دهشة الخواجة من اجراءات محاكم الإدارة الاهلية وبعض العادات السودانية

 


 

 

العنوان الاصلي للمقال هو: (اجراءات المحكمة العربية والقوانين العرفية)، وقد نشر في مجلة السودان في رسائل ومدونات الصادرة عام 1936م، المجلد التاسع عشر، الجزء الاول، الصفحات من 158 الى 161.

مقدمة
تشير كلمة العرب حيثما وردت في المقال الى السودانيين بصفة عامة والى الخاضعين لسلطة نظام الإدارة الاهلية بصفة خاصة، بينما تشير كلمة العربي الى السوداني خصوصاً سكان القرى والبوادي. اما المحكمة العربية فالمقصود بها محكمة الإدارة الاهلية، أو أي محكمة لا تتبع النظام القضائي البريطاني.
الإدارة الأهلية في السودان موجودة منذ تاريخ بعيد في سلطنة الفونج وسلطنة دارفور، وهي اقرب الى الحكم الذاتي والذي تقوم فيه القبائل والكيانات المحلية بإدارة شؤونها الداخلية حسب الاعراف والتقاليد المتبعة لكل قبيلة، او لجماعة من الناس، بينما يكون للسلطة المركزية حق الاشراف عليها وتنظيمها بما يضمن هيبة الدولة وتقديم عدالة افضل.
والركائز الاساسية لحكم الإدارة الأهلية يقوم على الزعامات المحلية، وقد قام الحكم الاستعماري البريطاني بتنظيمها وفق تسلسل يأتي في قمته النظار، يليهم العُمد ثم شيوخ القري، وهذا الترتيب للمجتمعات المستقرة، وهناك ترتيب مقارب له للمجتمعات المترحلة. وقد تختلف مسميات عناصر هذه الإدارة بين المجموعات السكانية، فعند قبيلة الفور، توجد ألقاب الشرتاي والدملج والدمنقاوي والفرشة، وعند قبائل المساليت لقب السلطان.
وقد ابقت الإدارة البريطانية على كل هذه الانظمة القبلية، لأن هدفها الاستعماري الأخير هو فرض الاستقرار بغرض التفرغ للاستغلال الاقتصادي لموارد البلاد، وترك الناس يديرون شؤونهم بأنفسهم، مع يعينه ذلك من تقليل التكاليف الإدارية، وتقليل الكراهية للحكام، لأن من يفصل في قضية من القضايا هم من القبيلة او المنطقة نفسها، بينما تترك مهمة اصدار العفو أو تخفيف الحكم للبريطانيين كمرجع اخير، مع ما يعنيه ذلك من صدور نظرة الارتياح من جانب المواطنين للعدالة الاستعمارية.
هذا النظام اثبت فعاليته في بلد كالسودان يعج بمئات القبائل ولكنه ألغي عام 1970 م في المرحلة اليسارية من نظام مايو؛ بحجة انه نظام متخلف ولا يواكب العصر، وجرى استبداله بنظام الضباط الاداريين، مع انه كان بالإمكان تطويره واستبعاد عيوبه وتحسين أدائه.
المؤلفان: جيه ريد، واف ماكلارين.
جيه ايه ريد ( J. A. Reid ) اداري بريطاني عمل في الإدارة السياسية للسودان (الإدارة البريطانية)، وشغل منصب المدير المكلف لمديرية النيل الازرق في مطلع الثلاثينات، وقد كتب العديد من المقالات التي نشرت في مجلة السودان في رسائل ومدونات ومجلات انجليزية اخرى.
جيه، اف، بي ماكلارين ( J. F.P. Maclaren ): إداري بريطاني عمل في الإدارة السياسية للسودان.
كل ما وضع بين الاقواس داخل المقال من اضافات المترجم بغرض تقديم مزيد من الشرح للكلمات او العبارات التي ربما تحتاج لبعض التوضيح. والآن الى ترجمة المقال.

