خواطر فى زمن “الطير الخدارى” فى الشخصية السودانية ما بعد الإنقاذ !

 


 

عدنان زاهر
11 June, 2022

 

2

فى الشخصية السودانية ما بعد الأنقاذ !


( كان الموقف زحمة، ركبت فى حافلة...كان فى حجة كبيرة كده واقفة قلت ليها ...أقعدي قعدت و أنا وقفت شماااعة.....السواق قال لى أنزل ما برفع شماعة....قلت ليهو ما بنزل.
الحاجة قالت لى أنزل ما تضيع و قتنا )
طرفة حايمة فى الواتساب
سألت نفسى وأنا أصدر هذا المقال الطرفة أعلاه ...هل يمكن أن يبدأ مقال يتناول موضوعا جادا بمثل تلك الطرفة ؟!!....قلت لنفسى لا يهم، طالما حاولت هذه الطرفة على أن تعكس و توصل الى ذهن المجموعة ما وصل اليه واقع الحال فيما يخص السلوك الأخلاقى و القيمى فى المجتمع و ما دام الأفراد هم،بشكل أو آخر مرآة للقيم السائدة و لمحيطهم الأجتماعى . بالطبع وارد أن تكون الطرفة غير حقيقة و المقصود فقط منها المزاح، و لكن حتى المزاح فى أحيان كثيرة يخاطب و يعكس تضجرا من سلوك جانح و مستهجن فى المجتمع.
ابتداءا و أنا أكتب هذا المقال تنتظم فى ذهنى عدة أشياء :
1- ان الدمار الذى أحدثته حكومة " الانقاذ " المتأسلمة ( الجبهة الأسلامية ) بالدولة و المجتمع السودانى كان دمارا شاملا و مقصودا، استهدف فى الأساس البنية الأقتصادية و الثقافية الفكرية للمجتمع السودانى طوال ثلاثين عاما من الحكم المطلق أحادى الجانب.
الدمار الأقتصادى المادى ظهرت أثاره بعد سنوات قصيرة من بداية حكمهم، أما الدمار المعنوى المتراكم عبر السنوات، فقد بدأت أثاره تظهر مؤخرا قبل و بعد الأطاحة بنظامها المهترئ.
2- فى هذا المقال يتم تناول الثقافة بمفهومها العريض الذى يشمل المفاهيم و الافكار الرؤى و الاخلاق و التقاليد التى تنظم حياة المجتمع و المتأثرة و المتجددة على الدوام، بالمتغيرات الأقتصادية،الاجتماعية و السياسية.
3- الملاحظات و الخواطر التى اقوم بتسجيلها فى هذا المقال توصلت اليها من خلال زياراتى المتعددة و المتكررة للسودان طيلة الأعوام الماضية، كما هى نتيجة لاهتمام خاص من جانبى يستهدف و يستنطق ،المتغيرات التى طرأت على الشخصية السودانية ابان سنوات حكم الجبهة الأسلامية للسودان. ( الأنقاذ )
4 - الخراب الممنهج الذى مارسته حكومة الأنقاذ و حلفائها من الأسلاميين و الأنتهازيين، شمل كل مدن السودان و قراها لذلك النماذج المذكورة فى هذا المقال قد تجد لها شبيها أو رديفا فى المجتمعات السودانية المختلفة و المتداخلة.
5 - الحروب التى أشعلتها سلطة الأنقاذ فى أرجاء السودان المختلفة و الفظائع و الأنتهاكات الجسيمة التى ارتكبتها فى مناطق الحروب خاصة اقليم دارفور، كان من نتائجها اهتراء نسيج كثير من المجتمعات و بالضرورة القيمى.
6- ابتعادا عن التعميم و تفاديا لعدم الوقوع فى فخ ظلم بعض شرائح المنظومة الاجتماعية، يلاحظ أن هنالك فئات بعينها أنحصر فيها بشكل مكثف السلوك السالب داخل المجتمع و منها طفح و أنتقلت عدواه و تسرب الى الشخصية السودانية...تلك الفئات هى :
أ- الفئات التى أرتبط نهوضها الأقتصادى و ثرائها الفاحش بمناهج " الأنقاذ " الفاسدة (الرأسمالية الطفيلية ).
ب- فقراء المدن الذين سحقتهم الحياة و ظلم الأنقاذ، و لم يجدوا طريقا للحياة و العيش غير التعامل بنفس منطق الانقاذ و سلوكها.
ج – فئات من الطبقة الوسطى التى عملت الرأسمالية الطفيلية على نسفها بابعادهم تعسفيا عن الكسب العام و الخاص و محاربتهم فى مصادر ارزاقهم.
د – جيوش من العطالى خاملى المواهب و منعدمى الضمير و القيم، الذين استخدمتهم الأنقاذ لادارة شئون الحكم.
مرتكز و منطلق أولى
هنالك عدد من الكتب و المقالات صدرت فى فترات مختلفة من تاريخ السودان تناولت ملامح الشخصية السودانية و بمناهج متعددة.........استعرضت فيها الضوابط و القيم و المؤثرات و المفاهيم التى ساهمت فى تشكيل السلوك الجمعى.
فى اعتقادى أن أهم الكتب التى تناولت مكونات الشخصية السودانية هو كتاب محمد المكى ابراهيم ( الفكر السودانى أصوله و تطوره )، د محمد أبو سليم فى كتابه ( فى الشخصية السودانية ) و الاستاذ محمد عوض عبوش فى كتابه ( قراءة فى سجل الثقافة السودانية و خطابها النهضوى ) الذى قدم سردا تاريخيا لتطور القيم فى الشخصية السودانية ودور الأعراف و التقاليد و الأديان فى تشكيل تلك القيم.
وفقا لاعتقادى و أنا أستعرض المتغيرات التى طالت الشخصية السودانية فى زمن الأنقاذ، انه من التعسف و الصعب اعطاء تقييم دقيق للتغيير الذى حدث للشخصية السودانية شرق،غربا و شمالا و سابقا جنوب السودان، لكن أزعم ان التغيير الذى حدث لانسان وسط السودان يمكن أن يكون نموذجا مصغرا غير مكتمل الجوانب لما حدث فى اماكن متباعدة فى هذا البلد واسع الأرجاء.

