلو بالجزيرة، وسرعان ما عاد ليشارك في اجتماع جمعية العلوم السياسية الطلابية بجامعة الخرطوم، والتي كان نائبا لرئيسها. وقد كان رئيسها أحد أعضاء حركة الحياد - أيضاً - محمد اسماعيل يوسف (البروف)، ولا غرو في ذلك فقد كانت الغلبة للمحايدين، وتضم الجمعية اثنان من الجبهة الديمقراطية.
تلكّأ العديد من السياسيين، غير المبدئيين، وتأخروا عن تحديد موقفهم من الانقلاب، في انتظار أن يتأكدوا من هُوية الانقلابيين. بَيْد أن اجتماع جمعية العلوم السياسية الذي انعقد يوم السبت 1 يوليو 1989م، أي بعد يوم واحد من الانقلاب المشؤوم، قرر إصدار بيان يدين فيه الانقلاب باعتباره تقويض للنظام الدستوري ووأد للديمقراطية وردة عن انتفاضة أبريل 1985م، ويطالب جماهير الشعب السوداني بمقاومة الانقلاب.
وفي ظهيرة اليوم التالي 2 يوليو كان البيان ينتشر في شوارع الخرطوم. إن هذا البيان هو الأول الذي تصدره اية جهة في السودان - على طول البلاد وعرضها - ضد انقلاب الجبهة الإسلامية القومية. لم يكن جاليلو من كاتبي البيان فحسب، بل ومن موزعيه في شارع الجمهورية.
إنني فخور بمعرفة جاليلو ورفاقه وجمعيتهم، الذين قالوا لا في وجه من قالوا نعم، وفي وجه من تلكأوا وترددوا لحظة كان الصدع بالموقف هو الضرورة. لو لم يفعل جاليلو ورفاقه سوى هذا، لوجب علينا تكريمهم والاحتفاء بهم.
لذلك حرصنا كل الحرص على حضور المأدبة التي نظمها مأمون في منزله الكائن بمدينة النيل بامدرمان احتفاء بكبيرنا جاليلو.
لم يكن جاليلو هو الوحيد الذي شاركت في الاحتفاء به في ذاك المنزل، وإنما احتفينا ايضا بأمل كاهن، والدكتور محمد إسماعيل، وحاتم عبد الفتاح، كل على حدة. تمت كل هذه اللقاءات في حديقة البيت ذات النجيلة الخضراء اليانعة.
ألا تزال تلك النجيلة بخضرتها تلك، أم أصابها الاصفرار وطالها الذبول في ظل الدمار الكبير الذي حاق بالبلاد؟
***
إن الجيل الرائد لحركة الحياد 1985 الى 1990م هو الجيل الذي ازاح الأحزاب السياسية، لا سيما الحركة الإسلامية، من الروابط الأكاديمية بجامعة الخرطوم ديمقراطيا وبالتدريج، حتى سيطر على الروابط جميعا، وشكّل تجمع الروابط الاكاديمية. وقد مارس هذا الجيل العمل المؤسسي الديمقراطي عبر العمل في هذه الروابط وجمعيات الشُعَب التي تجري انتخاباتها سنويا. وتُوّج ذلك بتسنم المحايدين لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم في العام 1990م بقيادة حاتم المهدي وأسامة محمد إدريس، ليدخل الاتحاد في صدام مباشر مع نظام الإنقاذ الذي شرع في تصفية السكن والإعاشة للطلاب، وتصفية أساتذة الجامعة بفصلهم عن العمل. كان نظام الانقاذ مكشرا عن أنيابه ليثبّت ديكتاتوريته الوليدة، لذلك كانت الفترة من ديسمبر 1989 الى 1991 الاكثر دموية فقد اغتال نظام الانقاذ الطالب بشير محمد الطيب، الذي لا ينتمي الى اي تنظيم، بخنجر كادر الحركة الإسلامية فيصل حسن عمر في 6 ديسمبر 1989م، فثارت الجامعة لتردي أجهزة الإنقاذ الأمنية الطالبة التاية أبو عاقلة، التي تنتمي إلى حركة الطلاب المحايدين، قتيلة، واغتالت الطالب سليم أبوبكر ممثل حركة الحياد في رابطة طلاب كلية الآداب.