اجراءات المحكمة العربية والقوانين العرفية
الاجراءات
عندما يتقدم الشاكي الى مجلس العرب او محكمة الادارة الاهلية، فإنه يُطلب منه اولاً ان يقوم بتوضيح شكواه، ثم يجري استجوابه من قبل بعض اعضاء المحكمة، وهذا يتم دون أي اجراءات رسمية على الاطلاق، كما أن الاستجواب يكون بلا حلف اليمين، واذا كان هناك أمر غير واضح في دعواه يطلب منه احد اعضاء المحكمة ان يقدم تفسيراً له.
بناءً على ذلك وبافتراض ان لديه قضية سليمة من الناحية الشكلية، فانه يُعطى طلب حضور للمدعى عليه (خصمه)، كما يٌطلب من الشاكي في الوقت نفسه ان يُحضر شهوده معه، ان كان لديه شهود، او كان هناك ثمة ضرورة لوجود شهود.
عند حضور المدعى عليه (الخصم) يجرى سؤاله من قبل المحكمة ان كان يقر بالدعوى او الاتهام الموجه له، فان اقر؛ تنتقل المحكمة الى تقدير التعويض او تقرير العقوبة المناسبة.
اما إن انكر، فسيكون امام المحكمة ضرورة الوصول لاستنتاجات مستخرجة من وقائع القضية. هنا وعند هذه النقطة بالتحديد تبدأ اجراءاتهم (محكمة الإدارة الأهلية) في الافتراق بصورة جذرية عن اجراءاتنا (النظام القضائي البريطاني). فلدينا سيتم النظر في الدعوى وتقديم البينات تحت طائلة حلف اليمين الذي يؤديه الطرفان. (تقديم البينة تحت طائلة حلف اليمين تترتب عليه عواقب قانونية في حال الادلاء بمعلومات كاذبة).
اما العربي فلا يفعل ذلك ابداً، لأن فكرة مثل هذه (أي تقديم البينة تحت طائلة اليمين) تعتبر من الامور المحرجة جداً له، والسبب كما اعتقد هو أنه هذا الاجراء يعني لديه في الواقع؛ أن أحد ما (قد يكون هو)؛ سيكون مجبراً على الادلاء بشهادة الزور بدافع الولاء لجماعته او لمن يناصره.
لذا عندما يقع أي نزاع؛ فان المحكمة العربية تسأل المدعي (الشاكي) إن كان لديه شهود، فلو اجاب بنعم فان المحكمة ستسمع منهم بدون أداء اليمين، اما ان كان المتهم او المدعى عليه - حيث أن العرب لا يفرقون بين القضايا المدنية والجنائية - ليس لديه شهود؛ فان المدعي يكسب القضية في هذه الحالة.
لكن من حق المتهم طلب حلف اليمين من الشهود لإثبات حجتهم، اما ان كان الشاكي ليس له شهود؛ والمدعى عليه لديه شهود؛ فالعكس هو الصحيح حسب القاعدة نفسها، ولو حدث وكان لكل طرف ادلته؛ وادلة الطرفين متناقضة، فسيكون محور اهتمام المحكمة هو الوصول لقرار لتحديد الطرف الذي سيكون مطلوباً منه أداء اليمين.
أحياناً قد تكون هذه النقطة هي اصعب نقطة للوصول إلى قرار بشأنها، ولكن ما استطيع قوله من ملاحظاتي؛ فان الطرف الذي ستسمح له المحكمة بحلف اليمين هو الطرف الذي تميل المحكمة للاعتقاد بأنه من المحتمل جداً بأن يكون محقاً.
وهناك سببان لذلك: اولهما منع شهادة الزور بحد ذاتها، والثاني هو حماية من هم على حق من انتزاع حقوقهم بواسطة طرف غير نزيه من المتقاضين، واعتقد أن السبب الاول مرجح على الثاني في كثير من المحاكم.
بمجرد اتخاذ المحكمة لقرار من الذي ستسمح له بحلف اليمين؛ فان القضية تكون قد حسمت بصورة عملية، حيث ان النتائج المترتبة على الحلف او الامتناع عنه تكون مقررة قبل الدخول في اليمين. ولا يوجد استئناف ضد الحكم، بشرط ان تكون الاجراءات تمت بالصورة الصحيحة.
سينظر الناس لحكم المحكمة (الصادر تحت حلف اليمين)، باعتباره وبدون ادنى شك محمي بالعقوبات الالهية، اما لو صدر الحكم وهو مبني على شهادة زور، فليس بالطبع من الحكمة للشخص للمزور ان يكون في حالة انتظار مفتوح لغضب الله والذي من المؤكد انه سيطاله.