تداعى مستو
يجد الباحث عند قراءته عما كتب فى الشخصية السودانية أن هنالك أشياء متفق عليها بين الكتاب حول القيم التى تفرد بها الأنسان السودانى، بما في ذلك كتابات المستشرقين الأجانب الذين زاروا السودان فى حقب تاريحية مختلفة. كتب الأستاذ عبوش عن ذلك التفرد الآتى
( ميل فطرى للوداعة و التسامح و الصفح عن الزلات و السخاء و الكرم و السلم و النزوع لقول الحق و الصدق و العدل ). وأضاف البعض، لتلك القيم ( التسامح الدينى، التكافل و الروابط الأجتماعية، و من ثم الشجاعة ).
د ابو سليم تحدث عن احترام السودنيين للتقاليد المتوارثة و التمسك بها.
د يوسف فضل تكلم عن دور التصوف المتفرد فى نشر الدين الاسلامى لقرب المتصوفة من الواقع السودانى و مشاركة الناس فى حياتهم الأجتماعية، و كما هو متفق عليه أيضا دور الأديان بشكل عام فى تكوين الشخصية السودانية.
محمد المكى أبراهيم ( الفكر الأسلامى أصوله و تطوره ) كتب منتقدا الفكر الصوفى و تأثيره السلبى على الفرد السودانى (هو المسئول عن قلة أحتفال الفكر السودانى بالبحث العلمى،هو المسئول عن ظاهرة قصر النفس الكتابى و الخطابى لدى أجيال السودانيين، و هو المسئول عن ظاهرة السذاجة العاطفية التى تتجلى فى ضعف الأداة المنطقية و الميل الى تقرير الايمان بالرأى بدلا عن الأقناع به،كما أنه المسئول أيضا عن معظم مظاهر الحياة الأخلاقية كالقناعة و الزهد و العزوف عن طيبات العالم ...... و خلق لدى الفكر السودانى أستعدادا رومانتيكيا و عاطفيا لم يتخلص منه حتى اللحظة سوى قليل من المفكرين السودانيين و بالذات الذين تلقوا دراسات غربية المصادر ).
أضاف الكاتب عبوش بأن من السلبيات الأخرى التى بذرها الفكر الصوفى فى طريقة الحياة السودانية طبعه للعلاقات الأجتماعية بطابع الوساطة " الشفاعة " التى تفشت فى عصر الفونج و انتقلت بعد ذلك كممارسة فى الحياة العامة.
برغم أن مدارس التصوف الدينى الأسلامى قد لعبت دورا مهما فى انتشار الأسلام فى بقاع مختلفة من السودان لسلاسة طرحها، بعدها عن التعسف و نزوعها الى التسامح و الميل الى التصالح مع التقاليد و العادات السمحة، ألا انها من جانب آخر ساهمت فى تطبيع الشخصية السودانية بعدم الرغبة فى الطموح،التقليد و المحاكاة و النزوع الى القبول بالموجود، عزوفها من مباهج الحياة و انتماءها المعنوى الى ما بعد الحياة.