واغتال جهاز الأمن الطالب طارق محمد ابراهيم في شارع النشاط في العام 1991، ثم حلت السلطات الاتحاد المنتخب والروابط، وتم تجميد النشاط.
نشا الجيل الثاني، جيل التسعينات، ابتداء من العام 1991، الذي لم ينتخب أحداً، نشأ في ظل هذه الأجواء الصدامية الدامية، فتركّزت خبرة هذا الجيل في العمل المقاوم، ولكنه افتقر لخبرة العمل المؤسسي الديمقراطي في ظل غياب الروابط والجمعيات والأكاديمية.
تأسست حركة الحياد في جامعة جوبا في مطلع التسعينات على يد خالد بتيخ ومبارك إبراهيم وعثمان جاد الله وآخرين.
ولما دخلت لمياء أبو سن، القادمة من الجزيرة، الجامعة، انضمت لحركة الحياد، وأضحت كادرا خطابياً مقاوما لنظام الإنقاذ، إلى أن تخرجت وعملت في مهنة المحاماة.
لكن السياسة والخطابة والمحاماة لم تُنس لمياء إجادة صناعة العصيدة. والغريب في الأمر أن رفيق دربها خالد بتيخ لا يحب العصيدة، ولله في خلقه شؤون.
***
للعم عوض شرف الدين، والد أخونا مجاهد، مواقف ونفحات.
كانت أطباق الباسطة تأتينا في المقر مرارا وتكرارا، فقد اشتهر العم عوض بمحل لصناعتها منذ عهد بعيد. ولمّا كانت الباسطة لذيذة والبساط أحمدي، فإنّ بعضنا لم يكن يتورّع في طلبها فتاتينا مجانا، ومحل ما يسري يمري.
أفنى العم عوض عمره في خدمة مواطني الجريف وحفظ حقوقهم، إذ أن الأحياء الراقية في الخرطوم نمت على حساب أراضيهم التي ورثوها كابرا عن كابر. وصاروا وهم في قلب العاصمة يعانون من التهميش المقيم. وقد توغلتُ في شوارعها الرديئة، عندما ذهبنا لتشييع بعض شهداء الجريف غرب، الذين ارتقوا بعد بطولات ومآثر في ثنايا ثورة ديسمبر، التي لم يعطلها انقلاب، ولن توقفها الحرب الدائرة (مافي حرب بتوقف ثورة).
لم تكتحل عيناي برؤية العم عوض، ولن تكتحل، إذ أنه استشهد إثر سقوط دانة على منزله في ديسمبر الماضي.
رفض العم عوض الخروج من داره، ولعل السبب هو أن كبار السن غالبا ما يرفضون المغادرة، وفضلا عن ذلك فإن العم عوض لم يخرج لأن الجريف هي مسقط رأسه، وهي أرض أجداد أجداده، كما أنه لا يملك شبراً من أرض هذا السودان الواسع، إلا ما ورثه عن أبيه في الجريف.
لن تكتحل عيناي برؤية العم عوض، لأقول له شكرا على الباسطة. وإذا قدر الله ان جمعنا به في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وقلت له: شكرا، بأثر رجعي، سيرد العم عوض قائلا: (والله غير الواجب ما عملنا حاجة)!
إما فيما يخص مجاهد فإن هذا الشبل من ذاك الاسد.
***
امتطينا بوكس عمار دوبا الجديد، الدبل كابينة ذي الدفع الرباعي، في رمضان الأخير لتلبية دعوة إفطار لجان مقاومة الديوم الشرقية بباشدار، وشاركنا في إفطار 6 أبريل بشارع المطار كما حضرنا إفطار كلنا معاكم بميدان الأهلية بأمدرمان.