اما الحالة التي لا يتمكن فيها طرفا القضية من احضار أي شهود فلن تكون مختلفة من حيث المبدأ عما سبق ذكره، عدا ان المدعى عليه -كما اعتقد – هو من سيسمح له عادة في قضايا مثل هذه بان يقوم بحلف اليمين، واظن ان شعور المحكمة هنا هو ان حلف اليمين من قبل شخص مفرد؛ وهو المدعي؛ ليس كافياً لأثبات التهمة او البرهنة على وجود دين مالي على المدعى عليه، بينما اداء اليمين من جانب المدعى عليه كافٍ ليبرئ نفسه.
ويمكن ملاحظة أن الاحكام في المحكمة العربية تصدر اما عن طريق البينات او حلف اليمين، مع العلم بان حلف اليمين من جانب احد الاطراف في بعض القضايا سيضاف لصالحه باعتباره بينة من البينات، وهذا يختلف بصورة جذرية عن الاجراءات القضائية البريطانية.
إن المحاكمة باستخدام حلف اليمين هي في الجوهر محاكمة بالتعذيب أو محاكمة بالمحنة (اخضاع المتهم لتجربة قاسية)، فحلف اليمين (في المحكمة العربية) يعتبر من الامور الخطيرة التي يجب البُعد عنها، وان من يحلف سيعرض نفسه لعقوبة ربانية فيما لو اساء استخدام حلفه، و(لديهم) أن أي حلف بما في ذلك الحلف الصادق يعتبر شأناً جسيماً وينطوي على محاذير، فربما يرتكب من يحلف خطأ غير مقصود فيعرض نفسه او يعرض عائلته للغضب الالهي.
لذلك فان بسطاء الناس من العرب، والاتقياء منهم، لا يحلفون اليمين في توافه الامور، وغالباً ما تقوم المحكمة لهذا السبب بحث اطراف الدعوى للقبول بتسوية ما تؤدي "لرفع اليمين" تفادياً للحلف وحرج الدخول فيه.
بموجب هذا النوع من التسويات سيكون المدعي مجبراً في الغالب على القبول بنصف قيمة مطالبته، او سيقبل المدعى عليه بقبول دفع نصف قيمة المطالبة حتى وإن كان غير معترف بها من الاساس، وهذا يمثل صدمة للذهنية البريطانية باعتباره امراً غير عادل. لكنه اجراء متبع هنا بصورة عمومية ومبني على اسباب مفهومة تماماً كالتي سبق ذكرها.
لا تزال "المحاكمة بالتعذيب" بصورتها الحقيقية موجودة في بعض المناطق، وقد رأيتها تمارس في كردفان، حيث وافق رجل على اثبات براءته بان يلتقط ابرة من اناءٍ به سمن مغلي على الا تحترق يده. وقد قام بهذا العمل لإرضاء الاجاويد وتم تبرئته من التهمة فوراً. وفي قضية مشابهة ستقوم امرأة متهة بالزنا بالتقاط رأس فاس محماة من قلب النار وتقليبها في يديها، فلو احترقت يداها تكون مذنبة؛ والعكس صحيح. ولكن هذه الاساليب لم تعد مستخدمة الآن الا نادراً جداً.
صادفت قضية او قضيتين استخدم فيها الاسلوب الساكسوني القديم "التزكية"، والمزكي هو شخص غير ملم بوقائع القضية ولا يعتبر باي حال من الاحوال شاهداً، لكنه يؤدي اليمين باعتباره مزكياً للشاهد الذي استعان به.
على سبيل المثال في عام 1927م قام الكبابيش بالسطو على قطيع كامل من قطعان كواهلة ناس ود بلال، وقد جرى الاقرار بالسرقة لكن خلافاً برز على عدد المسروقات، هنا قال السير (الناظر) على التوم انه سيقبل حلف اليمين من مالك القطيع والرعاة؛ ومعهم عشرة اشخاص من عامة ناس ود بلال؛ على عدد مكونات القطيع المسروق واعمارها؛ على ان يكون الحلف في ام ضبان (ام ضوا بان).
اعترض الكواهلة على ذلك وقالوا ان من يعرف العدد الصحيح المسروق من القطيع واعماره هم مالك القطيع والرعاة، وانهم فقط من يجب عليه ان يحلف على صحة ذلك، اما العشرة من عامة الناس فيحلفون كمزكين لحلف المالك ورعاته، وقد قبل الناظر هذا الاعتراض. اما الذي حدث فعلاً فقد كان ابرام اتفاق بين الاطراف على عقد صلح "لرفع اليمين". خوفاً من مواجهة عواقب القوة الروحية لفكي ام ضبان.
القانون العرفي.
القانون او (العرف) المستخدم في المحاكم العربية يختلف في تفاصيله بصورة كبيرة من مكان لآخر، وليس من الممكن تقديم هذه التفاصيل إلا في مجلد صغير. وهو عمل لن يكون له أي اهمية كبيرة، لأنه من السهل معرفة العرف الذي يحكم اي حادثة، عندما تنشأ الحاجة له وقت وقوعها.