سلطة ( الأنقاذ ) المتأسلمة، كانت تعلم أن لا مكان لها فى التربة السودانية لمنهجها ذو التوجه الأوحد و القائم على اقصاء الآخر فى بلد متعدد الثقافات و الأعراق، غير اللجؤ الى التغيير الريدكالى للشخصية السودانية و نسف القيم السائدة.
من الجانب الآخر فأن النهج الرأسمالى الطفيلى الذى عملت به الأنقاذ و عمقته، كان له منطقه الخاص و افرازاته و قيمه التى تتعارض عما عرف فى المجتمع السودانى من قيم. استنادا على تلك الحيثيات و رغبة الأنقاذ فى التغيير السريع، فقد قامت بتعين على عثمان محمد طه و هو أكثر اعضاءها تشددا و مغالاة لادارة وزارة الشئون الاجتماعية التى وسع من اختصاصاتها لتشمل كل ما له علاقة ببناء المجتمع الثقافى.المنهج الذى اتبعته الأنقاذ للتغيير أشتمل على شيئين....العنف الثقافى الدينى و العنف البدنى مع الكذب المتواصل ( منهج نازى )، و الفتاوى الدينية التى تبرر لذلك.
الانفلات الطفيلى الرأسمالى فى الأقتصاد و العنف الثقافى الدينى فى المجتمع، أدى الى بروز قيم جديدة تمجد و تتماشى مع المنهجيين، و تعمل بعنف و شراسة على وأد القديم من القيم و الأعراف و التقاليد السمحة.
نتيجة لكل لذلك فقد برزت و تمددت فى المجتمع، القيم التى تمجد اغتناء المال بشتى الطرق (خاصة غير القانونى و المتعارض مع الدين )، استشراء الفساد السرطانى بمختلف أشكاله، الكذب و النفاق ( تكسير التلج ) حتى صار الكذب جملة ثابته فى الحديث اليومى المتداول بين الناس، تأصلت العنصرية و القبلية و أصبح التفاخر بها علنا فى المجتمعات و الأعلام، اضمحلال التسامح واستفحال العنف المفرط غير المبرر، سيادة المظاهر الأستهلاكية الكاذبة " البوبار "، انتشار الدجل.. الشعوذة و الغش و الاحتيال، اندثار الكرم الذى هجمت عليه و تناوشته نبال الظروف الأقتصادية الشرسة فخنقته فبدأ فى التلاشى رويدا رويدا، الأعتداء على أموال الدولة و أراضيها، الترهل الأخلاقى الذى " يقدل " فى الشارع العام بلا حياء أو خشية من تقاليد أو قانون .
أدناه نماذج الصراع بين قيم " الدرداقات " الزاحفة و القيم الراسخة.....
1- الزيتونة
قال صديقى بأن أسرة تجاور منزلهم و تربط بينهم علاقة جيرة لعشرات السنين مرت بها ظروف صعبة بعد موت عائلهم الذى أحيل الى الصالح العام و تنقل بين مختلف المهن الهامشية لاعاشتهم. أضاف صديقى انه كان يرغب فى مساعدتهم بشتى الطرق لذلك عندما اتصل به صديقه الذى يعمل مديرا فى حدى الشركات شبه الحكومة و رغبتهم فى تعيين موظف بتخصص محدد ،و جدها فرصة لمساعدة الأسرة المنكوبة فقد كانت الأبنة الكبرى المتخرجه بامتياز تنطبق عليها كل المواصفات.أخبر صديقه أن لديه الشخص المطلوب و المؤهل و المحتاج لتلك الوظيفة.....طلب منه صديقه أن يحضر الأوراق. تصفح صديقه السيرة الذاتية للمتقدمة منبهرا بالنتائج و مادحا للتفوق، لكنه توقف فجأة و هو ينظر الى صورتها و قائلا " لكنها زيتونة "!!!... رفض الطلب.