تتميز إفطارات لجان المقاومة بأنك لا تبلل ريقك بالمشروبات الباردة فحسب، بل وتفك الريق هتاف.
لقد جاب بنا بوكس عمار مدن الخرطوم الثلاث على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، للمشاركة في ندوة، لحضور اجتماع، للمشاركة في موكب، لتأدية مناسبة اجتماعية.. الخ
جلبت لنا سيارة عمار الفطور، وكانت تستخدم في إعداد كيس الصائم للمحتاجين، وكانت تسقي العطشى في المواكب، كانت سيارة نعمة ..
تدي للعطشان جقيمة
وتدي للجيعان لقيمة
وتكسي في الماشين عرايا
وفوقا يتقطع هديمة
لكن أبى الأشاوس إلا أن ينهبوا تلك النعمة، وربما ربطوا عليها ماسورة دوشكا ليصدر منها الموت بعد أن كانت منبع الحياة.
***
كانت السيارة الثانية التي نعتمد عليها في حركتنا هي سيارة احمد ابنعوف الباجيرو، والتي طافت بنا أرجاء الخرطوم للمواكب وللمناسبات المتعددة.
وهي ذات السيارة التي أوصل لنا بها يحيى ولد احمد ابنعوف الإفطار الذي صنعته والدته سارة بكار.
وكم رافقنا يحيى واخته مريم في المواكب والتي كنا نهتف فيها..
يا برهان جايينك جوة
نحن الشعب ونحن القوة
عندما هجمت علينا مصفّحات الجيش والشرطة فرَرْنا، والمواكب كر وفر، اتجهتْ نحونا المصفّحة وكان يحيى، بكل شجاعة ورشاقة، يقذف بحجارته تجاه سدنة البرهان، ولما صارت قاب قوسين أو أدنى، طلبت من يحيى أن يمضي ويتركنا، إذ أن عجلتي ليست لها السرعة الكافية، ولكنه لم يستجب بسهولة حتى ادركتنا المصفْحة، وصرنا في المسافة صفر كما يقول بواسل غزة في حربهم ضد الصهاينة، ولكننا خرجنا دون ان يضربوننا او يقبضوا علينا، أما البمبان فهو بخور التيمان!
امتطينا الباجيرو ذات مرة واتجهنا الى ولاية الجزيرة وكان مقصدنا قرية العقدة المغاربة مرافقين الدكتور خالد عثمان طه (خالد بتيخ) لتقديم ورشة عن الحكم المحلي لشباب القرية. كانت الآمال عِراضا بإعادة تأسيس الدولة السودانية وصناعة الدستور عبر المؤتمرات القاعدية، وبأن يحكم السودانيون أنفسهم بأنفسهم من خلال الديمقراطية التشاركية، المكملة للديمقراطية التعددية.
ومساهمة في إنجاح التحول المدني الديمقراطي وتأسيس الدولة نهبت بنا باجيرو أحمد ابنعوف الأرض نهبا، قبل أن ينهبها الأشاوس.
***
جراء الحرب نزحت صانعة العصيدة لمياء أبو سن وأولادها من الخرطوم إلى مسقط رأسها قرية المسيد بولاية الجزيرة، ثم نزحت مرة أخرى من ولاية الجزيرة إلى شرق السودان.
كل الذين ورد ذكرهم في هذه الكلمة - حفظهم الله ورحم من مات - عملوا بصدق لتحقيق التحول المدني الديمقراطي، ولكن رغم ذلك فإن جميعهم قد تم نهب منازلهم أو محال عملهم أو سيارتهم او تم التضييق عليهم، مما ادى الى نزوح ولجوء أكثرهم، وبقي بعضهم يكابد في مناطق الحرب. ورغم أن حركة بلدنا ظلت تنتقد تشوهات الدولة السودانية وتعمل على دعم التحول المدني الديمقراطي منذ أن أعلنت عن نفسها، ولكن الأشرار استباحوا دارها، في امتداد ناصر، ونهبوا ممتلكاتها.