لكن الاهم من ذلك كله هو معرفة الاجراء أكثر من معرفة القانون نفسه "كما شرحنا ذلك في اعلاه"؛ لان الاجراء قد تخفى مقاصده بمهارة بحيث يتسبب في ظلم فادح، بينما من الصعب جداً تجاوز العرف الشائع والمعروف للجميع.
في الوقت نفسه هناك اعراف معينة متفق عليها تقريباً بين جميع القبائل العربية، ومنها على سبيل المثال "الدية" وما يترتب عليها من عقوبات واستخدامات مختلفة وكلها امور مقبولة في كل مكان.
وكذلك الاعراف المتعلقة بالضيافة والإيواء والتي لها قبول واسع من الجميع، وعلى سبيل المثال قد يجد احد القتلة مأوي عند شخص غريب، ومن ذلك ايضاً أن المسافر في الصحراء الموحشة لديه حقوق وامتيازات مؤكدة، منها اذا اصيبت راحلته ولم تعد قادرة على مواصلة الرحلة فان له الحق في ان يستولي على أي دابة تقابله في الطريق.
حتى المزارع عندما يبدأ حصاد زرعه في "البلاد" فانه يتمتم "بسم الله للغاشي والماشي"، والتي تعني ان أي عابر طريق له الحق في ان يأكل من المحصول حتى يشبع، واخيراً فان اعراف الزواج متشابهة في كل العالم العربي ولم تتغير الا تغيرات طفيفة منذ عهد النبوة.
القانون المطبق دائماً في مبادئه الجوهرية موجود في الشريعة؛ كما اعتقد، مع بعض الاضافات، وقد تنشأ تعديلات في بعض المناطق تفرضها الظروف المحلية او ميل العرب للوصول الى تسويات اكثر من ميلهم للحلول العنيفة، وهذه التعديلات التي تحدث إنما تحدث نتيجة لضرورة ملحة للغاية.
الكبابيش على سبيل المثال ومعهم بدو آخرين يبتعدون عن الشريعة بصورة صارخة عندما يتعلق الأمر بالتوريث، وذلك عبر قيامهم بحرمان الابنة بصورة عملية من حصتها في قطيع والدها المتوفي، وهو مثال واضح لتنحية الشريعة جانباً من اجل حماية الدافع المتمثل في الحفاظ على قوة القبيلة، لأن الفتاة قد تتزوج خارج قبيلتها وتأخذ معها جزءاً من ثروة القبيلة، وهذا شيء لا أحد يرغب في رؤيته يحدث.
الاضافات بالطبع لا تعد ولا تحصى، وتشمل كل وجه من وجوه نشاطات الرعاة والمزارعين. ومن النادر جداً ان تجد أي تعامل بين شخص وآخر لا ينضوي تحت راية عرف من الاعراف محدد بدقة.
اما فيما يتعلق بالحالات الجنائية فان العرب ينظرون لكل حالات الاعتداء من شخص على شخص آخر باعتبارها نوع من الضرر اكثر من كونها جريمة. والجريمة الوحيدة في نظرهم هي ما يكون ضد "السلطة" مثل عصيان الشيخ، او رفض دفع الضرائب، او ما في حكم ذلك. لكن بعض معتادي الاجرام ان زاد نشاطهم وتحولوا الى خطر عام او ازعاج مستمر للناس فسيصنفون باعتبارهم مجرمين.
على سبيل المثال؛ فلو قمت بسرقة جملك فان العربي سينظر الموضوع وبكل قناعة ان ذلك شأن يجب تسويته بالمال بيني وبينك. لكني لو قمت بتوسيع نطاق السرقات يمنة ويسرة بحيث لا يحس أي شخص بالأمان من اعمال السلب والنهب التي اقوم بها، سأشكل في هذه الحالة خطراً عاماً ويتم التعامل معي جنائياً من قبل السلطات.
لا يوجد قانون جنائي خلاف الشريعة؛ والكثير من عقوباتها لم تعد مطبقة لعدم رضاء الحكومة عنها، ونشأت في محلها عقوبات متفاوتة في شدتها كعقوبات كالسجن والغرامة، وهي مبنية على اجراءات المحاكم البريطانية في السودان؛ والتي تعود الناس عليها لثلاثين سنة.
لكن في حالات التسبب في الاذى فان هناك تقديرات معروفة لحجم الضرر في معظم المناطق، وهي مبنية في الحالات الخطيرة على تقييم للإنسان (على اساس الدية)، وتختلف من مكان لآخر، فبعض حالات الضرر تحسب "نصف رجل" مثل فقدان عين او طرف من الاطراف، وهناك حالات تقدر "بربع رجل"..الخ، اما الاضرار الطفيفة فيتم تقييمها نقداً.

nakhla@hotmail.com

 

آراء