2 - الموبايل
قال لى صديقى أن أحد اقربائه قد قام بشراء تلفون ( أيفون ) الموديل الأخير،فى احدى المرات عندما كان يحاول تغيير ملابسه سقط التلفون بقوة على أرضية الغرفة ( السراميك ) و تدحرج بعيدا....وقف قريبه مندهشا و مرعوبا و هو يردد ( يا رب كسر فى النخاع الشوكى و لا شاشة " الايفون " )....... لم تنكسر شاشة الموبايل و لم ينكسر نخاعه الشوكى !
3- بائع الكتب القديمة
جلست أمامه افاصل فى ثمن الكتب التى قمت باختيارها،كان الوقت رمضان و حرارة الجو تقارب الخمسين درجة مئوية فوق الصفر،فجأة شعرت بهبوط و ضعف عام لاحظه البائع فى تغيير نبرات صوتى.سألنى عن الحاصل قلت له قد يكون انخفاض فى السكر فقد مرت ساعات طويلة لم أشرب مياه و أنا مصاب بمرض السكر.
قال لى سوف أذهب و أحضر مياه لك، عندما حاولت اعطاءه نقود رفض بحزم و لكن فى أدب، كنت أعرف انه سوف يذهب بعيدا لأنه لا يوجد مكان لبيع المياه الغازية فى شارع القصر مع الجمهورية محل عرض كتبه، و عليه الذهاب للسوق العربى.مكثت زهاء العشرين دقيقة حارسا لمكتبته حتى عودته، عندما شربت الماء استرديت عافيتى.....شكرته كثيرا و اعطيته ثمن الكتب دون أى مفاصلة.
4 – الحلو - مر
" العازة " تعيل أسرة مكونه من خمس أطفال بعد هروب زوجها لثقل المسئولية، تم تطليقها بواسطة محكمة الأسرة بسبب الهجر. " تداغش " الحياة دون هيبة أو رهبة ....تبيع الشاى ....السندوتشات لطلبة المدارس.....العشاء....الملابس القديمة.... و كل عمل شريف يعطى بناتها و أولادها السترة و يكفيهم مذلة السؤال.....كانت فى غاية الأستقامة و الجدية لذى اكتسبت احترام الجميع.
فى احد المرات كانت لديها مشكلة صغيرة تتعلق بعقارها المملوك على الشيوع مع جارها...فساعدت على حلها، لم تلكلفنى شيئا و قد قامت بشكرى وقتها.
قبل دخول رمضان بيوم أتت الى منزلنا و هى تحمل لفافة ...تركتها على المائدة و هى تغادر ذاكره انها حاجات بسيطة لرمضان. حاولت اقناعها بانى لست محتاجا لها لأنى ليس صائما لمرضى ، بالاضافة الى أن كل اشياء رمضان قد تم توفيرها فى المنزل.لم استطع اقناعها.....عند ذهابها فتحت اللفافة... وجدت كيسين احدهما ملئ ب ( الحلو - مر ) و الآخر ب ( الرقاق ) الشهى!

هامش :
الدرداقة : عربة صغيرة كانت تستخدم فى السابق فى أماكن البناء لنقل المونة و الطوب.... قامت المحليات فى زمن " الانقاذ " بتأجيرها للموطنين بنظام يشابه " السخرة " لتستخدم فى نقل البضائع فى الأسواق و بيع الفواكه و الخضر !!


أواصل فى عرض نماذج من الصراع بين ثقافة " الدرداقات " و القيم الراسخة......


elsadati2008@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء