خصوصية السرد في (هذه الضفاف تعرفني) بين الأنطولوجيا والإبستمولوجيا

 


 

 

(زغرودة في حوش أبّا الناير)
الجزء الثاني من ثلاثية (هذه الضفاف تعرفني) !

صدر هذا الشهر عن دار الأجنحة للطباعة والنشر رواية (زغرودة في حوش أبّا الناير).. وهي الجزء الثاني من ثلاثية (هذه الضفاف تعرفني) لفضيلي جمّاع.

كم منا ينظر الى واقع الحال بعد ثورة ديسمبر و لا تصدمه عبثية الحال وعشوائية ما يجري؟ يستوي في هذا الشعور السودانيون داخل و خارج البلاد. و هنا يبرز دور الفن و الرواية تحديداً للكشف عن أبعاد العبث والفوضي الضاربة في كل مجالات الحياة. وإذا كان أرسطو قد قد قال بوظيفة الرواية الاستشفائية فقد نتفق مع كونديرا بأنّ الرواية قطعاً تساعد القارئ على أن يكون له انطولوجيا تساعد على فهم ما يجري، واكتشاف عالم يتجاوز الحدود الجغرافية ، و الأحداث المتخيلة نحو أفق إنساني أرحب.
في حالة هي أشبه بكتاب بارمينيس عن الوجود في (انطولوجيا المكان و الزمان) يلتقي الراوي في الجزء الثاني من رواية "هذه الضفاف تعرفني" في وصف الطبيعة مع الناصر قريب الله. و كانما يتباريان في ترويج سياحي لبادية كردفان:
أي حظٍّ رُزقتِهِ في الكمالِ ** و احتوى سرَّه ضميرُ الرِّمالِ
فتناهَى إليكِ كلُّ جمالٍ ** قدْ تناهَى إليه كلُّ جمالِ
الاستهلال بابيات الفيتوري (في القسم الأول للرواية) و الاستهلال بالعودة للوطن وصوت المضيفة ينادي ليستفيق الرواي من ذكرياته عن نظام رائح ونظام غادي و نظام بعثرنا في كل وادي. و كل من ابواب الرواية يشى بالثورة. في اعتقادنا أنّ الراوي قد اختار العودة في اكتوبر موحياً بأنّ الثورة كانت في أمتنا Subliminal messageمنذ الازل لتنداح بعدها الرسائل المشفّرة
يشعر قارئ رواية (هذه الضفاف تعرفني) بدور ألقى على عاتقه لتبيّن الفواصل الزمنيّة والسردية من اتفاق..و اتساق.. وانغلاق.. واستباق: من يروي ؟ و من يرى؟ و هل للكاتب وجهة نظر فيما يروي من خلال التساؤلات التي يطرحها: "هل تحتاج قضية درافور لهذا العدد من الحركات المسلحة؟" و ما هو يا ترى نوع البحث الذي يعكف عليه فارس هذه المرة؟ و ما هي المناهج الابستمولوجية المخبّأة خلف ما يطرح من أسئلة مرسلاً الاشارات حول " العسس و الوجوه العابسات في المكان اينما تلقاك تسلبك الأمان". فكأنما بينه و بينها وشيجة ليست تعود.. وشيجة لا تستبين. و القارئ يحتمل الأذى.. فالسعي حتماً ليس سعي الصابرين.
أما الاختراق فهو حتماً في بعض تصوير الكاتب للشخصيات النسوية التي حاولت أن تؤسس لإنسانيّتِها من خلال صوتها هي. و ان تختار ما اختارته بلا وصاية؛ ليفاجأ القارئ بشخصيات فارقت الرواسب الزئبقية المعتمة، لتكسر التابوهات بكل جسارة، كما فعلت الشخصيات التي انعتقت من اسر النمطية في روايات فرجينيا وولف بدءً بسناء الفوراوية و فطين العسل. و كما أعادت الخالة البتول دور المرأة التاريخي في دارفور - ميارم البلاط السلطاني - و أوضاعهن المتميزة المتوافقة مع إرثها و ثقافتها ، بألقابها التي حدّث عنها شهداء على العصر من امثال البروفسور اوفاهي. هنا تجد " ايا كوري" الوالدة ذات النفوذ و" أيا باسي" - الأميرة شقيقة السلطان - ذات التاثير الأكبر من حيث المشاركة في الحكم و في المصير. أيضا مثل ما فعلت الأميرة "زمزم" شقيقة السلطان "ابو القاسم" مشاركة مصيره المحتوم. أو الأميرة تاجا وتحفيزها للسلطان علي دينار لمحاربة الإنجليز.
قد نقولها بملء الفم رداً على الرئيس الفرنسي الذي شبّه الثورة السودانية بالثورة الفرنسية: معذرة ماكرون فالثورة السودانية ليست كالفرنسية. فالنساء في بلادنا إستثناء. و لأنّ الثورة في البلاد بدأت من القاعدة و لم يتسنّ لها الحداة من أمثال جان جاك روسو فقد تميزت ، و كان لها ان تستمر بحداتها و ايقوناتها و خصوصية دور الكنداكة في ثورة ديسمبر. ثورة استمرت بشبابها واطفالها في المدن و في الريف. في الكراكير و في الحواكير ...الحالمين ..الآملين ان تصبح الرواكيب الصغيرة اكبر من مدن" لا يلهو بها "السلام" و يسخر.
و في لجان المقاومة. فهنها لك ان تسال جميلة مختار في (زغرودة في حوش أبا الناير):
كيف بالله احتملتي.. رجع وجهك في المرايا ..حيث تبدو الثورة انت"!
و لقارئ "هذه الضفاف تعرفني" ان يختار مفارقة ديستوفسكي بأنه بدلا عن أن ينقذ الرواية من الكاتب فإنّ عليه ان ينقذ الكاتب من الرواية. وأن يتوقع من الأحداث ما يجعل الطائر "جكة ود الميرم" يعلن خراب الديار. و يا له من خراب! و بمثل ما استهل الكاتب بطاغية الفيتورى فان الزغرودة في حوش ابا الناير ختاماً كأنما يريد الكاتب بها ان ينبه إلى أن الزغرودة هي الميقات الزماني لثورة ديسمبر ، معلنة بدء المواكب. و بذا يكون العنوان المحذوف في اخر أبواب الكتاب هو ايضاً للفيتوري "الغافل من ظن ان الأشياء هي الاشياء"!
على أمل...

eiman_hamza@hotmail.com

 

آراء