***
في يوم السبت 15 أبريل 2023م حاولت المليشيا الانقضاض على السلطة والانفراد بها لمصلحة دول خارجية، ولما فشلت أشعلت حربا ادعت أنها تستهدف بها الفلول وتريد القضاء على دولة 56، فكان النهب والاغتصاب والقتل، وعجز الجيش عن حماية المواطنين.
في ذلك اليوم لزم الكثيرون بيوتهم اتقاء للرصاص. ولكن لم يستطع الرصاص أن يحول دون وصول عصيده لمياء إلينا في المقر، فمع غروب الشمس طرقتِ العصيدة الباب.
وكان آخر إفطار رمضاني لنا في الخرطوم في يوم الاثنين 17 أبريل، وكانت عصيدة ليمياء هي سيدة المائدة.
خرجنا انا ورامي من الخرطوم متجهين الى القضارف عصر الثلاثاء، رابع أيام الحرب، كانت الشوارع ساكنة وخالية من المارة. لم نر في طريقنا في شارع الستين سوى سيارة واحدة كان يقودها الجنجويد ويحملون على ظهريتها ماء أو عصيراً، مما قد يشير إلى أنهم صائمون!
كان تواجدهم كثيفا بسوبا، حيث عدد من الدبابات المعطلة في جانب الطريق، وكانت إحدى الدبابات تغلق شارع الأسفلت حتى منتصفه، مما يضطر السيارات المارة للخروج عن الشارع جزئيا حتى تستطيع العبور، ويبدو أنهم قد فعلوا ذلك عمدا ليجعلوا من الجميع شهودا على أنهم قد حققوا ثمة انتصار.
كانت حركة السير الخفيفة في اتجاه واحد خروجا من الخرطوم، والشوارع خالية وموحشة.
وفي ارتكازهم اللاحق الذي قوامه شخصين فقط أحدهما يحمل بندقية، تم تفتيشنا تفتيشا خفيفا وسمحوا لنا بالمرور. اشترينا جازاً من السوق السوداء بضعف ثمنه وواصلنا سيرنا في الدروب الشبحية.
عندما خرجنا من منطقة سيطرة الجنجويد، دبت الحياة في عروق البلاد، وكان المغرب قد أزف، وسرعان ما تصدى لنا بعض أهل الجزيرة وقطعوا علينا الطريق، لا لينهبوا، وإنما ليكرمونا ويزيلوا عطشنا ويسدوا جوعتنا!
وصلنا مدني وكان الليل قد أليل، فوضعنا عصا الترحال في قرية الدناقلة في منزل أهل صديقنا مجاهد حاكم، الذي نزح قبلنا، وأحسست أن كل بيت في القرية بيتنا..
في بلدي
حيث يُعزّ غريب الدار يُحبّ الضيف
ويُخص بآخر جرعة ماء عزّ الصيف
بعشا الأطفال
ببليل البشر والإيناس اذا ما رقّ الحال
ولم نشرب جرعة ماء الشاعر صلاح أحمد ابراهيم وحدها، بل شربنا الماء المُحلّى، ولم يكن الحال رقيقاً، والإيناس كان حاضرا. بتنا ليلتنا وتحركنا صباح الأربعاء إلى القضارف.
***
ها قد فرغت من كتابة هذا الكلمة في 13 رمضان 1445 (23 مارس 2024م) وكانت عصيدة لمياء التي تناولتها قبل نحو عام، تحديداً يوم الاثنين 17 أبريل 2023م، في مقر حركة بلدنا بامتداد ناصر، آخر عصيدة رمضانية أتناولها. إذ أنني لم اتناول عصيدة في رمضان الجاري، لأن الصحن الرئيس في بيتنا بالقضارف هو صحن القراصة.
كم أتوق لصحن العصيدة ذاك!
أتوق إلى عصيدة بوخها يلوي، وتجر معها خالد بتيخ، لتصلنا قبيل المغرب في امتداد ناصر بمدينة الخرطوم.

gafar.khidir70@gmail.com

 

آراء